ريشة تسبح في الهواء ترافقها معزوفة بيانو. في البداية نتابع الريشة في الأفق البعيد حيث السماء والغيوم، ثم يتكشف المشهد عن معالم مدينة. وتبدو حركة الريشة المتموجة مربكة إلى حد ما، فنحن لا نعرف إلى أين تتجه.. وعلى الشارع، في عمق المشهد-بل على هامشه-نرى فورست غامب على مقعده في انتظار الحافلة. وتسحبنا الموسيقى المرافقة إلى رجل يقف على قارعة الشارع –يحتل وسط الشاشة، لا هامشها–لكن الريشة لم تقف عند كتف الرجل بعد أن هم بالعبور..! وتواصل ريشتنا تموجها في الهواء، كأنها لا تريد أن تفصح عن وجهتها الأخيرة، ثم تتوقف فجأة بمحاذاة حذاء شخصية الفيلم فورست غامب (الحذاء يعلوه الوحل بالمناسبة). هذه التوليفة البسيطة-بادئ الرأي-صنعت مشهدا افتتاحيا باذخا لفيلم فورست غامب ذائع الصيت، الذي ما يزال يغري بالمشاهدة بعد ما يناهز ربع قرن على إنتاجه. وبصرف النظر عن الدلالة الرمزية والإيحائية القوية، فإن تكثيف قصة الفيلم في المشهد الأول، بهذه الطريقة الساحرة، يؤشر على رؤية إبداعية.. لنقل–ببساطة- إنها "تفكر من خارج الصندوق" ولا تركن إلى السهل والجاهز والمتداول! والحق أن تفرد هذا المشهد لا يكمن في "فكرة" الريشة السابحة في مهب الريح، ولكن في تحويل هذه الفكرة إلى مشهد سينمائي. وهنا مكمن الإبداعية؛ أي في عملية التحويل تلك. أما الأفكار فهي متاحة في كل مكان. إن الأمر أشبه بيد الساحر حين تحيل قطعة الثوب حمامة بيضاء! وغير خافٍ أن المُعوَّل في هذه اللعبة على خفة اليد، لا على قطعة الثوب! وكأني بكيمياء الإبداع تحول مكونات الأشياء وعناصرها–إذا مستها–إلى تحف فنية. وفي كيمياء هذا المشهد محفزٌ فاعلٌ هو الموسيقى. وتبدو حركة الريشة–رغم أنها تسير بغير اتجاه–منضبطة إلى الإيقاعات المصاحبة، في هارمونيا لا نشاز فيها صهرت الصورة والموسيقى في بوتقة واحدة. وشخصية الفيلم–التي أداها ببراعة خيالية الممثل الأمريكي توم هانكس-تجسيد للسذاجة الفطرية والبراءة الطفولية. وهو أقرب إلى الغباء بالمقياس العقلي، لأن معدل الذكاء عنده منخفض. ويزدحم الفيلم بالأحداث التي يصنعها فورست دون أن يسعى إلى ذلك حتى.. وفي نظرته الهادئة والمطمئنة يختزل توم هانكس رؤية منسجمة مع الانسياب العفوي للحياة.. بلا تفلسف ولا تعقيدات. في موقف الحافلات، يحكي فورست قصة حياته لهؤلاء الذين قادتهم الصدف إليه. أمه–التي تقبلته كما هو، حتى إنه لا ينفك يتحدث باسمها طوال دقائق الفيلم-كانت تقول "إن هناك معجزات تحدث كل يوم". ولعل تلك المعجزات بدأت حين صاحت فيه صديقته جيني، وهما ما يزالان صبيين بعد: - اركض يا فورست.. أركض! وحطم الطفل "دعامات الساق" التي كان يستعين بها على المشي، ثم مضى راكضا.. وبذلك، يكون قد انتصر على عجزه الجسدي ومعدل ذكائه المنخفض وعلى ملايين الاحتمالات العقلية والرياضية والمنطقية بأن قدره أن يعيش على هامش الحياة. كان لا يفكر.. بل يحلق! تماما مثل الريشة التي تطايرت لتبتعد عنه في المشهد الختامي.. بعدما وقفت عند حذائه في مشهد الافتتاح!