استهلال لابد منه: قال الفيلسوف الألماني نيتشه: ” إن مرماي أن أقول في عشر جمل ما يقوله غيري في كتاب… ما لا يقوله في كتاب بأكمله .” توطئة: تستند الكتابة الشذرية (l'écriture fragmentaire) ، أو الكتابة المقطعية، أو أسلوب النبذة (Aphorisme) كما عند نيتشه، إلى الاقتضاب، والتكثيف، والتبئير، والتركيز، والإرصاد، والنفور من التحليل العقلاني المنطقي، وتفادي الكتابة النسقية. وتعد هذه الطريقة في الكتابة خاصية غريبة عن ساحتنا الثقافية والإبداعية كما تعودنا عليها لسنوات مضت، على الرغم من وجودها في تراثنا العربي بشكل من الأشكال، لاسيما في المنتج الصوفي والعرفاني، وأيضا في كثير من المصنفات التراثية القائمة على التقطيع والتشذير والاختزال، وخاصة الكتب الفلسفية والأدبية والدينية منها. هذا، وإذا كان أغلب المؤلفين يميلون إلى الكتابة النسقية ، والتحليل المنطقي الصارم المبني على قوة الحجاج والاستدلال والبرهان العقلي، والتحليل المتماسك اتساقا وانسجاما، فقد بدأت الكتابات المعاصرة ، سواء أكانت من الأدب العام أم من الأدب الخاص، تعتمد على الكتابة الشذرية المقطعية القائمة على شعرية الانفصال، وتتكىء على بلاغة التشظي، وتتهرب من التحليلات العلمية والمنطقية العقلية الجافة والمنفرة، لتعوضها بكتابات شاعرية وتأملية إما ذهنية وإما وجدانية. وبذلك، تحضر الذات، ويطفو الخيال الخارق، ويعلو التخييل المجنح، ويسمو الانزياح،وتتقطع النصوص فوق صفحة البياض فراغا وامتلاء وانفصالا وبعثرة، فتختلط الأجناس والأنواع ليتشكل منها نص شذري أو كتاب شذري، وذلك في شكل مقطوعات وفقرات ومقتبسات، بينها بياضات واصلة، وفواصل تتأرجح بين النطق والصمت. إذاُ، ماهي الكتابة الشذرية لغة واصطلاحا؟ وماهي مقوماتها الدلالية ؟ وماهي مرتكزاتها الشكلية والمقصدية؟ وماهو تطورها التاريخي؟ وماهي خصائصها الفنية والجمالية في الكتابات الإبداعية المعاصرة؟ تلكم هي الأسئلة التي سوف نحاول الإجابة عنها في دراستنا هاته. 1- تعريف الشذرة في اللغة والاصطلاح: يعرف ابن منظور في معجمه:” لسان العرب” لفظة” الشذرة” على النحو التالي:”الشَّذْر: قِطَعٌ من الذهب يُلْقَطُ من المعْدِن من غير إِذابة الحجارة، ومما يصاغ من الذهب فرائد يفصل بها اللؤلؤ والجوهر. والشَّذْرُ أَيضاً: صغار اللؤلؤ، شبهها بالشذر لبياضها. وقال شمر: الشَّذْرُ هَنَاتٌ صِغار كأَنها رؤوس النمل من الذهب تجعل في الخَوْقِ، وقيل: هو خَرَزٌ يفصل به النَّظْمُ، وقيل: هو اللؤلؤ الصغير، واحدته شَذْرَةٌ؛ قال الشاعر: ذَهِبَ لَمَّا أَنْ رآها ثُرْمُلَهْ، وقالَ: يا قَوْم رَأَيْتُ مُنْكَرَه، شَذْرةَ وَادٍ، وَرَأَيْتُ الزُّهَرَهْ وأَنشد شَمِرٌ للمَرَّارِ الأَسَدِيّ يصف ظَبْياً: أَتَيْنَ على اليَمِينِ، كَأَنَّ شَذْرا ًتَتابَعَ في النِّظامِ لَه زَلِيلُ وشَذَّرَ النَّظْمَ: فَصَّلَهُ. فأَما قولهم: شَذَّر كلامَه بِشِعِرٍ، فمولَّد وهو على المَثَلِ. والتَّشَذُّرُ: النَّشاطُ والسُّرْعة في الأَمر. وتَشَذَّرَتِ الناقةُ إذا رأَت رِعْياً يَسُرُّها فحرّكت برأْسها مَرَحاً وفَرَحاً. والتَّشَذُّر: التَّهَدُّدُ؛ ومنه قول سليمان ابن صُرَد:بلغني عن أَمير المؤمنين ذَرْءٌ من قول تَشَذَّرَ لي فيه بشَتْمٍ وإِيعاد فَسِرْتُ إِليه جَوَاداً أَي مسرعاً؛ قال أَبو عبيد: لست أَشك فيها بالذال، قال: وقال بعضهم تَشَزَّرَ، بالزاي، كأَنه من النظر الشَّزْر، وهو نَظَرُ المُغْضَبِ، وقيل: التَّشَذُّر التَّهيُّؤُ للشَّرِّ، وقيل:التَّشَذُّرُ التوعد والتَّهَدُّدُ؛ وقال لبيد: غُلْبٌ تَشَذَّرُ بالذحُولٍ، كأَنها جِنُّ البَدِيِّ، رَوَاسِياً أَقْدَامُها ابن الأَعرابي: تَشَذَّرَ فلان وتَقَتَّرَ إذا تَشَمَّرَ وتَهَيَّأَ للحَمْلَة. وفي حديث حُنَينٍ: أَرى كتيبة حَرْشَفٍ كأَنهم قد تَشَذَّرُوا أَي تهيَّأُوا لها وتأَهَّبُوا. ويقال: شَذَّرَ به وشَتَّرَ به إذا سَمَّعَ به. ويقال للقوم في الحرب إذا تطاولوا: تَشَذَّرُوا. وتَشَذَّرَ فُلانٌ إذا تهيأَ للقتال. وتَشَذَّرَ فَرَسَهُ أَي ركبه من ورائه.وتَشَذَّرَتِ الناقةُ: جَمَعَتْ قُطْرَيْها وشالت بذنبها. وتَشَذَّرَ السَّوْطُ:مال وتحرَّك؛ قال: وكانَ ابنُ أَجْمالٍ، إذا ما تَشَذَّرَتْ صُدُورُ السِّياطِ، شَرْعُهُنَّ المُخَوَّفُ وتَشَذَّرَ القومُ: تفرقوا. وذهبوا في كل وجه شَذَرَ مَذَرَ وشِذَرَ مِذَرَ وبِذَرَ أَي ذهبوا في كل وجه، ولا يقال ذلك في الإِقْبال؛ وذهبت غنمك شَذَرَ مَذَرَ وشِذَرَ مِذَرَ: كذلك. وفي حديث عائشة، رضي الله عنها:أَن عمر، رضي الله عنه، شَرَّدَ الشِّرْكَ شَذَرَ مَذَرَ أَي فرّقه وبَدَّده في كل وجه، ويروى بكسر الشين والميم وفتحهما. والتَّشَذُّرُ بالثوب وبالذَّنَبِ: هو الاستثفار به.”1 وهكذا، تحيلنا لفظة:” الشذرة” لغويا على مجموعة من الكلمات والدلالات المعجمية التي تنفعنا في استجلاء التعريف الاصطلاحي. ومن بين هذه المفاهيم الدلالية التي يمكن استكشافها، نذكر: القطع، والصياغة عن طريق الفصل، والحجم الصغير المتناهي والدقيق، والجودة، والروعة، والخفة، والمرح، والنظام، والوحدة، والتتابع، وتفصيل النظم، والتضمين، والاقتباس، والنشاط والسرعة في الأمر، والاستعداد والتأهب للحملة، والتسميع، والجمع والاتساق، والتفريق والتبديد… ومن هنا، يتبين لنا بأن أدب الشذرات عبارة عن نص منقسم ومنفصل إلى مجموعة من القطع والفقرات والمتواليات المستقلة بنفسها على المستوى البصري، والمتكاملة مع الشذرات الأخرى دلاليا وتركيبيا وتداوليا. ومن ثم، تتسم الشذرة بالتفكك والانفصال على مستوى الظاهر، ولكن تتميز على مستوى العمق البنيوي بالوحدة العضوية والموضوعية، بله عن الاتساق والانسجام والترابط والتلاحم الموضوعاتي والرؤيوي والمقصدي. ويلاحظ أيضا أن الشذرات عبارة عن نصوص صغيرة الحجم، متناهية الدقة. وتنماز كذلك بروعة الأسلوب، وجودة التعبير. علاوة على ذلك، فهي تتسم بالتكثيف، والإضمار، والإيجاز، والحذف، والتركيز، والتبئير. كما تتكىء على التتابع تارة، والانفصال تارة أخرى. وغالبا ما تحمل مضامين الشذرات رؤى فلسفية وتأملية عميقة، تعبر عن علاقة المبدع بذاته أو بواقعه الموضوعي، أو تفصح عن علاقته بالفن الذي يمارسه في إطار الميتاسردي أو الميتافيزيقي. وعليه، فالشذرات عبارة عن تأملات ماورائية صارمة حول الحياة، وتعبير شاعري عميق عن تجارب ذاتية وموضوعية وفنية، كما أنها بمثابة جمل أو ملفوظات أو مقاطع أو نصوص نثرية أو شعرية أو فلسفية أو صوفية أو تأملية أو غيرها، وهي كذلك متواليات مقطعية منفصلة عن بعضها البعض، بيد أنها قوية وجذابة، تحمل صورا دلالية عميقة، قائمة على الانزياح، والمفارقة، والسخرية، والإيحاء، والترميز، والإرباك، والإدهاش، والعصف الذهني. ويتميز تتابع هذه الشذرات بحركية إيقاعية سريعة قوامها:الحركة، والنشاط، والدينامية، والدأب المستمر. ومن هنا، فالشذرات هي كتابات ممزقة ومتفرقة تبدو أنها ضد النسقية، وضد النظام النصي الصارم. وعليه، فالشذرة هو أسلوب المقطع والنص الطليق، و” هو أسلوب معفى من كل ضرائب الطبخ والتحليل، ولا يلزم أحدا بهزاته وعواقبه إلا من باب التواطؤ الوجداني والتطوع الإرادي.وحين، يتيسر تحقيق هذين الشرطين، نكون قد دخلنا عالما فكريا لا أثر فيه لثقالة المعجم الفلسفي، ولا للغنائية الشعرية، أو النثر المفخم المتأنق، بل كل النصوص فيه محكومة فقط بتدفقات مقطعية، لاتروم إلا الكلمة المواتية اللازمة، والبلاغة المقتصدة المصادمة…”2 وتأسيسا على ماسبق، تعتمد الكتابة الشذرية على الأسلوب الشذري، والجملة الشذرية، والمقاطع المتشظية. ومن ثم، فالأسلوب الشذري هو أسلوب الكتابة اللانسقية الذي يعتمد على المقطع أو الشذرة أو النص الطليق. وبالتالي، فالشذرات مقاطع تأملية، وخطرات فلسفية، وقبسات صوفية، وشطحات عرفانية، وانطباعات عقلية ونفسية في شكل خواطر شاعرية، تعتمد على المسرود الذاتي، والخطاب غير المعروض، وتشغيل ضمير الحضور، واستدعاء الذات المتكلمة. وقد تكون الشذرات من الناحية الشكلية مقاطع قصيرة أو طويلة في شكل حكم وخلاصات عامة، وانطباعات ذاتية وذهنية فلسفية ، يطبعها التجريد، ويسمها التجريب والانزياح، ويكسوها العمق الفلسفي، ويتخللها الصفاء الصوفي. زد على ذلك، فهي مقاطع وجدانية إيحائية في أبعادها المجازية والتخييلية.