الزمامرة والوداد للانفراد بالمركز الثاني و"الكوديم" أمام الفتح للابتعاد عن المراكز الأخيرة    بووانو: حضور وفد "اسرائيلي" ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب "قلة حياء" واستفزاز غير مقبول    النقابة المستقلة للأطباء تمدد الاحتجاج    اعتقال بزناز قام بدهس أربعة أشخاص        بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط    الإيليزيه: الحكومة الفرنسية الجديدة ستُعلن مساء اليوم الإثنين    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    المغرب-الاتحاد الأوروبي.. مرحلة مفصلية لشراكة استراتيجية مرجعية    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    نادي قضاة المغرب…تعزيز استقلال القضاء ودعم النجاعة القضائية        بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي        محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    شكاية ضد منتحل صفة يفرض إتاوات على تجار سوق الجملة بالبيضاء    الحلم الأوروبي يدفع شبابا للمخاطرة بحياتهم..    تولي إيلون ماسك لمنصب سياسي يُثير شُبهة تضارب المصالح بالولايات المتحدة الأمريكية    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    حقي بالقانون.. شنو هي جريمة الاتجار بالبشر؟ أنواعها والعقوبات المترتبة عنها؟ (فيديو)    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    من يحمي ادريس الراضي من محاكمته؟    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا    اختتام أشغال الدورة ال10 العادية للجنة الفنية المعنية بالعدالة والشؤون القانونية واعتماد تقريرها من قبل وزراء العدل في الاتحاد الإفريقي    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سعيد بنسعيد العلوي، مجرى الكتابة
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 16 - 11 - 2012


( 1 )
لسبب ما قرأت رواية سعيد بنسعيد العلوي الثانية «الخديعة» (بيروت،2011) قبل أن أقرأ روايته الأولى «مسك الليل» (القاهرة،2010). وكعادة قارئ مغربي مولع بقراءة الصحف انطلاقا من صفحاتها الأخيرة، وجدتني أقرأ كلمة الغلاف الرابع التي كتبها ناقد رصين جاد عميق أحبه وأحترمه، هو الأخ رشيد بنحدو.
في تسعة أسطر وكلمتين، أدركت أن الناقد المغربي أمسك بروح النص، إذ أعرف دربته وخبرته الطويلة وفطنة اشتغاله على النصوص السردية. لكنني وعدت نفسي بأن أقرأ الرواية أولا لأختبر حدسي. يدشن الحدس دائما طريق المعرفة لا نهايتها. مع ذلك، لم أستطع- مع تثميني للكلمة القصيرة المحتفية- أن أمتَثِل لتلك الإشارة التي تنبه القراء (وتنبهني ضمنهم): « فإياك، أيها القارئ، أن تنخدع، فالمؤلف الذي تقاعد عن محبة الحكمة، بعد أن أصابته عدوى التخييل الروائي، تستهويه لعبة الأقنعة والظلال: يتظاهر بإخراس صوت الواقع ليسمع أصوات اللغة والصور والاستعارات فيما هو ملتصق إلى أقصى حد بهموم الوطن وتحدياته...».
ما من شك أن الناقد الكبير فضل أن يحذرنا من مكر النص وروحه المخاتلة، وأن يخبرنا مسبقاً بأن الكاتب «تقاعد عن محبة الحكمة»، بمعنى ما - إذا أذن لي بترجمة من العربية إلى العربية - أننا أمام إحالة على المعاش الفلسفي! كأن الكاتب ترك الفلسفة ومحبتها خلف ظهره، وأدركته حرفة الأدب!
أحسست وكأنني أمام شعرية خطأ ما كأنه «سبق قلم» بتعبير فقهائنا الأجلاء. لا أكتمكم أنني لم أستطع الذهاب إلى رواية سعيد بنسعيد بدون أن ألتفت ورائي.
