ستون عاما من البحث المضني عن النغمة المنشودة والإيقاع الخاص، قضاها الروائي والناقد المغربي محمد برادة متنقلا بين فنون الأدب، منذ أبدع أولى قصصه القصيرة في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي.
وعلى مدى هذه الرحلة، راكم المبدع المغربي منجزا أدبيا كان، (...)
من خلف الزجاج، بدت الساحة المقابلة كأي ملاذ صغير يكتظ بالهاربين من قيظ المدينة. كان سفيان، الشاب الثلاثيني الذي قادته ضرورات العمل إلى وجدة، يراقب من مقهاه الأثير حركة الأقدام السائرة على شارع محمد الخامس. ينعطف عشاق الأماسي الوجدية على اليمين نحو (...)
اعتادت السيدة سعاد، وهي امرأة خمسينية من منطقة زكزل في ضواحي بركان، أن تستيقظ مع تباشير الصباح الأولى كل يوم. وكشأن نساء القرى النشيطات، تنهي مشاغل البيت ثم تشمر عن ساعد الجد نحو عملها الآخر، الشاق والممتع في آن.
بحنو واضح، تمسح على رأس عجل صغير (...)
ستون عاما من البحث المضني عن النغمة المنشودة والإيقاع الخاص، قضاها الروائي والناقد المغربي محمد برادة متنقلا بين فنون الأدب، منذ أبدع أولى قصصه القصيرة في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي.
وعلى مدى هذه الرحلة، راكم المبدع المغربي منجزا أدبيا كان على (...)
لهذه البلدة قصة جديرة بأن تروى. في تفاصيل الأزقة العتيقة، ذكريات تقاوم النسيان. تعبق الأمكنة الممتدة على مدى البصر بأريج التاريخ. لا شيء يفلت في هذه الربوع من مشاعر الألفة التي تجتاح الزائر والعابر والمستكشف.
وحين يطل السائح على الهضبة، حيث تقيم (...)
في مدينة الشعراء، تنبت القصائد على أطراف الألسن ثم تنمو وتزهر، تماما مثل النوار النابت على تخوم غابة سيدي معافة. وكشأن الحياة في انسيابها العفوي، تتدفق وجدة قصائد يبدعها شعراء ينأون عن المألوف.
وتقفز هذه التجارب على مزالق العبارة الجوفاء ومطبات (...)
كان سمعه يضعف بشكل رهيب. الأصوات الحادة تجتاح أذنيه كأنها طنينٌ هادر، فينكمش في عزلته ويتفادى الحديث إلى الناس، إذ لا يسمع سوى بقايا حروف مختلطة وبعيدة. ولعله بدا للناس – في بعض الأحيان – شديد الاعتداد بنفسه؛ ولكن صاحبنا لا يسمع الموسيقى التي يؤلف.. (...)
جلس العشرات مشدوهين في "غراند كافيه" بباريس يرتقبون وصول القطار، الذي بدا صغير الحجم ثم صار يدنو حتى تضخم واحتل الشاشة كأي قطار حقيقي قادم.
كان المشهد، الذي لم يتعد دقيقة واحدة، مثار إعجاب ورهبة في الآن ذاته.. نحن – الآن – في ديسمبر من العام 1895 (...)
الريشة تداعب الوتر. وينبعث العود من رماد النغمات الساكتة كأبهى ما يكون العزف المنفرد. ثم تنهال التصفيقات على العازف المبدع. وفي موقف نادر، نسمع السيدة أم كلثوم وهي تضحك. ثم تمضي الأغنية على إيقاعها المرسوم. وإنه ليجلس خلف السيدة كما اعتاد خلال أربعة (...)
جمعتُ هذه الشذرات عفو الخاطر، وفيها مشاهد عابرة من بعض مكتوباتي. وإنما أكتب - في الغالب الأعم – بلا افتعال، ولذلك لم أتكلف البحث الدقيق عن الأفضل والأجدى.. وهو – بالنهاية - محض تقاسم للكلمات وللمشاعر والأفكار:
اختلاف
لم أكن أُبدي التذمر أو الجزع، (...)
بآلته البدائية صنع أفلامه. وكان لديه ما يشبه مسرح الدمى في البيت. أما المونتاج فلا يحتاج سوى إلى قصِّ الأفلام وإعادة تركيبها لصناعة أفلام جديدة. ثم إن لديه جهاز تلفزيون وأشياء أخرى تؤنس وحشة المكوث طويلا على فراش المرض. وليس أوقع في القلوب من حال (...)
إنه مجرد أنبوب فارغ.. قصبة مجوفة ومثقوبة.. قطعة أسطوانية، مفتوحة على طرفيها.. إذا رأيته لم يَلْفِتك بشيء، فإنما هو خشب كأي خشب. ولكن معاني الأشياء تكمن خلف مظاهرها. وإن الجمال ليرشح من ثقوب هذا التجويف العجيب حين تهتز الأنفاس العازفة - على إيقاع (...)
قال، وقد ارتسمت هالة من السكنية على عينيه، فبدا كأنه يلتحم بكلماته:
- هذا كيس، وفيه مائة بطاقة مكتوبة، تسع وتسعون عليها حرف "لا"، وواحدة فقط عليها حرف "نعم".. شُوف يا صديقي..انتبه، هذه قصة الحياة!