ويلاحظ كذلك أن مقاطع الشذرات متفسخة ومتقطعة وقوية ذهنيا ووجدانيا، تنفر من النسقية والمقاييس العقلية والمنطقية، وتتمرد عن التفكير البرهاني أو الحجاجي. وباختصار، تجمع الشذرة بين الفلسفة والشعر، وتتأرجح بين الذهن والوجدان، والشعور واللاشعور ، والعقل واللاعقل، والصحورة والهذيان . ومن ثم، تتمثل خصائص الكتابة الشذرية في مجموعة من الخاصيات والسمات، مثل: التركيز، والاختزال، والاقتضاب، والاقتصاد، والتحرك السريع، والتخلص من الحشو والإطناب والاستطراد، والاعتماد على بلاغة التكثيف، إذ تقدم الشذرة عصارة التجارب الذاتية أو الموضوعية، أو تكون خاتمة لتجارب ذهنية ووجدانية ، خاضعة بدورها لانطباعات ذاتية أو موضوعية، أولضغوطات داخلية أوخارجية، أولإكراهات لانسقية.3 2- تطور الكتابة الشذرية عبر التاريخ: ظهرت الشذرة أول ما ظهرت عند فلاسفة اليونان، وبالضبط عند فلاسفة الطبيعة الكونيين (الكوسمولوجيين)، كطاليس، وأنكسيمندريس ، وأنكسيمانس ، وهيراقليطيس الإفسوسي، المعروف بمؤلف وحيد «في الطبيعة» ، لم يبقَ منه إلا مئة وثلاثون شذرة، طرح فيه أفكاره بأسلوب غامض؛ لذا لُقب بالفيلسوف الغامض. ونستحضر كذلك فيثاغورس ، وأكسانوفان ، وبارمنيدس ، وزينون الأيلي، وأنبادوقلس، وأنكساغوراس، ولوقيبوس، وديمقريطيس. وما يميز هؤلاء الفلاسفة ومحبي الحكمة أنهم قالوا بأن الكون له مجموعة من الأصول الطبيعية، كالماء، والهواء، والنار، والتراب، والذرة، واللامتناهي. ولكن لم يصلنا من كتاباتهم سوى شذرات قيلت في فترات متباعدة. ونذكر أيضا في مجال العلم والمعرفة العامة أب الأطباء أبقراط في كتابه:( Aphorismi ) ، ويحوي هذا المصنف نصائح وطرائق علاج طبية. وهكذا، تتكون الشذرة في الفلسفة اليونانية من عدد قليل من الكلمات، وتتطرق لجميع المواضيع، السامية منها والوضيعة، العلمية وغير العلمية. هذا، وقد كانت الشذرة في العصر الحديث، وخصوصا عند الفيلسوف والراهب الإنجليزي روجر باكون، تعبيرا عن فلسفة الشك ، وكانت الشذرة بعمقها اللافت للانتباه عدوة السطحية والسطحيين. ذلك أنه ليس بإمكان أي كان الابداع في هذا المجال إذا لم يكن مسلحا بما فيه الكفاية. وانتصر الفيلسوف الفرنسي باسكال أيضا للشكل الشذري في كتابه:” أفكار” ، وقد أسماه بنظام القلب أو الحدس. هذا، وتعارض الكتابة الشذرية في الفلسفة الحديثة والمعاصرة الغربية كل فكر نسقي، وتستعمل غالبا بمثابة سلاح هجائي ضد الزمن الراهن. روحها هي روح التمرد ، والثورة ، والرفض، والاختلاف، والتفكيك . وهي حقيقة مقلقة مبنية على أسئلة ماورائية وميتافيزيقية عويصة ، تعمل على الهدم والتقويض والتشظية.كما أنها فكر نقدي، لا نسقي، ولا قوانين لها غير قوانين الأنا. إنها كما قال نيتشه:”فن الخلود”. وتظهر الشذرة في هذه الفلسفة دائما في المابين، مع نهاية نظام قديم، وقبل بروز معالم نظام جديد. إنها شاهدة ومسجلة هذا التحول الدراماتيكي، هذا الفراغ الروحي أو العراء الترنسندنتالي الذي تعجز كل الأنساق عن فهمه، وتخاف الاقتراب منه. ويملك الشاذر( Aphoristiker ) طبيعة مقاتلة. إنه لا يخاف الصراع، بل هو يعمل واعيا على إشعال فتيله. إنه المعارض الأبدي بامتياز، أو كما قال عنه شليغل:”يوجد دائما في وضع هجائي”. وكذلك كان كارل كراوس الفيلسوف الألماني، لقد كان هدفه الأسمى هو النضال ضد الزمن، وأخذ هذا النضال شكل نضال ضد لغة هذا الزمن. لقد فضل كراوس الشذرة على كل فنون القول الأخرى، ذلك أنها وحدها من تستحق اسم فن الهجاء بامتياز. ويعني هذا أن الكتابة الشذرية هي كتابة إشكالية بامتياز، تطرح الأسئلة أكثر مما تطرح من الأجوبة، إنها أسلوب عالم فقد ثقته بقيمه وأشكاله، عالم يحن إلى بدء جديد. ولهذا، فإن الشذرة كما عبر عن ذلك فريدريش شليغل، فن يخاطب المستقبل والأجيال القادمة، ويظل معاصروه عاجزين في أغلب الأحيان عن فهمه أو تقبله. ومن هنا، فقد اختار كثير من الفلاسفة والمتصوفة والمفكرين استعمال الشذرات طريقة في التعبير والتفكير والتصريح. ويعني هذا أن هؤلاء قد استعملوا أسلوبا مقطعيا ينم عن حرية في الكتابة، ورغبة في الإفلات من الإكراهات التي يفرضها كل فكر فلسفي نسقي صارم. بمعنى أن الكتابة الشذرية هي كتابة التفسخ ، والتفكك، والاختلاف، والثورة على المقاييس المنطقية الصارمة، والتحلل من قواعد النسق الفلسفي المحدد. ومن هؤلاء المفكرين والمبدعين الذين استثمروا الكتابة الشذرية أسلوبا ومنهجا وطريقة ورؤية، نستحضر: الفيلسوف الروماني: شييرون (Cioran)كما في كتابه:” مختصر التفسخ/Précis de décomposition” ، وكتاب :”أقيسة المرارة/Syllogismes de l'amertume”، وكتاب :” اعترافات ولعنات/Aveux et anathémes”… ويرى شييرون بأن اختيار الكتابة الشذرية في الحقيقة لا” يعبر إلا عن نفور من التحليل والبرهنة، إلخ.إنه عبارة عن تنازل ليس أكثر ولا أقل. وفي الأخير، استقر ذوقي في هذا الشكل التعبيري الذي يتيح للمرء أن يترجم عن حالات مؤقتة ولحظات انفعالية، وإجمالا عن حقائق مؤرخة، جزئية ومتحيزة. …إن الشذرة عندي ليست هي كذلك، أو إن شئت فهي لاتولد أبدا من تلقاء ذاتها.إنها في غالب الأحيان خاتمة تحليل أو فكرة مكتوبة توفر على القارىء عناء خطى الفكر، فلاتعبر إلا عن وداع يبثه الفكر.لذا، لن تجد أي فيلسوف جدي كأرسطو أو هيجل يكتب شذرات.أما نيتشه فكان يفعل ذلك بسبب مرضه.”4 ونفهم من هذا أن الفلاسفة اليونانيين كانوا يستعملون في بناء أنساقهم الفلسفية على الحوار التوليدي، كما كان يفعل سقراط أو يعتمدون على أبنية حجاجية منطقية صارمة سواء أكانت استقرائية أم استنباطية كما لدى أرسطو أو ديكارت… بيد أن هناك مجموعة من المفكرين والفلاسفة الذين وظفوا الشذرات كمارك أوريليوس، وبلانشو، وباسكال، وجراسيان، وشنفور، ودسنوس ، ونيتشه في كتابه: ” هكذا تكلم زرادشت”5، ومنتاني (Montaigne) في مقالاته، وفاليري، ورولان بارت، والبلغاري إلياس كانيتي كما في كتابه:” شذرات”، وكافكا، وغيرهم. و يقول شييرون في حق الكتابة الشذرية:” في ما يخصني، حبي للتعبير المرح الخفيف الظل، وللاقتضابية والاختصار،هو الذي يحدوني إلى تبني التقليد الذي تتحدث عنه. وهذا الصنف، عموما، مشكوك فيه تارة ودال طورا، بما أنه يعبر عن الإنسان في لااستمراريته وهشاشته. ثم، ما الفائدة من بناء أنسقة لايفوتها أن تتهاوى وتضمحل؟ أما عن التقليد الذي تذكره [ يقصد الكتابة الشذرية]، فمارك أوريليوس وباسكال هما حقا ممثلاه الأكثر جدارة،لأن في كتابتهما طابعا شخصيا حادا ووحدة مقام. وهذا ليس حاصلا عند فاليري الذي خلف على الرغم من ذلك شذرات جميلة جدا.أما جارسيان فإنه يهتم كثيرا بالتدليلات.وعلى أي حال، فالكتابة الشذرية لايسعها إلا أن تستمد قوتها من رؤيا خاصة جدا للحياة…”6 ويلاحظ على شييرون، الذي وظف كثيرا الكتابة الشذرية، أنه يستعمل كتابة تقوم على قوة اللحظة والانفعال؛ ممايوقعه ذلك في التناقض والتكرار، كما يتجلى ذلك واضحا في نصوصه الكثيرة. ومن ثم، يؤكد شييرون ذلك بقوله:” التناقض ملازم للحياة نفسها. وبالتالي، لا أعيره أي انتباه في كتاباتي.أما التكرار، فإنه تأكيد وتعبير عن حالة ثابتة أو وسواس.إني من هؤلاء الناس الذين يتلقون الحياة كوسواس.”7 ويعني هذا أن شييرون يكتب أفكاره التأملية والفلسفية في شكل مقاطع وتفاريق وشذرات، تتحلل من كل مقومات الفلسفة النسقية القائمة على صرامة الحجاج الفلسفي، وضوابط التحليل المنطقي الاستدلالي.