وإذن، بعد حزمة من الكتب والدراسات والأبحاث وروايتين وعمر من القراءات المتراكمة، هل نحن أمام كاتب قادم من كتابة إلى كتابة أخرى،من الحكمة إلى التخييل، أي من بناء نصي فلسفي إلى بناء نصي أدبي؟ وهل هي نفس الذات الكاتبة في تحقق مختلف لها؟ هل هو نفس الكاتب الذي أسهم فعليا،مع زملاء آخرين له، في تشييد ملحمة الفكر المغربي أم أنه كاتب آخر مختلف تخلى عن ذلك الرصيد- كما يفهم قارئ متعجل من إشارة رشيد بنحدو- وجاء إلى لعبة الاستعارات والصور والأقنعة والظلال ليبدأ من جديد؟ بمعنى آخر،هل نحن أمام خروج من ميثاق كتابة إلى ميثاق آخر؟ وهل سعيد بنسعيد العلوي، رجل الفكروالفلسفة السياسية المعروف بالانحياز إلى الوعي النقدي وممارسته، سيحتاج في تجربته التخييلية إلى تعاقد جديد مع قارئ جديد؟ هل هو فعلا « تقاعد « عن ممارسته النظرية ونشاطه الفلسفي والفكري كما لو» لم يعد له ما يعطيه « أم أنه يتطلع فقط إلى أن يغير المقصات كما يفعل الأطباء الجراحون لأداء مهنتهم وإنجاح العمليات الجراحية؟ ألا يكون -على العكس- أدرك أن محبة الحكمة وحدها لم تعد تفي بتأويل ما لديه من فائض معنى، ولا يمكنها أن تستوعب خزينه الذاتي ومدخرات ذاكرته ومتخيله؟ ثم أليست للتفكير الفلسفي أصلا استراتيجية كتابة، والتي لن تكون- كما نعلم- سوى استرتيجية بلاغية ولغوية بالأساس؟
أسئلة وفرضيات كثيرة ، كانت في خاطري أثناء قراءة الروايتين (الثانية أولا، والأولى ثانيا). ولم أجد نفسي أبدا أمام روائي مبتدئ، وإنما هو كاتب خبير بأسرار المادة السردية وكتابة الخيال. ثمة إدراك عميق لأسس وقواعد الكتابة الروائية بل تحكم واضح في مكونات الخطاب الروائي. ليس التقاعد إذن هو الذي قد يجعل كاتبا يغير وضعه على مستوى لمسؤولية السردية، فيخرج من وضع «سارد» فكري،عقلاني، يسعى إلى قول الحقيقة وخدمتها إلى وضع سارد أدبي يتوسل الخيال والاختلاق واللعب والتوهم.
(2)
لكم أحببت جسارة هذا الذهاب نحو ما يسميه بارت» الكتابة بضمير المتكلم «.أقصد تحديدا هذا الاستعمال الذكي للرومانيسك وللعناصر الأطوبيوغرافية في كتابة تحتفي أساسا، وبحرية، بالفضاءات والشخصيات والأفعال المتخيلة، وتحاول الإمساك بهالة الزمن الذي يمضي ويجئ،أي بذلك الامتلاء الشعري الذي يشبه الفراغ الذي يتخذ أو يشيد شكلا،الشكل الذي يكلف كثيرا مع ذلك،والذي له غوايته التي يصعب أن تقاوم حين يتمرس المفكر بالقراءة السردية وحين يكون تربى في دفئها ،رافقها ورافقته طويلا،امتلك لزوم ما يلزم لكتابتها، وكانت له حتى أثناء كتابته الفلسفية الطويلة،المادة الأدبية التي يوفرها الحجاج الفكري وبناؤه النصي.
يمتلك سعيد بنسعيد، كما تؤكد الروايتان،خبرة تبدو جديدة مع أنها في حقيقتها ليست إلا مجرد كفاية نائمة.وإذا كان لابد أن نحذر القارئ من شيء، فلنحذره من «الخلايا النائمة» لسعيد، فما من شك أنه سيواصل إخراج هذه الخلايا الروائية النائمة دونما تخلًّ عن محبة الحكمة وكتابتها. لقد انخرط في أفق مغر تهيأ له طويلا، ولسنا أمام عَرَضٍ من أعراض الإحالة على معاش فكري أو اجتماعي.هناك عدد من معالم التخيل الإبداعي في ذاكرة الطفل الذي كانه سعيد بنسعيد، في طريقة تنشئته العائلية والاجتماعية، في نوعية قراءاته الأولى، وحتى في كتابته الفكرية نفسها.
