احتلت مدينة الرباط المرتبة 123 من أصل 146 مدينة شملها التصنيف الدولي "مؤشر المدن الذكية 2025" الصادر عن مركز التنافسية العالمي "آي إم دي"، في تقرير حديث يعتمد على آراء السكان المحليين حول مدى فاعلية البُنى التحتية والتقنية المتوفرة في مدينتهم. ويستند التقرير إلى تحليل بيانات تم جمعها من آراء 120 مقيما في كل مدينة، تغطي السنوات الثلاث الأخيرة، بنسب مرجحة هي 1:2:3 لسنوات 2025، 2024، و2023 على التوالي، مما يمنح وزنا أكبر للآراء الحديثة. ويُشير التصنيف إلى أن العاصمة الرباط حصلت على تقييم "سي" في مجال التكنولوجيا و"سي" في البنية التحتية، مما يضعها ضمن الفئة الرابعة من حيث مؤشر التنمية البشرية الفرعية، حسب التصنيف المعتمد من قبل قاعدة البيانات العالمية "گلوبال داتا لاب".
رغم الطابع الطموح للمشاريع الرقمية التي انخرطت فيها الرباط، لا تزال المدينة تواجه تحديات كبرى ترتبط بجودة الحياة الحضرية، وعلى رأسها أزمة السكن، فقد أشار 38.1 بالمائة من المشاركين في الاستطلاع إلى أن "السكن الميسر" يُمثل أولوية قصوى، متقدما على قضايا تقليدية مثل التعليم (20.8 بالمائة) أو الأمن (19.5 بالمائة)، وهو ما يعكس حجم القلق الذي يعيشه المواطنون تجاه التكاليف المتصاعدة للكراء أو اقتناء العقارات في العاصمة المغربية. يُذكر أن المفهوم المعتمد للسكن الميسر في التقرير يشير إلى قدرة الفرد على العثور على سكن لا تتجاوز كلفته 30 بالمائة من دخله الشهري. وعلى مستوى محاور التقييم الأخرى، سجلت الرباط نقاطا متواضعة في مجالات الصحة والسلامة، والنقل الحضري، والحكامة، رغم وجود بعض المؤشرات الإيجابية مثل توفر خدمات الصحة الأساسية وشبكة المواصلات العمومية بشكل مقبول. إلا أن مستوى الثقة في المؤسسات المحلية وقدرة السكان على التأثير في القرارات لا يزال منخفضا، وهو ما تم رصده من خلال تقييم قدرات المنصات الرقمية المرتبطة بالمشاركة المواطنة والشفافية المالية. ويُشير التقرير أيضا إلى أن التصنيفات لا تعتمد فقط على البنية التحتية المادية، بل تشمل أيضا "الركيزة التكنولوجية"، والتي تعكس مدى استخدام الوسائل الرقمية في تحسين الحياة اليومية، من قبيل خدمات الحكومة الإلكترونية، التطبيقات الخاصة بالتنقل، والبوابات الخاصة بالصحة أو الشكاوى. وهنا، تسجل الرباط تأخرا ملحوظا، خاصة مقارنة بمدن عربية أُخرى كدبي وأبوظبي، واللتين احتلتا المركزين الرابع والخامس عالميا في الترتيب، بفضل استراتيجياتهما الذكية في التحول الرقمي الحضري وتبني تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة في خدمة المواطن. وعلى الصعيد الاجتماعي، تشير نتائج التقرير إلى أن 72.5 بالمائة من سكان الرباط المستجوبين يعتبرون أن توفر المعلومات عبر الإنترنت زاد من ثقتهم في السلطات، في حين أبدى 59.3 بالمائة منهم استعدادا للتخلي عن جزء من بياناتهم الشخصية إذا كان ذلك سيسهم في تحسين إدارة حركة المرور. وطبعا، توحي هذه المعطيات بوجود أرضية خصبة لقبول السياسات الذكية، لكنها في المقابل تكشف فجوة بين التطلعات الشعبية وبين الأداء الحالي للخدمات الذكية في المدينة. وبالنظر إلى معطيات أخرى قدمها التقرير، فإن المؤشرات المتعلقة بالبنية الاجتماعية، مثل الترحيب بالأقليات، وتوفر فرص التعلم مدى الحياة، والوصول إلى الإنترنت بسرعة وجودة