إنها في غالب الأحيان خاتمة تحليل، أو فكرة مكثفة توفر على القارئ عناء خطى الفكر(…)، كما تعبر عن الإنسان في لا استمراريته وهشاشته. ومن المعلوم، أن الكتابة الشذرية تتطلب باعا علميا طويلا، وتستلزم جهدا معرفيا كبيرا حتى تخرج إلى النور. وتتخذ هذه الكتابة أيضا بعدا ميتافيزيقيا أو موقفا من الحياة والوجود والمصير الإنساني. ومن هنا، فالنص الشذري نص نقدي، ونص رؤيوي ليس منغلقا، بل هو نص متعدد منفتح على قراءات لامتناهية العدد. وبالتالي، يهدف هذا النص المشتت إلى تخريب الهويات، وتفكيك لها،وتأكيد فلسفة الانفصال. إن الشذرة فكرة مكثفة أو بؤرة مكثفة اقتصاديا كما يرى جاك ديريدا، تعمل على توليد الاستعارات والانزياحات. ومن ثم، فالشذرة في جوهرها هي استعارة كبرى.وهنا، الاقتراب من الشعر. والآتي، فكتابة الصور البلاغية ضمن الكتابة الشذرية كتابة شقية وعصية على الالتقاط. وإذا كانت الفلسفة البنيوية تؤمن بالمنطق والعقل والنظام والاتساق ، فإن الفلسفات اللاعقلانية والتفكيكية تؤمن بالاختلاف، والتفكيك، وانهيار المعنى والمدلول، وتعبر كذلك عن هشاشة الإنسان، وانهياره أنطولوجيا ووجوديا وقيميا ومعرفيا. هذا، وثمة مجموعة من المبدعين والأدباء الغربيين الذين شغلوا الشذرات في كتاباتهم، واستعملوا مقاطع معنونة وغير معنونة، كما فعل الشعراء الرومانسيون الألمان8، والشاعرالإنجليزي توماس إليوت، والشاعر الفرنسي بول فاليري، ومالارمي، وريمبو، وبيير ألبير جوردان (Jourdan) في ديوانه الشعري:” السلام والوداع” الصادر سنة 1991م، وغيرهم من الشعراء الذين أغرموا بالكتابة الشذرية ، باعتبارها طريقة في التعبير ، ومسلكا منهجيا لصياغة رؤية تراجيدية، تفصح عن وضعية إنسانية هشة قوامها الملل والسأم والاستلاب والتفكك، دون أن ننسى كذلك الكتابة الرمزية والكتابة السوريالية التي أعلنت الرفض والتمرد ، فتبنت الكتابة الشذرية وسيلة للتعبير عن غرابة الواقع ولامعقوليته. ولا ننسى كذلك أدبيات المبدع الفرنسي إدموند جابي(Edmond Jabès) التي استعانت بالكتابة الشذرية طريقة في التعبير، ومنهجا في التشخيص والبوح والتأويل. هذا، ولقد اعتمدت الرواية الشعورية أو المنولوجية أورواية تيار الوعي في الغرب على الكتابة الشذرية منذ بدايات القرن العشرين ، وبالضبط مع جيمس جويس، وفيرجينيا وولف، وصمويل بيكيت، ومارسيل بروست…ونجد هذا النوع من الكتابة جليا في الرواية الجديدة عند ميشيل بوتور، ونتالي ساروت، والكاتب المغربي الفرانكفوني عبد الكبير الخطيبي… بل، ونجد هذه الكتابة الشذرية طريقة تعتمد في النقد والوصف والتأويل كما عند رولان بارت، وجاك دريدا، وموريس بلانشو، وعند كثير من النقاد الموضوعاتيين كجان ستاروبنسكي، وغاستون باشلار مثلا… ومن أهم الكتب النقدية التنظيرية في مجال الكتابة الشذرية، نذكر كتاب:” الكتابة الشذرية: التعاريف والمخاطر” لفرانسوا سوسيني أناستوبولوس9 ( François Susini- Anastopoulos )، وقد نشرت هذه الدراسة بفرنسا سنة 1997م… ، وهناك كتاب آخر تحت عنوان: ” الكتابة الشذرية: نظريات وتطبيقات” ، وهو عبارة عن نصوص ومقالات من جمع ريكار ريبول Ricard Ripoll))10. وإذا انتقلنا إلى الثقافة العربية،فإننا نجد مجموعة من الكتابات الشذرية، بما فيها آيات القرآن الكريم( السور القصيرة )، والقبسات النبوية الشريفة(جوامع الكلم)، والتجليات الصوفية والكتابات العرفانية التي اتخذت مع القرن الرابع الهجري شطحات شذرية متشظية كما عند النفري في كتابه: “النطق والصمت”11 ، وابن العربي،والحلاج… وقد عرفت الكتابة الشذرية كثيرا في حلقات الفكر والفلسفة أكثر مما عرفت في حقل الأدب والإبداع. وما الكرامات الصوفية إلا خير دليل على انتشار الكتابة الشذرية عند الصوفية، والأولياء الصالحين، والمجاذيب العرفانيين. وثمة مجموعة من المصنفات التراثية التي كانت تحمل اسم الشذرات، مثل كتاب: ” شذرات الذهب في أخبار من ذهب” لابن العماد الحنبلي، وكتاب” الفضة المضية في شرح الشذرات الذهبية” لابن زيد الحنبلي، وكتاب ” الشذرات الذهبية في السيرة النبوية” للعلامة الأديب أبي أويس محمد بو خبزة الحسني التطواني،وغيرها من الكتب التي كانت تنقر عنوانيا على لفظة الشذرة. هذا، وقد انتقلت الكتابة الشذرية حديثا إلى الشعر العربي المعاصر، فانصهرت في القصيدة النثرية كما عند أدونيس، ومحمد الماغوط، وأنسي الحاج، ومحمود درويش في “يوميات الحزن العادي “، و”حضرة الغياب”، ومحمد بنيس، ومحمد الأشعري كما يبدو ذلك جليا في ديوان:” كتاب الشظايا”، والشاعرة المغربية فاتحة مرشد في ديوانها الشعري:”مالم يقل بيننا”… وتعود القصيدة الشذرة في حقيقتها وأصولها ومنابتها إلى القصيدة اليابانية ” الهايكو” القائمة على سطور محددة، وخاصيات: التركيز ، والتناغم، والتبئير، والتشظي ، والاختزال… هذا، وتتمظهر الكتابة الشذرية قصصيا وروائيا في كثير من الأعمال السردية العربية شرقا وغربا، وخاصة عند الروائي المغربي بنسالم حميش في روايته التراثية:”مجنون الحكم”؛ إذ حاول بنسالم حميش نقل الكتابة الشذرية من الحقل الفلسفي كما في كتابه:”الجرح والحكمة” إلى الحقل الروائي، كما يتبين لنا في مقاطع عدة من الرواية (أنا الدخان المبين- الجلوس في دهن البنفسج…)، لخلق تقاطع فني ومعرفي بين الرواية والفلسفة. وتتميز هذه المقاطع الشذرية في رواية:”مجنون الحكم”بطابعها الوجداني الذاتي، ومقاطعها المسماة بعناوين فرعية، بله عن خاصيتها الشاعرية الإنشائية النثرية، وتدفقها الانسيابي، وتعدد الأنفاس الحكمية، وكثرة الخطرات القهرية، والشطحات الصوفية. فهل يريد بنسالم حميش بهذه الكتابة أن يحول الرواية إلى تأملات شذرية، ومقاطع لانسقية، لنتحدث في المستقبل عن الرواية الشذرية، بدلا من الحديث عن الرواية أو الحوارية؟ فهل يخالف حميش بهذه الكتابة ماذهب إليه ميخائيل باختين حينما أرجع الرواية إلى طابعها الحواري البوليفوني؟ لأن حميش يجعل الرواية خطابا شذريا يقوم على التفرد، والتذويت، والمسرود الذاتي، والاستغوار النفسي، والتأمل الشاعري، والشطح الصوفي. فهل ستنتقل الرواية من النسقية والتزمين والسردنة والتفضية والتعددية الشخوصية إلى رواية اللانسقية والحلولية والتوحد الفردي والاستبطان الذاتي؟!! وهل سنخرج مستقبلا مع بنسالم حميش من الكتابة الروائية إلى الكتابة الشذرية؟؟؟ هذه أسئلة مفتوحة نروم طرحها؛ لأن الرواية جنس أدبي مفتوح ، قابل للتكون والتطورالديناميكي. فثمة فعلا مجموعة من النقاد والباحثين والدارسين من يفكر اليوم في استبدال مصطلح الرواية بمفهوم الحوارية، وخاصة الروايات التي يطغى عليها الحوار من البداية حتى النهاية، كما يبدو ذلك واضحا في رواية:” أوراق” للمبدع المغربي عبد الله العروي. ونجد هذه الكتابة الشذرية كذلك بشكل جلي عند مجموعة من الأدباء والمبدعين في مجال السرديات، مثل: غادة السمان، وأحلام مستغانمي، ورجاء عالم….ونلاحظها كذلك عند كتاب القصة القصيرة جدا بشكل من الأشكال. 4- نماذج من الكتابة الشذرية: نقدم للقارىء مجموعة من الشذرات الفلسفية والفكرية والأدبية، لتبيان طرائق انكتابها دلالة وصياغة ومقصدية. ونبدأ بنموذج فلسفي للفيلسوف الروماني شييرون. وإليكم أهم نصوصه الشذرية: الشذرة الأولى : تفسير التردي من كتاب:” مختصر التفسخ”: ” كل منا ازداد بقدر من النقاوة المقدر لها أن تفسدها المتاجرة مع الناس، التي هي خطيئة في حق الغربة. فكل منا يفعل المستحيل حتى لايرتد إلى نفسه، والآخر ليس قدرا بل إغراء نحو التردي…عاجزين عن الاحتفاظ بأيدينا نقية وقلوبنا خالصة، فإننا نتدنس بالعرق الغيري، ونتمرغ في وحل الإجماع، متعطشين للتقزز، متحمسين للنتانة. وحين نحلم ببحار متحولة إلى ماء مبارك، يكون أوان ارتمائنا فيها قد فات، فيحول فسادنا العميق جدا دون غرقنا فيها: العالم قد غزا عزلتنا ؛ وآثار الآخرين علينا صارت لاتقبل المحو. في سلم المخلوقات، وحده الإنسان يلهم النفور المتواصل.النفور الذي توحي به الدابة نفور عابر، إذ إنه لاينضج أبدا في الفكر، في حين أن أمثالنا يسكنون أفكارنا ، ويتسربون في آلية انفصالنا عن العالم لتثبيتنا في نظام الرفض واللانخراط، نظامنا.