وفي تقديري، إنها نفس الجملة، نفس الرؤية في كل من كتابة الفلسفة وكتابة الرواية، نفس الذات، نفس الجسد الذي يكتب. هناك فقط انزياح صغير تقبل به القراءة المصاحبة لسيرورة الكتابة .وحده أفلاطون(لو كان هنا) هو من كان سيرتاب من مثل هذا النزوع نحو الخيال من لدن رجل فكر حازم.لقد كان سيخشى العدوى أساسا،ولكن أفلاطون ليس هنا، لحسن الحظ، ونحن سعداء بهذه العدوى التي تمنحنا روائيا متمرسا.
ربما كانت الكتابة في المعاينة الفلسفية تنسى نفسها قليلا أكثر.وهي تشتغل هنا، في الرواية أقصد، على نفسها أساسا. إنه رجل الفلسفة يتأمل لغته وجملته وخياله لا فكره فقط.لقد كان ميشال دوكي (M.Deguy) ،الشاعر والفيلسوف الفرنسي المعروف، يقول: «إن عملا فكريا كبيرا هو عمل أدبي».ولم يتردد مرارا في القول عن ديريدا إنه «كاتب فرنسي كبير».
أظن أن ما حدث طويلا في حالة سعيد بنسعيد ظل يتجاهل مجهوله، يؤجل وجهه الآخر، الظليل، المحجوب. وحبذا لو قمنا بتشخيص دقيق كاشف أو بإنجاز جينيالوجيا لطبقات الكتابة لدى سعيد، لعلنا نلمس أن السرد كان هناك دائما حتى في الكتابة الفكرية، وأنه كان يكتب دائما عند منطقة التخوم بين الفلسفة والأدب حتى قبل أن يصدح النقد الثقافي اليوم بحقيقة أن الأدب ليس وقفا على المصنفات والأنواع الأدبية المعتادة، وإنما هناك أدب في كتب الفلسفة والتاريخ والرحلة والأنثربولوجيا والجغرافيا والدين والتصوف وغيرها. إن الحد ليس فاصلا بالضرورة، وهو بالتأكيد ليس نهاية. ويمكننا العثورعلى قرابة متعددة في الاهتمامات، قرابة في التعامل مع اللغة والبلاغة، قرابة في إخبار العقل وتحفيزه،قرابة في الوعي النقدي، قرابة في اقتراح المعنى(وكل اقتراح للمعنى هو دعوة إلى حقيقة معينة حسب بول ريكور).
ما من خروج من وضع اعتباري سابق إلى وضع اعتباري لاحق في هذا العبور،وإنما هناك فحسب وضع اعتباري واحد يتعزز.أفق واحد تنصهر فيه الآفاق.ولا أشك لحظة في أن بنسعيد واع، وهو يكتب الرواية الآن (كما يكتب في الفكر والفلسفة)، يمارس فن فعل (art de faire)لا «فن قول» art de dire))، وأستعمل هنا تعبيرين لميشل دو سيرطو الذي يرى أن الحكايات مدونات أفعال.ليس فقط لأن الحكي يدون أفعالا ماضية، واقعية أو خيالية، ولكنه يستطيع أن يفتح الأفق على تعيين لها وبناء حصيلة من الايماءات والأفعال المتخيلة، والتصرفات الممكنة ، والممارسات المجابهة. وبالتالي فإن قوة الحكي- شأن قوة الفكر الحي- هي قوة قادرة على خلق تاريخ موجَّه وموجِّه نحو المستقبل.
(3)
هناك أكثر من مدخل لقراءة التجربة الروائية عند سعيد بنسعيد العلوي.