معقولتين، لا تزال دون المستوى المطلوب لتحقيق قفزة نوعية نحو مدينة ذكية حقيقية. كما أن الرباط لم تنجح في تحقيق التوازن المطلوب بين الابتكار والعدالة الاجتماعية، وهو ما تطرحه العديد من الدراسات الحديثة التي تعتبر أن "الذكاء الحضري" لا يمكن اختزاله في التكنولوجيا فقط، بل يشمل أيضاً سياسات الإسكان، والتشغيل، والحكامة الجيدة. وفي ظل هذا السياق، تتضح الحاجة الملحة إلى مراجعة النموذج الحضري للرباط، عبر تبني مقاربات تشاركية وشاملة، تجعل من الرقمنة وسيلة لخدمة المواطن لا غاية في حد ذاتها. كما يتطلب الوضع الحالي التنسيق بين الجماعات المحلية والحكومة المركزية لتوجيه الاستثمارات نحو قطاعات ذات أولوية، مثل السكن، والنقل المستدام، والإدارة الرشيدة للمرافق العمومية، بما ينسجم مع تطلعات ساكنة العاصمة المغربية. عالميا، تواصل مدينة زوريخ السويسرية تصدرها لقائمة المدن الذكية في العالم، محتفظة بالمركز الأول بفضل أدائها المتفوق في مجالات البنية التحتية الرقمية، والحوكمة التشاركية، والخدمات الصحية الذكية. وتأتي زوريخ على رأس قائمة تشمل مدنا أوروبية وآسيوية وأسترالية تعد مرجعا عالميا في تبني الابتكار الحضري واستخدام التكنولوجيا لتحسين جودة الحياة الحضرية. ويُظهر هذا الأداء المتقدم للمدن المتصدرة كيف أن التخطيط الحضري المبني على البيانات والتقنيات الحديثة أصبح ركيزة أساسية للارتقاء بالمجتمعات المدينية. وتعد مدينة أوسلو، عاصمة النرويج، من أبرز الأمثلة على هذا التوجه، حيث حلت في المرتبة الثانية عالميا بفضل سياساتها البيئية الطموحة، واعتمادها المكثف على الطاقة النظيفة، وأنظمة النقل العام المتطورة التي تقلل الاعتماد على السيارات الخاصة. أما مدينة جنيف السويسرية، التي جاءت في المركز الثالث، فتميّزت بمنصات المشاركة المواطنة الرقمية التي تمكّن السكان من المساهمة في اتخاذ القرار المحلي، وبخدماتها الصحية المتقدمة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي والأنظمة السحابية لتيسير الوصول إلى العلاج في الوقت المناسب. وتُظهر مدن مثل دبي وأبو ظبي، في المرتبتين الرابعة والخامسة على التوالي، أن التطوير الذكي لا يقتصر على الدول ذات الدخل المرتفع في الغرب فقط، بل يشمل كذلك دولا عربية استطاعت أن تدمج التكنولوجيا المتقدمة في التخطيط الحضري والحوكمة المحلية. ويعود تفوق دبي، مثلا، إلى استثماراتها الكبيرة في الذكاء الاصطناعي، واعتمادها منظومة متكاملة من الخدمات الحكومية الرقمية، من تقديم الشكاوى إلى إصدار الوثائق الرسمية، فضلا عن إشراك السكان في عملية اتخاذ القرار عبر منصات إلكترونية متاحة للجميع. وفي آسيا، حققت سنغافورة، التي احتلت المركز التاسع، أداء لافتا بفضل ما تقدمه من حلول تقنية مبتكرة في مجالات البيئة، والنقل، والتعليم، إذ تستثمر المدينة-الدولة بشكل متواصل في تطوير "المدن المصغّرة الذكية" التي تُدار بأنظمة مراقبة وتغذية راجعة في الزمن الحقيقي، ما يجعلها نموذجا يُحتذى به عالميا في إدارة المدن. اللافت في نتائج المؤشر، أن هذه المدن المتقدمة تشترك في عوامل جوهرية تؤثر على تصنيفها، أهمها توفر استراتيجية واضحة للتحول الرقمي، وجود بنية تحتية حديثة تدعم الابتكار، توافر خدمات عمومية عالية الجودة، وانخراط المواطنين في تدبير الشأن المحلي عبر أدوات ذكية.