وبعد كل محاورة تدل رقتها لوحدها على مستوى حضارة، لماذا يستحيل التأسف على الصحراء وأن نغبط النباتات أو منولوجيات عالم الحيوان اللامتناهية. إذا كنا بكل كلمة نحقق نصرا على العدم، فلكي نحسن تلقي سلطانه، إننا نموت بمقدار الكلمات التي نرمي بها من حولنا… والذين يتكلمون ليست لهم أسرار، والحال أننا كلنا متكلمون.إننا نخون أنفسنا ونستعرض قلوبنا، كل واحد منا جلاد اللامنطوق، يستميت في هدم الألغاز بدءا بألغازه هو.وإذا مالتقينا بالآخرين، فلكي نحط من قدرنا في سباق نحو الفراغ، أي إما بتبادل الأفكار وبالاعترافات أو بالمؤامرات. إن الفضول لم يثر السقوط الأول فحسب، وإنما أيضا كبوات كل الأيام العديدة.فليست الحياة سوى هذا التلهف للسقوط وتعهير توحدات الروح البكر بالمحاورة التي هي النفي السرمدي واليومي للجنة. وقد لايكون على الإنسان أن ينصت إلا لنفسه في شطح لامنقطع وللكلمة اللامبلغة وأن لايصنع إلا كلمات لصمته الذاتي وموافقات تلم بها حسراته وحدها، إلا أن الإنسان هو ذلك الثرثار الكوني الذي يتكلم باسم الآخرين، فأناه يحب الجمع والذي يتكلم باسم الآخرين هو دائما دجال، فالسياسيون والإصلاحيون وكل الذين يتحيزون لذريعة جماعية غشاشون، كذب الفنان وحده ليس كليا، بما أنه لايبتدع إلا لنفسه.وخارج الركون إلى اللاتواصل والتأرجح وسط انفعالاتنا الصماء، ليست الحياة إلا رجة في مدى لاعناوين فيه، وليس الكون إلا هندسة مصابة بالصرع…”12 الشذرة الثانية: دوار التاريخ من كتاب:” أقيسة المرارة” لشييرون: ” -1- الأحداث إن هي سرطان الزمان. -2- من آيات التطور أن بروميثيوس في أيامنا لن يكون سوى نائب في المعارضة. -3- إن ساعة الجريمة لاتدق في نفس الوقت لكل الشعوب.هكذا، يكون دوام التاريخ. -4- أحب هذه الشعوب من المنجمين، من كلدانيين وآشوريين وما قبل كولامبيين، وكلهم أصابهم الإفلاس في التاريخ بحكم ميلهم إلى السماء. -5- تنطفىء أمة حين تعجز عن التأثر بأجواق البواقين: الانحطاط هو موت الغيطة. ” الشذرة الثالثة من كتاب:” اعترافات ولعنات” لشييرون: ” أن يغير كاتب لغته معناه، أن يكتب رسالة حب مستعينا بالقاموس. *** لايلزم أبدا أن نطلب من اللغة بذل مجهود يخل بطاقاتها الطبيعية ولا أن نرغمها في كل حال على إعطاء أقصى ماعندها.علينا أن نتجنب المزايدة بالكلمات، مخافة أن تصير عاجزة عن جر ثقل المعنى وهي في حالة إنهاك. *** داخل لغة مستعارة نكون واعين بالكلمات، إنها لاتوجد فينا بل خارجنا.وهذا الفارق بيننا وبين وسيلة تعبيرنا يفسر لماذا يصعب أو يستحيل أن يكون المرء شاعرا في لغة غير لغته.فكيف يمكن استخلاص مادة كلمات ليست متجذرة فينا؟ إن الوافد الجديد يحيا على سطح الكلمة، فلا يقدر داخل لغة تعلمها متأخرا أن يترجم هذا الاحتضار الجوفي الذي ينحدر منه الشعر.”13 ويقول الروائي البلغاري العالمي إلياس كانيتي في شذراته: ” ميكانيكا الفكر أكثر الأشياء التي لا أستطيع تحملها. لهذا أقطع سيرها بعد كل جملة .المؤرخون الملتصقون بالأحداث، ينسون أهم شيء في التاريخ: عملية صنعه. سيكون من الصعب عليه الانفصال عن غوته. لقد اقتصد الشيء الكثير منه، وهو يوزع ذلك دائماً على السنوات المقبلة.لهذا الرجل لغتان، إحداهما ضاربة في التفخيم، يمتدح قلة من علية القوم، يسرقها، ينافقها، ودائماً في لغة سامية، كما لو أن لغته قادمة من السماء، ولا تضم أي كلمة أرضية. في اللغة الثانية يتحدث عن الشخصيات نفسها، لكن كما لو أنها منحطة مثله ولم تنتج سوى أعمال تافهة، ويسخر من الطريقة التي عاملتها بها الحياة، يغرقها ويغسلها في الغيرة والتقزز. لكنه لا يكتب هذا البتة، فهو لا يكتب إلا في اللغة الأخرى، اللغة المداحة. هجرت نفس العالم إلى سجن باذخ لا يعبره هواء فكيف بنفس. آه ابتعد، ابتعد عن كل ما هو مألوف وشخصي وقطعي. تخل عن كل ما هو معروف، وكن جريئاً، فمنذ قرون وأذانك المائة نائمة. كن وحيداً وقل لنفسك كلمات لا تتوجه بها إلى أحد، كلمات مختلفة، جديدة، كما أعطاك إياها نفسُ العالم. خذ الطرق المعروفة واكسرها بركبتيك. وإذا تكلمت إلى بشر فليكونوا من أولئك الذين لن تراهم بعد ذلك. ابحث عن سرَة الأرض، احتقر الزمن، واترك المستقبل يمضي، هذا السراب الخادع. لا تنبس البتة بكلمة سماء. وانس أن هناك نجوماً، ارم بها مثل عكاز. اذهب لوحدك في ترنح. ولا تقص جملاً من ورق. اغطس أو اصمت. أسقط أشجار النفاق: فليست أكثر من وصايا قديمة متنكرة. ولا تستسلم: نفس العالم سيمسك بك ويحملك. لا تطلب شيئاً، ولن يعطى لك شيء. عارياً ستعرف ألام الدودة، لا ألام السيد. واقفز عبر ثغرات الرحمة ألف قدم في الأعماق. فهناك، هناك فقط يهبَ نفس العالم.”14 وإليكم أيضا نصا شذريا معاصرا للبشير ونيسي: ” صفات 1 وحدي أكون بين الوجود والعدم. 2 وحدي أرى شكل الوجود ينهمر فوضى تلبس كل شيء . 3 وحدي أشك في سراب الجسد . 4 وحدي أبعث إرادتي من أجل النور . 5 وحدي أعرف منطق العدم المتلاشي في الوجود . 6 وحدي أعيد الوقت لجنة المحو . 7 أنا اسم يشتهي ماهيته في كل شيء. 7 أنا الوجود المتشظي في ماء الحياة . 8 أنا الوقت المتحول الى غواية الوجود. 9 أنا الجسد الفاتح لعتمة الروح . 10 أنا شكل النور والنار أرسم عناكب المدينة يوم الكرب العظيم . صفات 1 الوجود له معنى حين أحب . 2 الجسد له طقس حين أرى. 3 الوقت له سر حين أتلاشى . 4 النور له تجل حين أعرف. 5 العدم له أشكال حين أشك . 6 الروح له جنة حين أشتهي. 7 البرزخ فراشة حين أتوحد بك . 8 المعرفة شمس حين تدمغ قلبي. 9 الجنة أنثى حين أفنى . 10 الجحيم مرآة أرى فيها وجهي التائه “15. هذه أمثلة من الكتابة الشذرية التي يتقاطع فيها الشعري مع الفلسفي، والذاتي مع الموضوعي، وتتم هذه الكتابة عبر صياغة فنية قائمة على التفكك والتشذر والتقطيع ، وذلك من أجل التعبير عن هشاشة الإنسان، وتأكيد ضآلته الوجودية والكونية. 5- المقاربة النقدية الشذرية : لكل جنس أدبي منهجه النقدي، ومقتربه الوصفي والتحليلي، وأدواته التأويلية والتقويمية. لذا، فكرنا جليا في بلورة منهج نقدي خاص بالكتابة الشذرية سميناه بالمقاربة الشذرية (Approche fragmentaire)، وتتعامل مع النص الإبداعي الشذري سواء أكان قصيدة شعرية أم قصة أم رواية في ضوء مجموعة من المقاييس وآليات التشذير والتشظي، سيتم تحديدها منهجيا من خلال تركيزنا على نموذج روائي مغربي تحت عنوان:” ألواح خنساسا” لبنسامح درويش16. ¿ آلية التجنيس: من يتصفح رواية:” ألواح خنساسا” لبنسامح درويش، فإنه سيصدم حينما يعرف أن ما يقرؤه هو عبارة عن قصيدة شعرية طويلة يتخللها السرد المتقطع، والحكي المتشظي، حتى إن الخاصية الشاعرية هي التي تهيمن على الحكي ، وتستغرقه من المفتتح حتى المختتم. ومن هنا، فهذا النص الحداثي يربك القارىء تقبلا واستجابة، ويخيب أفق انتظاره الذي تعود عليه في القراءة أو التلقي، بل يؤسس مفهوما حداثيا جديدا لدى القارىء في التعامل مع الإبداع الروائي؛ لأن الكاتب يتجاوز السرد التقليدي والسرد الجديد على حد سواء. ومن ثم، فإن هذه الرواية أقرب إلى الكتابة الشذرية من النص الروائي الكلاسيكي المعروف بالمباشرة والشفافية على مستوى الإحالة والمرجع. كما يقترب هذا العمل من الرواية الشاعرية التي تحدث عنها إيف تادييه في كتابه:” المحكي الشاعري/Le récit poétique “، حيث يتقاطع فيه السرد مع الشعر17، أو تتقاطع فيه المشابهة (الاستعارة والتشبيه) مع المجاورة ( الكناية والمجاز المرسل) بمفاهيم رومان جاكبسون18. وبما أن الكاتب قد جنس عمله الشعري بكلمة:” رواية “، فعلينا أن نحترم مقصدية التجنيس والتعيين، ونتعامل مع النص على أنه رواية أدبية شذرية وشاعرية في وقت واحد. ¿ آلية التدليل: تصور الرواية بشاعة العالم السفلي في مقابل العالم العلوي، وتجسد قبح الكائن البشري في هذا العالم المنحط، الذي افتقد فيه الإنسان قيمه الأصيلة، وأصبحت القيم الكمية هي الأساس بالمقارنة مع القيم الاستعمالية أوالقيم الكيفية والمعنوية. بمعنى أن الرواية هي مسرحية تراجيدية تجسد سيمفونية الرعب والقهر والخوف والموت، كما أنها قصيدة السقوط ، والانهيار، والخيبة، والفشل، والتضعضع البشري، وضآلة الإنسان أمام القوى