لكم أحببت- كأحد المداخل الممكنة - شخصية «محجوبة» في «مسك الليل» بلغتها الفاحشة التي تنتهك وتكشف وتضئ وتسعف، بذاكرتها الجريحة الثرية بالتحولات المرة، بامتدادها الاجتماعي المتشابك المطلع على حقيقة الواقع اليومي للمدينة، في مرحلة كولونيالية، وحقيقة الأشخاص والأفعال والمواقف. وكذلك هذا الحضور، في خلفية النص للشخصية الأجنبية، ليس فقط جيرار لو مارشان بحضوره الكلي كشخصية مركزية في النص، وإنما دولاكروا، شارل دو فوكو، ليوطي وأساسا «صورة الروماني الصاعد من سهل وليلي» كما تتخايل في عيني جيرار، وهو يمعن النظر في النعلين الضخمين الممتلئين وحلا وطينا لأحد باعة الماء(ص 52 ). أحببت أيضا أسراب الطيور وحركاتها الدائرية التي تصنع معنى في الفراغ الهائل في ما يتبدى للإنسان كمجرد حركات عفوية فارغة. ويا لتلك اللمسة السردية النعمة التي تراكم الصور وتلاحق المشاهد في اندفاعة قوية قبل أن تصل إلى لحظة الذروة، إلى الصمت(ص 33). ولو اخترت شخصيا ( وسأختار في كتابة لاحقة) أن أكتب عن الرواية فإنني سأبدأ القراءة من هناك. من خوف الطفل الكامن في دخيلة الكاتب وحارس ذاكرته. ذلك الخوف الذي نتعرف من خلاله على الفضاءات والأمكنة والسرائر والذهنيات التي كانت سائدة في مغرب الخمسنياَّت (ق 20).علينا أن نحفر هناك لنعثر على قدر هائل من الخزائن الأطوبيوغرافية، في رواية تؤكد على أهمية الشهادة السردية في استعادة التاريخ وإعادة تمثله وتأمله، وربما إعادة بنائه في الوعي الراهن. ذلك الخوف الصغير الذي يستدرج لسان الكاتب ليقول «كنتُ هناك».
ولكم أغرتني رواية «الخديعة» بالفضاء الصوتي الغني بالغناء والموسيقى، أي بالخلفية الموسيقية كمدخل للكتابة. لم تكن مصادفة أن تنهض فيروز،سيدة الجبل،بكل ذلك الدور الهائل في المحكي وفي تحريك دينامية السرد.وموسيقى الآلة(المسماة أندلسية)،يا لسطوة حضورها هناك! ولكنني أحببت أيضا تفصيلا أكثر قوة ودلالة وشعرية، وهو الحضور الإيروسي لليد على امتداد النص. يد تودع. يد تمسك بيد أخرى. يد واثقة. يد ترتعش. يد تبقي يدا للحظة فيحدث تيار كهربائي خفيف وتحدث الحياة. يد تمتد بسرعة ثم تسحب بسرعة. يد تستبقى رغما عنها بين يدين أخريين. ويد ترفع إلى الفم وتلثم. يد تتمنى أن تمسك بيد مبسوطة. يد تضطرب. يد تترك يدا. يد لا تجرؤ على يد. ثم، أخيرًا يد على زناد الانفجار في كاسا دي إسبانيا.
(4)
ولعل أجمل مدخل يمكنني النفاذ به إل روايتي سعيد بنسعيد العلوي(ولا أستعرض هنا قوة وإنما أشي بخوفي)،هو تلك الجملة الصغيرة لهمنغواي»مكان نظيف حسن للإنارة» القادمة من قراءة قديمة جدا لإحدى القصص القصيرة للكاتب الأمريكي.وحكاية سعيد بنسعيد مع همنغواي طويلة وذات شجون تستحق في ذاتها نصا مخصوصا.
«مكان نظيف حسن الإنارة»
إنها جملة صغيرة جدا،مشدودة،واضحة، بليغة تقول كل شئ عن المكان وعن الحالة.مكتفية وتعف عن التفاصيل.تتيح للقارئ قدرا هائلا من التداعيات المفعمة بروح الحياة.جملة حملها سعيد إلى روايتيه معا.مرة نجدها «محجوبة « يلوح ظلها فقط في « مسك الليل « (ص 22)، ثم تظهر بوضوح وباسم صاحبها في « الخديعة « (ص 186). وهي، في الحقيقة، تدلنا على جملة سعيد التي لا يأتي بها العقل إلى الكتابة يأتي بها الجسدُ وحده. العقل في مثل هذا الفضاء، في مثل هذه الحالة، لا مكان له. وسعيد يدرك ذلك بعمق، فهو يخشى سطوة العقل على الكتابة الروائية. يخشى سطوة المفكر على الكاتب. يخشى أن يموت طفل الدهشة في داخله فتنأى عنه روح الصعلكة.