حركت رأسي كالمستاء، وعقبت:
- أنتبه..كأنني في فصل (...)
وقف عباس على المرتفع، وقد "كسا نفسه الريش على سَرَقٍ من حرير". وتطلعت الأعين إلى الرجل الطائر يفرد جناحيه للتحليق. ثم كانت المفاجأة! فقد طار ابن فرناس مسافة بعيدة قبل أن يقع على ظهره عند الهبوط. ولك أن تتخيل المشهد في القرن التاسع الميلادي بقرطبة؛ (...)
أقف عند الباب هنيهة..وكأن السائرين في عيني أشباح مظلمة. ثم أمعن النظر في الشارع الممتد فإذا الضوء الخافت كراتٍ بلورية تتراقص. ويحتدُّ بصري باحثا عن المسلك إلى بيتي، فأحث الخطى خارجا من صالة السينما بعد ساعتين في القاعة المظلمة.
وإنه لشعور بالامتلاء (...)
أعرفني عاشقا للمسرح منذ طفولتي. وإنما ولد هذا الشغف خيالاتٍ في الكتب قبل أن يستحيل عروضاً على الخشبة. ولعل المكتوبَ يفوقُ المرئي سحرا، وإن كان لكل منهما شروطه وأدواته وتقنياته. ولكنَّ ما يقع تحت البصر-على المسرح أو في الشاشة–يقيِّد حركة العين ويمنع (...)
أرتشف قهوتي وأحملق في الشاشة. لا شيء سوى البياض: على الآلة قبالتي وداخل رأسي أيضا. وأرنو إلى السقف بعين تائهة ثم أطرق برأسي، وإذا لغتي قد خلت من الكلمات كأنها أعجاز نخل خاوية. وإن جلستي لتستطيل حتى إذا حركت قدميّ شعرت بأسراب النمل تحت جلدي.
ثم يقول (...)
لعله تردد قليلا قبل أن يتوقف. وربما اجتاحته المخاوف من كل جانب. ولكنه عَلِم أنْ لا مفر من الانقطاع نهائيا عن متابعة الدراسة. لم يكن ثمة من خيارٍ غير تقبل الوضع الجديد والبحث عن منافذ ضوء في الأفق المسدود.. وقد نام صاحبنا على أرضية غرف أصدقائه وباع (...)
أمسية صيفية ملونة، أشعر كأنها بالأمس. تلتفُّ الجارات حول مائدة صغيرة، وينطلق الصبية إلى مرابع اللهو واللعب. وإنا لنسمع أصوات أمهاتنا غير بعيد. حتى إذا اشتد اللغط والتدافع بيننا، علت أياديهن متوعدة. ثم صاحت الأمهات – من غير اتفاق غالبا – بالجملة (...)
في عمق المشهد قطعة طباشير محشورة بين أصبعين في قدم كريستي. نحن الآن في بيت براون الذي يتصدر المشهد موليا ظهره إلى الكاميرا؛ أما أولاده فيراجعون دروسهم على طاولة مستديرة. وحده كريستي في الركن الأيمن تتصاعد أنفاسه..
في لحظة، زحف الطفل على جانبه الأيسر (...)
مرّ بأنامله وادعة ورشيقة على مفاتيح البيانو، ومال برأسه على الكتف الأيمن يستحثُّ الإلهام، ثم شخص بصره – كأنه يفقد الوعي – وتحرك حاجباه على الإيقاع صعودا وهبوطا، وامتدت أيدينا نحو الآلة الموسيقية تريد التجريب؛ ولكنه أبى، فحمل آلته في يده، ومضى (...)
تنحرف الستائر تحت يديه فتنكشف دفة النافذة، ثم يَفتَح المصراعين على الشارع.. أصوات الجلبة تدخل غرفتي، وإذا هي هدير سيارات وكلمات متناثرة تقع في سمعي. وحين أرفع بصري إلى الساعة الحائطية قبالتي، أجدها تؤشر على الزمن الذي لا يتبدل:
- السادسة صباحا!
صباح (...)
ريشة تسبح في الهواء ترافقها معزوفة بيانو. في البداية نتابع الريشة في الأفق البعيد حيث السماء والغيوم، ثم يتكشف المشهد عن معالم مدينة. وتبدو حركة الريشة المتموجة مربكة إلى حد ما، فنحن لا نعرف إلى أين تتجه.. وعلى الشارع، في عمق المشهد-بل على هامشه-نرى (...)
امتدت يدي إلى الرف تبحث عن عنوان جديد، فتشممت العطر النافر من الكتب. وإنه ليبعث في ذهني نشوة أشبه بالخدر اللذيذ. وطافت عيناي أرجاء المكتبة الواسعة حتى أعياها الطواف. ثم بدا لي أن أقف قبالة مصفوفة كتب متوسطة الحجم.. وقرأت على غلاف الكتاب: توفيق (...)
في الصفحات العشر الأولى يتحدد مصير الرواية، فإذا نجح الكاتب في شدك إلى وريقاته الأولى فإنما هو الروائي حقا. وهذه مهمة غير يسيرة، فإن بداية الرواية تخلو من التشويق، بل هي تؤسس له وتعد عدته، وفيها يصنع الكاتب خيوط الأحداث ويشرع في النسيج وفق طابع (...)