الخارقة الشريرة التي تطوقه بالحتميات العدمية والضرورات الجبرية. كما أن الرواية بمثابة لقطات شذرية “هيتشكوكية”، تثير التقزز والاشمئزاز من عوالم فانطازية غريبة مرعبة، قائمة على الخسة والدناءة والوضاعة من جهة، وعلى الدنس والتعفن والنجاسة من جهة أخرى: ” أنا خنساسا العظيم! هكذا صفعت المدى أول مرة، وشققت لنفسي اسما من قاموس الدنس….. وانبثقت ككل الآلهة من حيرة الإنسان، وخيبته وانكساره، انبثقت من فحيح المأزق الإنساني المقنع بالرفاه، وتربعت على رئة الأرض في رمشة قرن، ونفخت في جوارح الكون من لهاثي الأول الأول، كي تطيعني الكائنات، وتسعى مثابرة نحو اختناقها قربانا لي! هكذا شرعت بالسليقة أمارس وجودي المتعالي. أنا خنساسا الرب المهاب؛ أنا آخر سلطان على هذا الكويكب الدوار، وكل الآلهة ينبغي أن تدخل في طاعتي على الفور، وتعلن دون قيد بيعتها لي، هي التي لم تعد قادرة على امتلاك أفئدة البشر. سأطهرها من كيمياء الخيال الإنساني، وألبسها لباسا نوويا قشيبا، سأنفض عنها نقع الملاحم وسحر الأساطير، وأرشها بكولونيا الإبادة المنذورة للمأساة، سأعلمها كيف تقارع الحواسيب، وكيف تنفث السم الشهي في خياشيم الكون، سألقنها آداب الفتك البهيج، وأعلمها كيف تنهش قلب الأرض في بضع سنين، وكيف ترفع مخالب الحضارة إلى طبقة الأوزون… سأمدنها عن كثب!! وأمرن الرحيم الرقيق منها على القسوة والفتكوت، أنا إله هذا الفساد المترامي! فلتسمع كل الآلهة!؟ أنا خنساسا العظيم، وكل الآلهة ملزمة من الآن، بأن تأتمر بالأمر الذي به أنا….”19 يتبين لنا بأن الرواية تجسيد ممطط لمخاطر الفساد والحقد والبغي والشر البشري تخييلا وتخطيبا وتحبيكا في قالب فلسفي فانطاستيكي، مع تبيان آثاره الفظيعة على مصير الإنسانية. ومن ثم، فهذا المقطع السردي الشاعري بمثابة إعلان عن نية العدوان والإبادة والقتل والموت، واعتداء على فلسفة الفن والجمال باسم القبح والخسة والدناءة والدمار. وعليه، فرواية :” ألواح خنساسا” لبنسامح درويش هي رواية القبح البشري بامتياز. ومن ثم، فهي رواية شاهدة على انهيار الكائن البشري إنسانيا واجتماعيا، ودليل على تفككه ميتافيزيقيا، وموته وجوديا وأخلاقيا وحضاريا وثقافيا. ¿ آلية التوليد: تستند الرواية إلى بنيات دلالية عميقة ساهمت بشكل من الأشكال في توليد الرواية تمطيطا وتوسيعا وتفصيلا ، وتتخذ هذه البنيات العميقة طابعا منطقيا ودلاليا. ويمكن رصدها عبر تواتر المعاجم اللغوية، وتشابك الحقول الدلالية، وتحديدها كذلك عبر السيمات النووية والتشاكلات السيميائية ، وذلك من خلال تتبع المسارات التصويرية من العمق حتى السطح. وهكذا، فالرواية تتحكم فيها مجموعة من الثنائيات، مثل: الجمال والقبح، والحب والكراهية، والحياة والموت، والأمن والحرب، والسعادة والشقاء، والعالم العلوي والعالم السفلي، والروح والمادة… كما تستند الرواية ، من جهة أخرى، إلى مجموعة من التشاكلات الدلالية والسيميائية العامة، مثل: التشاكل الأسطوري، والتشاكل الديني، والتشاكل السردي، والتشاكل الطبيعي، والتشاكل الكوني، والتشاكل النفسي، والتشاكل الفانطازي، والتشاكل الوجودي، والتشاكل الفلسفي… ¿ آلية التخييل: تستند الرواية إلى أنماط عدة من التخييل الروائي، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على بوليفونية الرواية، وثرائها الدلالي، وغناها التخييلي، واعتمادها على التهجين، والأجناس المتخللة، والتناص، والأسلبة، والتنضيد، والتركيب بين الأجناس. ومن هنا، فالرواية عالم من الشذرات التأملية التي تجمع بين الشعر والسرد والفلسفة، كما أن الرواية نوع من التخييل الشاعري، والتخييل الحلمي، وهي كذلك تخييل فانطاستيكي تجمع بين التغريب والتعجيب، وتتأرجح بين الواقعي والخيالي، وتتردد بين المألوف والخارق. زد على ذلك، فالرواية خطاب إبداعي ميثولوجي يشتغل على المخيال الأسطوري لتغريب الواقع، وتجاوز بشاعته الفضة، وذلك باستعادة عالم الشعر والبراءة والانسجام والملحمة والكلية المفقودة، والهروب من نثرية الواقع، والتشظي البشري. علاوة على كون الرواية نوعا من التصوف والفلسفة ، ويتجلى ذلك في الانتقال من عالم البشاعة إلى عالم الجمال، ومن عالم المادة إلى عالم الروح، ومن العالم السفلي إلى العالم العلوي. ومن الشواهد الدالة على التخييل الفانطاستيكي داخل الرواية أن شخصيات الرواية شخصيات خارقة تتحول إلى كائنات كابوسية فظيعة تذكرنا برواية:” الجرذان” ليحي بزغود20 ، حيث يتحول فيها البشر إلى جرذان وقواضم فظيعة تنهب كل شيء في المدينة. ويقال الشيء نفسه عن رواية:”ألواح خنساسا”، التي يتحول فيها البشر إلى كائنات فانطازية مرحاضية خبيثة ، تولد من رحم العتمة والظلمة والسواد:” أفرغ حكير قدحه في جوفه دفعة واحدة، ثم عاد إلى مكانه بين حتشو وميرا وعادت الآلهة إلى الإطراء على الجواري باللمزات والغمزات والهمسات، وانشغل خنساسا بمداعبة قبضة زرزا الخلاقة، والتحم السكري أكثر من ذي قبل بقوس الآلهة، وراح خمبي يتسلل بين الجواري بسلاسة خفاش رشيق، وانبريت أتدبر مناصب سرد جديدة لتلك الثلة من الكائنات البشعة، التي ما أن نبست بها شفتا اللعين حتى تفتقت من رحم الظلام.”21 هذا، ويعد التحول من أهم سمات التخييل الفانطاستيكي، حيث نجد الكاتب في آخر الرواية يتحول إلى طاولة خارقة للغاية من أجل الإيقاع باللعين خنساسا الذميم:” كنت مجرد طاولة خرساء عند قدمي خنساسا؛ طاولة تحيط بمأزقها، وتعي ماترى وتسمع وتحس. وكانت أصابع اللعين تعفس على ظهري الممهد بين الفينة والأخرى لتوقد الغيظ في نفسي، وتضرم نيران المهانة في صدري.”22 وعليه، فرواية ” ألواح خنساسا” لبنسامح درويش رواية بوليفونية مركبة، تتخللها أجناس تخييلية متنوعة، تصب كلها في الفانطازي، والرمزي، والأسطوري، والشاعري، والشذري… ¿ آلية التشكيل: تنتمي رواية:” ألواح خنساسا” لبنسامح درويش ، وذلك على مستوى التشكيل الدلالي والذهني والإبداعي، إلى المدرسة التشكيلية السريالية؛ نظرا لوجود القبح والدناءة، والتأرجح بين الشعور واللاشعور، والانتقال من الصحو إلى اليقظة، ومن الواقع إلى الحلم. كما أن الرواية تصوير لعوالم مجردة في غاية من الغرابة والتناقض والاختلاف والكراهية والبشاعة، وتهدف الرواية كذلك إلى الهروب من الواقع الغريب إلى عوالم تخييلية فانطاستيكية بشعة، وأحلام متحررة من كبت القهر والرعب والخوف. ويعني هذا أن الرواية تتكىء على اللاشعور السريالي، وقوة الأحلام الهائلة، ناهيك عن غموض لوحاتها ، وتجريدها الفلسفي والميتافيزيقي والأسطوري، وتعبر هذه اللوحات عن حالة المبدع النفسية التي تعاني من التمزق والتشظي والتبعثر. وفي هذا الصدد، يقول الكاتب في آخر روايته:”توسدت ذراعي واستكنت أنظر شامتا إلى بقايا خنساسا على الأرض النتنة، حتى غفوت، وفي غفوتي تلك انحدرت الأحداث والوقائع حثيثة نحو قدرها الاعتباطي الذي نسميه النهاية؛ تعلقا بما يشع به مفهوم النهاية من معنى البداية.. وفي غفوتي تلك تلاشى سردي في رمال الروح؛ مثل نهر دافق يلقى حتفه غب الفيفاة.. وفي غفوتي تلك تحللت الحقيقة في إنبيق الوهم.. وفي غفوتي تلك تبخر القبح، وهل من سماء الحلم نثيث الجمال.. وفي غفوتي تلك اندحرت كوابيس الكتابة.. وفي غفوتي تلك التحمت الحياة بالموت.. وفي غفوتي تلك تماهى الوعي باللاوعي..وفي غفوتي تلك لاح لي السكري بيدين اصطناعيتين تتحركان بمنتهى المهارة والدقة، ولاحت لي اللآلات الحديدية الصفراء الضخمة تتقدم في تؤدة هادرة مثل عناكب عملاقة نحو جدران المحطة الطرقية القديمة.. وفي غفوتي تلك لاح لي هومي الحباك ينظر إلى العالم حواليه في حياد وبرودة كالمصاب بداء الزهايمر..”23 وهكذا، يتجلى لنا البعد السريالي واضحا في هذه الرواية المرعبة بكوابيسها المخيفة التي تنقلنا من عالم اللاوعي إلى عالم الوعي ، ومن عالم الأحلام إلى عالم الواقع، كأنني بالسارد في رحلة صوفية جوانية يهرب من ضغوطات الواقع ومكبوتاته للتحلق في عوالم شاعرية وشذرية لاشعورية، لسحق قوى القهر والمنع والكبت والحرمان. ومن ثم، فالرواية بمثابة لوحة تشكيلية سريالية تشهد على تحول فانطاستيكي ينطلق من عالم الغرابة نحو عالم الألفة.