وواضح أن لسعيد شغفًا باللغة التي يكتب بها ،شغفا شديدا. للعربية كيمياء عجيبة في نصه السردي. يحب الحفر المعجمي، وتستثيره الكلمات المليئة بالطفولة وبالمعنى. تعجبه لحظة الاكتشاف بل إنه لا يتردد كقارئ في التعبير عن غبطته باكتشاف لزميل آخر في حقل الكتابة. هكذا، بروح طفلة محتفية يخبرك بأنه أحب عنوان الروائي والمؤرخ أحمد التوفيق « والد وما ولد «، وأنه تمنى لو كان عنوان أحد كتبه. وبمحبة وإنصاف يهنئ زميله، ولو من بعيد، على لذة اكتشاف كهذه. جملة قرآنية صغيرة جدا، موحية جدا، مضيئة جدا، دالة جدا ولكنها- في نظر سعيد بنسعيد- لا تدرك بسهولة،لا يأتي بها العقل. وقد يحجب عنها الرؤية. ولا يخفي صديقنا الكبير نفس الغبطة، وهو يستحضر عنوانا آخر موفقا ودالا لرواية الروائي يوسف فاضل الأخيرة، تلك الجملة الإيقاعية الناعمة « قط أبيض جميل يسير معي».العنوان الطويل، الموسيقي الجميل هادئ النبرة، النَّفَّاذ، والذي يسير مع قارئه مثل نقطة دم صافية في العروق والشرايين.
إنه إذن سخاء المفكر بمحبة الجميل وممارسته.وهولا يتردد في كتابته الروائية في تمثل الكثير من الفلسفة، ومن الآداب الإنسانية ومن القرآن، ومن النص الصوفي، حتى إنه يضع عددا منها كعتبات في الرواية، دونما تعسف، ودون إسراف يثقل على النص ويهدده. في «الخديعة» (ص 185)،ولكي لا يغرق في التفاصيل الواصفة لانفجار كاسا دي اسبانيا بالدار البيضاء، يلوذ بآية من المصحف «مثل رماد في يوم عاصف اشتدت به الريح» (إبراهيم.الآية 14) كي يعبر عن هول الفاجعة في الرواية، كما في إحالتها المرجعية على الواقعة التاريخية. ولعل الذين يتعرفون سعيد بنسعيد العلوي كشخص و كصديق يعرفون فيه- إلى جانب الدماثة وطيب المعشر وحضور البديهة- حسه البارع كمتحدث جيد دون نزعة تلقين،وميله التلقائي إلى ترصيع حديثه الشفاهي بجوهر الاستشهادات الناعمة الأكثر رسوخا في ذاكرته والتصاقا بوجدانه.ودائما على لسانه ضوء اللغة في رفعته النصية القرآنية السامقة. ينبهك إلى آية، إلى جملة، إلى كلمة.يقولها لك بلسانه ،وبإيماءة جاذبة، وبكل جسده «يرونهم مثليهم رأي العين» (آل عمران،الآية3) ويشركك في ثراء وكهرباء العبارة،وفي معناها لكي لا ينصرف ذهنك أو فهمك إلى معنى غير المعنى.
( 5 )
يكتب سعيد كتابة مسترسلة حين يجلس ليكتب.ولكنه يكون في الواقع قد كتب كتابة جسدية. وهو يفضل الصفحة بيضاء من حجم كبير ،وإذا كانت مسطورة ،ينبغي أن تكون الأسطر أفقية فقط.ومن ثم يحب دفاتر مخصوصة (les blocs). كما أنه يفضل أقلاما بالحبر الأسود أو الأزرق،ولكنه لا يتحمل الكتابة بألوان أخرى.ويتعذر أحيانا أن يعثر في السوق على أقلامه الأثيرة،مما يضطره لاستجلاب كمية منها حين يكون على سفر إلى الخارج.
والصباح زمن لكتابته. الساعات الأولى من الصباح، وقل أن يكتب في المساء، ولا يكتب ليلا. يكتب حين يكتفي بساعات نومه، وينهض ويستحم. يستحم ويمضي إلى كتابته.إنه من المستحمين الذين يستفيقون،على عكس آخرين يستحمون فيغمرهم الاسترخاء. مثله، من عاشر الكتابة وعاشرته، لا ينتظر أن تأتي الكتابة إليه. إنه يراودها في أعماقه، في صمته، في حركاته، في سكناته، في عزلته، وحتى حين يكون بين ضجيج الآخرين من حوله. أحيانا يحلم بجملته الأولى (يقول لي). يصطاد الأفكار والشذرات كما يصطاد الولدان فراشات ملونة، فيكتب ويرسم في دواخله. يكتب ويعيد، يمحو ويعدل. ولعله صفاء السريرة هو الذي يكتب ويرسم وينحت الأفكار والأوضاع والوجوه والملامح. هكذا، حين يمضي إلى منضدته، يكون ممتلئا بنصه أو بملامح من نصه تفتح له أفق المغامرة والمجهول. إنني أعرف هذه الكتابة، حين نقيدها على الورق فتخرج ساخنة كالنفس الحار، كالدمعة التي تطهر.
