في الصفحات العشر الأولى يتحدد مصير الرواية، فإذا نجح الكاتب في شدك إلى وريقاته الأولى فإنما هو الروائي حقا. وهذه مهمة غير يسيرة، فإن بداية الرواية تخلو من التشويق، بل هي تؤسس له وتعد عدته، وفيها يصنع الكاتب خيوط الأحداث ويشرع في النسيج وفق طابع تصاعدي يصل إلى أقاصيه التشويقية في ما يأتي من الصفحات. وبذلك، قد تبدو الصفحات الأولى مدعاة للسآمة والملل. وهذا مطبٌّ تسقط فيه العديد من الروايات. وإنما يقود إليه ذلك الإكراه التقني الضاغط الذي تحدثت عنه. لكن الروائيين الملهمين يحسنون تجنب هذه المزالق. وفيهم من تأسرك روحه المنطلقة بين السطور، قبل أي أحداث ولا شخصيات. ومنهم من يستحوذ عليك منذ الصفحة الأولى. ولئن كان مطلوبا من الرواية أن تستقل عن كاتبها، فإن شيئا منه يسوقك -منذ العبارة الأولى-على مدى أحداث الرواية وصفحاتها. وفي الروايات الناجحة مستويات متراكبة من التشويق. وإنَّ تداعي الأحداث يلقي في روعك أن شيئا ما سيقع في القريب المنظور. ثم تتشابك الرغبات والمطامح وتتكشف النفسيات مع توالي السرد، وإذا ما كنت تسارع الزمن لمعرفته ليس سوى نقيض ما سبقت إليه مخيلتك. وهذا ما يدعونه تخييب أفق انتظار المتلقي. وهي تقنية مثيرة ومشوقة تمتد عبر فنون الحكاية، بما فيها السينما. وقد كتب الروائي البيروفي الحاصل على جائزة نوبل، ماريو بارغاس يوسا، في رسائله "إلى روائي شاب"، كلاما نفسيا عما يسميه "المعلومة المخباة". وهي تعني الصمت، ببساطة. إن صمت الكاتب، في هذه الحالة، يثير شوق القارئ (ومنه انتزع التشويق كما ترى) إلى معرفة ما أغفل الكاتب الحديث عنه. إن المضمر يؤثر على الصريح في هذا النوع من الروايات، وهو ما يثير لدى القارئ مشاعر التساؤل والترقب والانتظار. وكم يكون جميلا لو خيب الروائي-في هذه أيضا-أفق الانتظار..! وقد يعمد الكاتب إلى حذف مشاهد تفصيلية-قد تبعث السآمة كما لا تدفع بأحداث القصة إلى مزيد من التفاعل-وربما عمد إلى تكثيفها أو الاكتفاء بالإشارة العابرة إليها. وإنما أعني أن يقفز الكاتب على تفصيلات يفترض أن القارئ يعرفها من سياق الحكاية. والحقيقة أنه اختيار فني متطلبات التصاعد الدرامي. وفي مشهد سينمائي على سبيل المثال، قد نشعر بنوع من السآمة (وهي نقيض الاستمتاع) إذا تابعنا شخصية تفتح باب شقتها.. وتنزل الأدراج.. وتتمشى عبر الشارع الطويل.. وتصل إلى مكان عملها.. وتدخل عبر البوابة الكبيرة.. وتصعد الأدراج.. وتصل إلى مكتبها.. وتفتح باب المكتب.. ولكن كم الإثارة و"التطهير النفسي"-بتعبير المسرحيين اليونان-سيكون مضاعفا إذا علمنا أن الدقائق التي قضينا نتابع هذه اللقطات إنما تعني امرأة في طريقها إلى توديع زملائها في العمل بعد أن قال الطبيب إن المرض الخبيث الذي أصابها لن يمهلها أكثر من أسبوع. قطعا، سنتابع اللقطات في البيت والشارع وعلى الأدرج.. بتعاطف كبير!.. إن في ذلك مكمن السر والسحر معا! ولحديثنا الفني بقية... [email protected]