أي: إن الرواية في الحقيقة مغامرة سندبادية في عوالم الآلهة وأنصاف الآلهة. ¿ آلية التأجيل: تتميز رواية :” ألواح خنساسا” لبنسامح درويش بخاصية التأجيل الدلالي بمفهوم جاك ديريدا ، فهي لاتقدم لنا نفسها بنفسها مع بداية الرواية ، ولا تبين لنا وقائعها وأحداثها في مرحلة الوسط، ويعني هذا أن الكاتب قد أرجأ ذلك إلى نهاية الرواية، حيث يتلاشى الغموض الشذري شيئا فشيئا. و فهمنا في الأخير بأن سارد الرواية هو خنساسا الشرير، وقد آن الأوان للكاتب أن يتخلص منه، بعد أن تملك زمام السرد والحكي. والآتي، أنه دبر مكيدة نكراء لسارده ” خنساسا” المخادع المزيف، بتعاون مع السكري وابنه خمبي، رغبة في الحد من خيلاء خنساسا، وتألهه المتنامي، وفساده المتعاظم، والتخلص من جبروته المرعب، وسلطته الدموية. وفي هذا النطاق، يقول السارد الحقيقي:” ها أنذا أتولى بنفسي مقاليد الحكي، وأستأنف ما غاص من تفاصيله في حمإ المقلب الرهيب الذي دبره لي من غير سابق إشعار ذلك النذل المستهتر الذي فتقته في لحظة عنف جبارة من فضاء مرحاضي مشبوب بشرر الملاحم، وسميته الاسم الذي يرضى، وهيأت له آلهة تامة وأنصاف آلهة تدين له بالطاعة والولاء، وتواطأت معه تحت أجنحة الخفاء الدامس ضد غرمانه العتاة، ورففت له الأرض من دون الآلهة قاطبة، وصقلته لحظة لحظة.. بحنكة الأدباء الكبار، واستأمنته على سردي. استأمنته على سردي-ابن الكلب- فخانني! فها أنذا أمسك بتلابيب الوقائع على عواهنها بتقنية ربورتاجية ساذجة وتكنيك اعتباطي يعكس بشفافية ذلك الغمر من الارتباك الذي اكتسح أخاديد نفسي جراء ذلك الانفلات الغادر، والانقطاع المفاجىء لتيار الحكي، وتوقف ورشة الرواية على حين غرة؛ وإن كنت الآن أحاول بتبصر وحكمة عاليين، وخبرة متواضعة، أن أمهد مجرى للأحداث برفش التحليل والتأويل، وأسوسها إلى نقطة ما، فإنني في الآن نفسه أجهر بلعنتي على خنساسا، وإنني لن أقبل منه توبة- إن تاب- ولا اعتذارا، ولن يعود ثانية إلى رحاب ثقتي..إنني قد أهدرت لغته!!”24 وهكذا، يكون الموت المحتوم هو نهاية خنساسا المتجبر، بعد أن “تسلطن” وتعجرف وتكبر في الأرض والسماء ، وتمادى في تمرده وخيانته وفساده، ورفض الانصياع لأوامر السارد الرئيس:”خنساسا: (ترنح بقوة، ثم انهار في مركز القوس الإلهي). انطفأت الآلهة في رحاب الباحة؛ تاركة أطيافها في عيني برهة من الوقت، ولم يعد هناك سوى خمبى ؛ الواقف مشدوها بباب المرحاض، والسكري الذي كان يتقدم محاذرا نحو الجسد المنهار فوق أرضية الباحة الندية المشبعة برائحة البول والنفايات وزرزا التي كانت تهرول كالشبح الهلوع صوب البوابة الحديدية العتيقة. ركنت إلى المصطبة وكأن تلك الجثة الملقاة في باب المرحاض لاتعنيني.”25 وهكذا، لايمكن للقارىء أن يستجمع دلالات النص ومقصدياته المباشرة وغير المباشرة بشكل جلي وواضح إلا في الصفحات الأخيرة من الرواية، بعد أن يستدرجه الكاتب خطوة خطوة، عبر آليات التحفيز والتشويق والإمتاع والتطويع . آلية التقويض: يهدف بنسامح درويش في روايته:” ألواح خنساسا” إلى تقويض عالم القبح والخساسة والكراهية والموت، فهذا العالم الموبوء ليس عالما خياليا مفترضا أو عالما ممكنا، بل هو عالم واقعي يعيش فيه الإنسان المعاصر، هذا العالم الذي تطحنه الحروب والأمراض والأوبئة الفتاكة، وتطوقه التناقضات بشتى أنواعها، بله عن التلوث والكوابيس الرهيبة المخيفة. ومن ثم، يدين الكاتب هذا العالم الكابوسي المرعب، وينتقد بشاعته وشراسته ودناءته بالنقد والتفكيك والتشذير: ” يتها الآلهة، أيها الناس! إني أكلمكم من كل زمان ومكان، أنا الغريم الأزلي للزمكان، فقد آن الأوان ليتربع على حيرة الإنسان، إله قوي مثلي، يرتب لانهيار المدنية وأكسدة الحياة، ويشق لعجز الكائن البشري ميثولوجيا أخرى، تصب رأسا في نهر الهاوية.. في يم العدم الطلق. إني صعدت من صلب أنانيتكم لأريح الكون من شبهة الحياة، وليس لكم الآن سوى طاعتي، والارتماء في غيبوبة اليأس الوثير، فأنني لست أقبل بغير الأرض قربانا لي. فاتركوها لي! تغلبوا على عواطفكم واتركوها لي بلاشنئان، وتوبوا عما يقوله الفساق البيئيون منكم، اتركوا الأرض لي، أنضو عنها أوزونها الشفاف، وأطيبها باليود والنوشادر والسيزيوم والفوسيجين والسارين، وأدغدغ خصرها بيدين من زرنيخ ملتهب، وأعطر بأكاسيد الأزوت والكبريت هواء للعناق الأبدي، اتركوا الأرض الشبقية لي، أضمها ضما ضما جما حتى تختنق في رحاب حبي. توبوا إلي من غي التكنولوجيا، وسفاهة التقانة والعلوم، وخطيئة البيئيين في التكتل ضدي، دعوا الأرض قربانا لي، أقبلها بشقتين فوق بنفسجيتين، وأقطر في مسامها مليون برميل من الزئبق…… وأسيجها في الفضاء المترامي تابوتا سرمديا، ناووسا باذخا لذكرى الرب نرجس، حتى إذا عم الفناء واستويت على…. صحت في الأنوناكي أن اذكروا شهامة الإنسان، ولو إلى حين! واشربوا من البحر الأعلى؛ إنه سرة الأرض، اشربوا من بحر إيجه، ومن المجاري، اشربوا نخب هذا العدم الرغيد، نخب الأب الأول” إنليل”.”26 ومن هنا، فالكاتب يعبر عن رؤية سوداوية تراجيدية تجاه العالم، قائمة على التشاؤم والخيبة والسأم. ولاسيما أن الكاتب لا يؤمن إلا بقيم الحب والجمال والفن. فكيف يقبل – إذاً- عالما تسوده الحروب والأمراض والفقر والبشاعة، ويتحكم فيه القبح على حساب الجمال، وتطغى الكراهية على الحب، وينتصر الشر أحيانا على الخير، وتحتكم الشعوب إلى منطق الحرب على حساب فلسفة السلام، ويعم التلوث والأوبئة على حساب نقاء الطبيعة وصفائها الرومانسي؟!! ¿ آلية التحبيك : تفتقر رواية :” ألواح خنساسا” لبنسامح درويش إلى الحبكة السردية التقليدية المعهودة القائمة على الصراع الدرامي بين القوى العاملية(المرسل والمرسل إليه، والذات والموضوع، والمساعد والمعاكس). فهنا، تتراءى لنا حبكة شذرية شاعرية فانطازية، تنبني على تداخل الشعر والسرد، وتتحول الحبكة إلى خطابات منولوجية ذاتية وقصائد شعرية مغناة. بمعنى أن الرواية قصيدة شعرية تهيمن فيها الوظيفة الشعرية على الحكي السردي. وعلى الرغم من ذلك، فهناك حبكة سردية تشتغل على تناقضات العالم العلوي والعالم السفلي، والصراع بين عالم الغرابة وعالم الألفة ، والتنابذ بين عالم الفيزياء وعالم الميتافيزياء، والتأرجح بين عالم القبح وعالم الجمال، والتردد بين عالم الوعي وعالم اللاوعي: ” ترى، هل الإنسان هو العالم السفلي في ذاته؟ هل يحدث التردي النهائي للكائن عندما يهوى رويدا، في فضاءات الإنسان المظلمة؟ وهل سموت الآن حقا؟ وهل نجوت من سعير الحيرة وقرف الحياة البشرية؟ أي نعم! أنا الآن جوهر مغاير لما كنته، وكل شيء يخالط مزاجي أو يعلق بإدراكي، يصير خالدا ومستنيرا. وإن كنت ما أزال أحس بهزة من الارتباك تخالج كياني، كلما عن لي أن أعرف هل أنا سيرورة أم قطيعة، فيتراءى لي في كل رجة خيط من الظلام، يربطني مثل حبة مشيمة برحم العالم السفلي، وتلمع في أغواري نيازك فاتنة من الماضي المقرف السحيق، فأحس بها تقعص كينونتي وتشوش وجداني، فهل يليق بي أنا خنساسا العظيم، أن أحمل ولو بذرة واحدة من ذلك الحقير: هومي الحباك؟! ففي البدء كان الالتحام وحده، كان العالم السفلي ملتحما بالعالم العلوي في الماوراء، وكان النور والظلمة مضطجعين في زمكان واحد، وكان الإله والإنسان شحنة واحدة ترفل خارج المادة، وكانت الأرض متحدة بالسماء في غمرة السديم المستدام، ولما حدث الانفصال جراء اللذة القصوى، ظل كل نقيض يحمل ذكرى نقيضه، وظل كل غريم يتوق جاهدا للقضاء على غريمه، لكن ..