إنها الكتابة نفسها.هي هي. كما تكون في النص الفكري الفلسفي،تكون في النص الروائي.ولكنها في الرواية تحقق اللذة الجميلة التي يشوبها ألم جميل. وقد جاءت «مسك الليل» من خميرة استغرقت وقتها كاملا داخل الجسد وفي الذاكرة وفي الخيال» كبوح، الرواية عندي لا تكتب بقرار كالقرار الاداري. إنها تقتضي حدا معينا من الصعلكة.بعقل حازم، صارم، لا نستطيع أن نكتب رواية»، يقول لي السي سعيد. وهناك نماذج كبرى لمفكرين عرب كبار ،جربوا كتابة الرواية فأخفقوا.ظل ينقصهم ماؤها،ماء الشعر كما كان ينعته النقاد العرب القدامى.»على الكاتب ليكتب رواية أن يبقى طفلا إلى حد ما .أما إذا حضر العقل كله،فلن يتحقق النص الروائي الجيد»،يضيف بنسعيد ونحن نجلس في أحد مقاهي الرباط.
وهكذا، فبالإضافة إلى اشتغاله الحر على ذاته والنبش في ذاكرته الشخصية (الطفولة والعائلة ومسقط الرأس في «مسك الليل») نجده في «الخديعة» يواصل النظر النقدي إلى مختلف أشكال الوعي الزائف والأوهام المطلقة التي تتلبس حياتنا الاجتماعية والسياسية.
حتى وسعيد يكتب في حضن الخيال،حتى وهو يكتب رواية،نجده يحاول الكشف عن الميكانزم الداخلي للحالة النكوصية التي يبدو أن المغرب الراهن يعيشها. وقد لاحظنا أن العلبة الفارغة للايدولوجيا في «الخديعة» تصل حدها الأقصى من التشوه والمخادعة والاغتراب تصل حد الانفجار.
الانفجار هنا هو استحضار لواقعة تاريخية عشناها جميعا في 16 ماي 2003، لكنه على مستوى الكتابة الروائية هو كشف لحالة انحراف رمزي.كيف يتخلى جيل جديد عن عوالمه الممكنة، كيف يجفف ممكناته، وكيف يصادر المستقبل لحساب أفكار مؤسسة للماضي،وبالتالي الانتقال إلى الحياة بل إلى الموت في ظل ثقافة راديكالية متعصبة،منغلقة تركن إلى تُراثِها وحده فتقدمه وترفض كل ما هو مختلف ومتعدد وجديد ومحتمل.
وكرجل يفكر، انشغل سعيد بنسعيد دائما بتفكيك إيديولوجيا الأساطير المؤسسة للتخلف والردة، وترسيخ أفكار عقلانية ونقدية من شأنها تيسير أسباب الدمج الثقافي والاجتماعي والانتماء إلى المستقبل. في رواية «الخديعة» لم يفعل -عمليا- غير ذلك. واصل اشتغاله ككاتب بمجابهة الحالة غير النقدية وغير العقلانية. واجه الخداع الايديولوجي والزيف الأخلاقي والمحافظة الاجتماعية .كان صوته الروائي مهتما بإبراز أنواع من خداع الذات، ومن الحالة النكوصية وردها إلى خلفيتها الايديولوجية ،وإلى ما يجعلها تصدر عن رواسب التجربة الاجتماعية المنفلتة،ويجعلها تنتج نوعا من التعصب الديني والانغلاق الفكري والثقافي.
شهادة ألقاها الشاعر والكاتب حسن نجمي في الحفل التكريمي للأستاذ سعيد بنسعيد العلوي الذي نظمته كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، يوم الخميس 10 ماي 2012 بمدرج الشريف الإدريسي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.