أرتشف قهوتي وأحملق في الشاشة. لا شيء سوى البياض: على الآلة قبالتي وداخل رأسي أيضا. وأرنو إلى السقف بعين تائهة ثم أطرق برأسي، وإذا لغتي قد خلت من الكلمات كأنها أعجاز نخل خاوية. وإن جلستي لتستطيل حتى إذا حركت قدميّ شعرت بأسراب النمل تحت جلدي. ثم يقول الصوت الكسول بداخلي: - هذا شيء مضن وأليم! ولعلني ألوذ بالنوم. وهذا مهرب طيّب من إلحاح الرغبة في الكتابة والعجز عنها. وإنه ليقطع تدفق السيل الكئيب، فتنام العين ويهدأ البال. ولكن اللقاء بهذه الشاشة مؤجل لم يُلْغ قط. ومع إغماض العينين، أحدث نفسي بسويعة قادمة.. تسعف فيها عبارتي وينطلق خيالي. وقد ارتبطت كتابتي بالمتعة، فلم أكتب إلا منتشيا. أعني في الأدب. ثم بات يرهقني إثبات العبارات ومحوها، في متواليات مجنونة أحيانا. وإن قدْرا معقولا من الاسترسال حتى يكتمل المعنى–على الأقل–لهو أمر حيوي في عملية الكتابة. وحين تتوقف بعد الكلمة والكلمتين لإعادة الصياغة والتشذيب والتنقيح والإضافة والتعديل... حين تفعل ذلك تكون كمن يتعثر في ملابسه! ولعل في ذلك نزوع إلى الكمال والمثاليات. ولكنه نزوع زائف وغير واقعي. وذلك شأن الكثير من المبدعين في بداياتهم؛ إذ يعولون على الموهبة–وهي المعنى–ولا يستكشفون الأساليب الكفيلة باستثمار هذه الموهبة إلى أقصى الحدود–وهذا هو المبنى. والموهبة تنمو بذلك وتربو وتنبت. وهي إذا عُطّلت، تذوي مع مرور الأيام كأي "زهرة" لا تسقى بماء الجهد والعرق! والكتابة طقس يومي. وأنت حين تجلس إلى الشاشة تأتيك الخيالات وهي راغمة. أما إذا قعدت في برجك الخيالي تنتظر أن يمُنّ الإلهام بفكرة أو بظل فكرة، فإنما تنفق أوقاتك في انتظار ما قد يأتي وقد لا يأتي! وفي ذلك، يقول الروائي الإنجليزي نيل غايمان، وهو روائي وكاتب قصص مصورة بدأ حياته صحافيا قبل أن يتفرغ للأدب: "إنك مدعو إلى أن تكتب (حتى) حين لا يأتيك الإلهام. وعليك أن تكتب (حتى) عن الأشياء التي لا تلهمك". إنك بعد شهور قليلة، لن تذكر المقاطع التي كتبتها بحماسة بالغة ومشاعر متقدة، ولا تلك التي ألفتها على المقاس.. وبلا إحساس تقريبا. وهذا رأي وجيه عبر عنه غايمان ببلاغة مكثفة ونفاذ بصيرة.. وإنما يعرف مسالك الطريق من سار عليها. وإن الرواد في كل فن هم بوصلة الإبداع. ولكن المبدع–حين يشب عن الطوق–يصنع لنفسه بوصلته ثم يختط مساره. أما أنا فإنما أكتب لأعيش.. وإنما أعيش لأبدع!