بدون جدوى!”27 هكذا، يحتدم الصراع الدرامي بين السارد الحقيقي (الكاتب) والسارد المزيف (خنساسا)، كما يتضح ذلك جليا في آخر الرواية، حيث يسعى السارد الحقيقي للإيقاع بخنساسا الخائن، والتخلص من جبروته واستعلائه وتماديه في الفساد، كأني بالكاتب يتخلص من كوابيسه الواقعية اللاشعورية، التي أرغمته على سفر سندبادي غريب في مخيال فانطازي، تنديدا بالواقع البشري المتعفن بالذلة والرداءة والدناءة والخساسة. ¿ آلية التذويت: يهيمن ضمير المتكلم على معظم شذرات الرواية شعرا وتقصيدا؛ وهذا ما يقرب هذه الرواية بشكل من الأشكال إلى الشعر الغنائي الذي يستند كثيرا إلى ضمير الأنا أو ضمير المتكلم التفاتا وتعبيرا وانفعالا وإبلاغا، بل تتحول شذرات الرواية إلى خطابات شاعرية منولوجية يطغى عليها التذويت، والمناجاة، والانطواء على الذات، عبر أفعال البوح والتعبير والانفعال والشعور: ” لكن.. ماذا صنعت بحب الناس لي، كي أخشى الآن من كراهيتهم؟ ماذا يضير، إن أنا ذهبت رأسا لأوبخهم واحدا واحدا، برفع إكليل البشاعة إلى خياشيم البشر؟ أنا الذي شغلتني شؤون الذوق في شعشعان شبابي، واستدرجتني يوما فيوما، عاما فعاما.. إلى أبهى ورطة في الحياة، فانشغلت بكل ما أوتيت من لمعان القلب، بضبط أسارير الوجوه، وتخطيط صور شخصانية للأنبياء، والفلاسفة ، والآلهة، والأبطال، وسكان الأساطير، والملائكة، والشياطين..”28 بيد أن التذويت الشاعري لدى الكاتب سيتحول إلى ضمير شخصي مغيب ضمن منظور سردي موضوعي مع الفصل الثامن، ومعه سيتغير الفضاء البصري من حالة الانكسار السطري الشاعري إلى حالة النثر السردي. وبالتالي، سينتقل السارد من الرؤية الداخلية المبئرة إلى الرؤية الموضوعية المبأرة، كما يتضح ذلك جليا في هذا المقطع السردي:” كان من الضروري أن يلتزم خنساسا بالتصميم المسطر للرواية، وينتهج المسالك التي شققتها له بعد نظر عميق مدجج بشتى الهندسات، وأن لايتهور ويتسلل من سراديب الكتابة إلى ضوء الكينونة الفاضحة، ملقيا ظل جبروته علي أنا أيضا. كان عليه- على الأقل- ألا يغدر بي، ويغادر المستشفى في زحمة الزوار الخارجين؛ ليهرول هاربا عبر شارع البهلوان” جان بول”، ثم ليقف في مشتبك الطرق المحاذي لقصرالعدالة، متقمصا دور الشرطي يوقف حركة المرور؛ كأنما ليفسح الطريق لمرور موكب شخصية رسمية من شخصيات الدولة.”29 وهكذا، ينتقل الكاتب من خطاب التذويت الشاعري والشذري إلى الخطابين: المسرود والمعروض. وبذلك، تتغير الرؤية السردية من رؤية داخلية مشاركة إلى رؤية موضوعية محايدة. ¿ آلية التشذير: قسم الكاتب روايته إلى تسع شذرات أو لوحات شعرية مفصولة بالفراغ البصري، كما وزع الشذرة الواحدة إلى شذرات فرعية مفصولة بمربعات صغيرة دلالة على نهاية الشذرة، وانتقالا إلى شذرة أخرى. ويعني هذا أن الرواية خاضعة لمنطق التقطيع والتقسيم والتشتيت على غرار الكتابات الشذرية المعروفة في الفكر الغربي فلسفة وإبداعا وشعرا وسردا ومسرحا. وبالتالي، فكل شذرة في الرواية تستقل بدلالاتها ومقاصدها، وتشكلاتها البصرية الكاليغرافية، وتأملاتها الفلسفية، ووقائعها السردية. ويلاحظ كذلك أن ثمة مجموعة من اللوحات السردية الشاعرية قد قسمت إلى متواليات ومقاطع شذرية مفصولة بالفراغ أو نقط الحذف أوالمسافة البصرية الموسعة، كما يتضح ذلك واضحا في هذه اللوحة الشذرية: ” كانت أنواع من العطور شتى، تفوح بالمجان من السيدات، وتدشن اشتباكها السافر في البهو، في انتظار بداية العرض، لما بدأت بداية العرض، لما بدأت تستبد بأمعائي زخات المغص، وجلجلاته المتلاحقات؛ وبدأت خطواتي تختل، وأنا أحاول حبس السيلان، الذي يكاد زمامه يفلت من شرجي، حتى إنني اهتديت من تلقاء إستي إلى منهاج محنك في كبح الانفلات؛ بتسريب جرعة محسوبة بمنتهى الدقة، من سائل الأمعاء إلى الكيلوت،فجمعت لأول مرة في جسدي الواحد، بين لسع الوجع ودبيب الجمال، من خلال تصويب الذات نحو تضاريس العارضات. ثم…………………………………………… ثم..هرعت بمجرد إسدال الستار متماوجا نحو مرحاض المحطة.. المحطة الطرقية القديمة: البوابة الحديدية الخضراء ذاتها؛ المرحاض ذاته، الباب الخشبي المتآكل ذاته، الجدران المنقوشة…….اء ذاتها، القصعة الموزاييك الرقطاء ذاتها، والاختناق الأبدي ذاته. لم يكن ثمة بد من اقتحام العتمة، وتلمس موضع للقدمين؛ لم يكن ثمة بد من الإقعاء، لينهرق السائل الأصفر بسلاسة من إستي؛ كما لم ينهرق من قبل، محدثا هريرا ناعما يخطف الأسماع؛ ذاك الهرير السلس المتهافت الذي نفخ الغبطة في كياني، وجنحني بريش الابتهاج. فشرعت أهتك غشاء الغبش عن الأشياء حوالي، وأجز بمقص النور وبر المكان…”30 إذاً، فهذا النص قد تم تقسيمه إلى شذرات شاعرية وتأملية، مفصولة بالبياض البصري، والفراغ الأبيض، والمساحة البصرية الموسعة. ¿ آلية التشخيص: تستند الرواية إلى تشخيص الذات الموبوءة بالشر والقبح والطغيان والتسلط والعدوان. بمعنى أن خنساسا يحتفي بذاته الإلهية باعتبارها ذاتا لاتؤمن إلا بالقبح والكراهية واحتقار الآخرين: ” لكن.. ماذا صنعت بحب الناس لي، كي أخشى الآن من كراهيتهم؟ ماذا يضير، إن أنا ذهبت رأسا لأوبخهم واحدا واحدا، يرفع إكليل البشاعة إلى خياشيم البشر؟ أنا الذي شغلتني شؤون الذوق في شعشعان شبابي، واستدرجتني يوما فيوما؛ عاما فعاما.. إلى أبهى ورطة في الحياة، فانشغلت بكل ما أوتيت من لمعان القلب، بضبط أسارير الوجوه، وتخطيط صور شخصانية للأنبياء، والفلاسفة، والآلهة، والأبطال، وسكان الأساطير، والملائكة، والشياطين..”31 كما تشخص الرواية واقعا محبطا تنعدم فيه القيم الأصيلة، هذا الواقع أشبه بواقع كابوسي مخيف، يسود فيه القبح والكراهية والدنس والأوساخ البشرية. ومن ثم، يحيلنا هذا الواقع على نفس العالم الفانطاستيكي الذي شخصه بنسالم حميش في روايته:”سماسرة السراب”32. إنه أشبه بمطهر سلبي يتحول فيه الجمال إلى قبح وفضاضة وخساسة ودناءة، إنه عالم وحشي سريالي يتأرجح بين الوعي واللاوعي، يتحول فيه الإنسان إلى كائن شبحي مخيف، وإنسان مأساوي منحط، يثير التقزز والاشمئزاز. حتى إن أسماء الشخصيات(خنساسا، ولوتونيوس، وحكير، وحتشو، وزوا، وبدودو، وزرزا، ودديس، وزوسفانا، والسكري، وخمبي..) دالة على التعفن، والعري، والموت، والخساسة، والحقارة، والتدمير النووي، وانتشار الأمراض والأوبئة، وضآلة الإنسان قيميا واجتماعيا ووجوديا. ويعني هذا أن الشخصيات الموظفة في الرواية لاعلاقة لها بالجمال والحسن والصحة والسلامة والأمن، بل هي شخصيات أسطورية ولاهوتية خارقة ، تنتمي إلى عالم الشر والقبح والموت والكراهية، لاتعرف الرحمة ولا الشفقة ولا الإنسانية . وخير مقطع نصي يشخص لنا واقع الرواية مايصرح به خنساسا إله القبح والدمار والمكائد: ” هذه الأرض لي، أفتض أوزونها، وأقذف في أحشائها نطفتي الحارقة، عسى أن تحبل بموت وسيم مني.. مني أنا، وليس من سواي. أنا خنساسا العظيم! ليس بعدي سوى السديم والخراب العميم، هذه الأرض المضطجعة فوق بساط من أنانية الإنس، لي. وأنا أقدر المصائر فيها كما أشاء، فلنواضب الآلهة العظام، على جعل العروس مشتهاة بين ذراعي. وليعطر فستانها الشفاف الإله الصموت يوران بمزيد من اليود وأكاسيد النيتروجين، والفلور والأحماض والبروم والسيزيوم والكلور والزئبق، والنوشادر والزرنيخ والميثانول والسارين، وليسارع كل إله إلى ماهو منوط به!”33 هذا، وتخص الرواية نفسها بفضح اللعبة السردية، والتشديد على الوظيفة الشعرية للرواية، واستكشاف طرائق التحبيك والتخطيب ضمن ما يسمى بالرومانيسك، أو الرواية داخل الرواية، أو ما يسمى أيضا بالميتاسردي، كما يبدو ذلك واضحا في هذا المقطع النصي:”حسب التخطيط السردي الذي كنت- أنا الكاتب- قد ضبطته لروايتي هذه، كان من اللازم أن يقضي خنساسا وقتا أطول في المارستان؛ حتى يتسنى للأطباء، أن يقفوا على جملة من التناقضات المحرجة التي سيقع فيها دديس، وحتى يعهد لزرزا بشق آلهة جديدة تتولى بدورها خدمة كبير الآلهة تلك التواطؤات المريبة التي سطرت- حسب المجرى المرسوم لوقائع الرواية دائما- من أجل وضع خنساسا أمام اختيارات صعبة للغاية، ليختار في النهاية التخلي عن قناعه لديمومة الموت من غير أن يولي اعتبارا للمصير الحقير الذي كان سيؤول إليه دديس وزوسفانا اللذان شرعا من تلقاء ألوهيتهما يهتديان إلى تبديد حيرتهما المشتركة بالركون إلى بعضهما البعض، والتفاني في تدبير ما أنيطا به منذ البدء من لدن القبضة الخلاقة. كان من الضروري أن يلتزم خنساسا بالتصميم المسطر للرواية، وينتهج المسالك التي شققتها له بعد نظر عميق مدجج بشتى الهندسات، وألا يتهور ويتسلل من سراديب الكتابة إلى ضوء الكينونة الفاضحة، ملقيا ظل جبروته علي أنا أيضا. كان عليه- على الأقل- ألا يغدر بي، ويغادر المستشفى في زحمة الزوار الخارجين؛ ليهرول هاربا عبر شارع البهلوان جان بول، ثم ليقف في مشتبك الطرق المحاذي لقصر العدالة، متقمصا دور شرطي يوقف حركة المرور؛ كأنما ليفسح الطريق لمرور موكب شخصية رسمية من شخصيات الدولة.”34 ومن هنا، فالشخصيات التي تتضمنها الرواية شخصيات أسطورية وملحمية ورمزية تحمل في طياتها – كما قلنا سالفا- دلالات القبح والموت والدمار.كما أن مسمياتها العلمية خاضعة بشكل من الأشكال لعمليات الاشتقاق والسخرية والتحوير والتوليد كالسكري الدال على المرض والوباء، وبدودو الدال على التبذير والإسراف، ويدل بلوتونيوس ويوران على الدمار الكوني، ويشير حكير إلى الحقارة والزراية، ويحيل اسم حتشو بالأمازيغية على الفرج والحيض…ويعنى هذا أن الكاتب يوظف أسماء علمية غريبة غير معروفة في عالم الواقع و الألفة. ¿آلية التخطيب: استعمل الكاتب في بناء روايته وتخطيبها مايسمى بالرؤية المصاحبة أو ما يسمى بالمنظور الداخلي، حيث شغل ضمير المتكلم الأنسب للشعر والمنولوجات الطويلة، كما يظهر ذلك جليا في الرواية. كما أن الراوي حاضر داخل القصة بشكل من الأشكال، ويشارك باقي الشخصيات الأخرى في إنجاز الأفعال والأعمال. ويقوم هذا الراوي أو السارد في هذه الرواية بوظائف عدة، كوظيفة السرد الطبيعية، ووظيفة التنسيق، ووظيفة الانفعال، ووظيفة التبليغ، ووظيفة الأدلجة، ووظيفة التقويم… ويلاحظ أن هذه الرواية بوليفونية المنحى نظرا لتعدد الرواة والسراد على غرار رواية:”لبعة النسيان” لمحمد برادة35، حيث يتولى خنساسا السرد في البداية، ليحل محله الكاتب، بعد أن خانه ذلك الراوي الزائف:”يجوب [يقصد خنساسا] الأزقة والشوارع والساحات مثل فرس جموح، أو كأنما تسكنه صاعقة مراهقة، يجوب الأمكنة وأنا أتبعه على مضض، ينسف السابلة بسؤاله، يصافح الجدران مثل أشخاص يعرفهم، يحيي الفراغ، يقف على قدم واحدة، يرشف بلا استئذان من فناجين الجالسين حول طاولات المقاهي، يسير إلى الخلف، يقلد هرير السيارات بفمه، يقهقه، يرقص بلا ضوابط على إيقاعه الخاص، يقبل الشبابيك الأوتوماتيكية للأبناك بحرارة، يفرد ذراعيه كأنهما جناحان ويهم بالطيران، يصيح بأسماء الآلهة..حكير، زوا، بدودو، زرزا، يوران، بلوتونيوس، دديس، حتشو…ويتخذ في أماكن بعينها هيئة نصب تذكاري. فكان علي أن استرد زمام السرد! ها أنذا أتولى بنفسي مقاليد الحكي، وأستأنف ماغاص من تفاصيله في حمإ المقلب الرهيب الذي دبره لي من غير سابق إشعار ذلك النذل المستهتر الذي فتقته في لحظة عنف جبارة من فضاء مرحاضي مشبوب بشرر الملاحم، وسميته الاسم الذي يرضى، وهيأت له آلهة تامة وأنصاف آلهة تدين له بالطاعة والولاء، وتواطأت معه تحت أجنحة الخفاء الدامس ضد غرمانه العتاة، ورففت له الأرض من دون اللآلهة قاطبة، وصقلته لحظة لحظة.. بحنكة الأدباء الكبار، واستأمنته على سردي. استأمنتته على سردي-ابن الكلب – فخانني!”36 ويتمثل هذا التعدد البوليفوني في تنوع الأساليب (أسلوب شعري ذاتي وأسلوب سردي موضوعي)، والتأرجح بين الشعر والرواية. ومن ثم، “فالرواية المتعددة الأصوات ذات طابع حواري على نطاق واسع. وبين جميع عناصر البنية الروائية، توجد دائما علاقات حوارية.أي: إن هذه العناصر جرى وضع بعضها في مواجهة البعض الآخر، مثلما يحدث عند المزج بين مختلف الألحان في عمل موسيقي. حقا إن العلاقات الحوارية هي ظاهرة أكثر انتشارا بكثير من العلاقات بين الردود الخاصة بالحوار الذي يجري التعبير عنه خلال التكوين، إنها ظاهرة شاملة تقريبا، تتخلل كل الحديث البشري وكل علاقات وظواهر الحياة الإنسانية، تتخلل تقريبا كل ماله فكرة ومعنى.”37 وعليه، تتكىء الرواية أسلوبيا على التنضيد، والتهجين، والتناص، والأسلبة، وتداخل الأجناس الأدبية. ومن هنا، فلغة الرواية :”هي لغة منضدة طبقات، ومتعددة لسانيا بمظهرها الملموس الذي هو دلالي وتعبيري في نظر الغير. ويكون ذلك التنضيد له علاقة وثيقة بالأجناس الأدبية (تنضيد اللغة إلى أجناس)، فيكون الحديث عن اللغة الشعرية، واللغة المقالية، واللغة الصحفية،….وهناك تنضيد آخر نسميه التنضيد اللغوي المهني(تنضيد اللغة إلى مهن)، كأن نشير – مثلا- إلى لغة المحامي، ولغة الطبيب، ولغة السلطان، ولغة الفقيه، ولغة التاجر، ولغة السياسي، ولغة المعلم…إلخ. وهكذا، فجميع:” لغات التعدد اللساني، مهما تكن الطريقة التي فردت بها، هي وجهات نظر نوعية حول العالم، وأشكال لتأويله اللفظي، ومنظورات غيرية دلالية وخلافية. بهذه الصفة، يمكنها جميعا أن تتجابه، وأن تستعمل بمثابة تكملة متبادلة، وأن تدخل في علائق حوارية.بهذه الصفة، تلتقي وتتعايش داخل وعي الناس، وقبل كل شيء داخل وعي الفنان- الروائي الخلاق.وبهذه الصفة أيضا، تعيش حقيقة، وتصارع، وتتطور داخل التعدد اللساني الاجتماعي.ولأجل ذلك، تستطيع جميع اللغات أن تتخذ موضعا لها على صعيد الرواية الفريد الذي يمكنه أن يجمع الأسلبات البارودية للغات أجناس متنوعة، ومظاهر مختلفة من أسلبة وتقديم لغات مهنية ملتزمة، مع لغات أجيال تشتمل على لهجات اجتماعية وغير اجتماعية…جميع تلك اللغات يمكن أن يجتذبها الروائي لتنسيق تيماته، وتخفيف حدة التعبير (غير المباشر) عن نواياه وأحكامه القيمية. لأجل ذلك، نلح باستمرار، على المظهر اللغوي، الدلالي والتعبيري. أي: القصدي، لأنه القوة التي تنضد وتنوع اللغة الأدبية، ولا نولي نفس الاهتمام للعلامات اللسانية (زخارف المفردات، وتناغمات المعنى، إلخ…) في لغات الأجناس والرطانات المهنية وغيرها، لأنها، إذا جاز القول، رواسب متحجرة عن سيرورة النوايا، وعن العلامات التي أهملها العمل الحي الذي تنجزه النية المؤولة للأشكال اللسانية المشتركة.إن تلك العلامات الخارجية، ملحوظة ومثبتة من وجهة النظر اللسانية، لايمكن فهمها ودراستها بدون فهم تأويلها المقصدي.”38 ويعني هذا أن اللغات والأساليب التي يستعملها الكاتب أو السارد الضمني تحمل في طياتها مواقف إديولوجية مختلفة. وبالتالي، تتحول تلك اللغات المنضدة والمهجنة إلى أقنعة دلالية ورمزية وسياسية في خدمة أطروحة الكاتب وأطروحات شخصياته المتصارعة. وعليه، ينتقل الكاتب من أسلوب التذويت، والبوح، والاعتراف، والتصريح المباشر في شكل حوارات داخلية ومنولوجات طويلة مبنية على ضمير المتكلم، إلى السرد الموضوعي القائم على الخطاب المسردن تارة(هيمنة السرد)، والخطاب المعروض تارة أخرى(هيمنة الحوار)، ويوجد كذلك ما يسمى بالأسلوب غير المباشر الحر الذي يختلط فيه كلام الشخصية مع كلام السارد، ويصعب التمييز بينهما بشكل جلي. وإليكم نموذجا من الخطاب الذاتي الذي يتخذ شكل منولوج شاعري قائم على ضمير المتكلم وهو على لسان خنساسا: “فها أنا أتطلع نحو الأعلى عسى أن أقرأ في الأعلى مصيري، وأطل نحو الأسفل عسى أن أتبين قعر الهاوية. وهاأنذا ألتف حولي، وأعرض العمر في شريط سريع، وأستحث كل التفاصيل على النهوض في مفازاتي، وإن كنت أعترف للسديم بالثقوب التي أحدثها القلب في السحايا، فإنني مازلت أذكر ومضات الفتوة، ونظرات الخليلة التي فرت من حصة الفيزياء، لتجلس قربي فوق مصطبة المحطة الطرقية؛ تحرسني من الأخريات، في انتظار إقلاع حافلة الغياب. مازلت أذكر الجلبة والهدير والسحنات والسخام والجدران.. والمتسولين بالكمنجة والطر، والمشعوذين والنشالين ورنين القرابين..”39 وقد يتحول هذا الأسلوب الحواري إلى حوار داخلي، يعبر عن التمزق النفسي، والصراع الداخلي، والتبرم من هذا العالم الفانطازي الملوث: ” كان الضوء المنظم لحركة المرور جاحظا في أعلى العمود الحديدي الأخضر يغير لونه بانتظام وانضباط؛ لكن بلا معنى، وكنت أحدث نفسي في لجة اللغط المتنامي: هل كنت قادرا على زرع كل هذه البلبلة والفوضى بمجرد وضع الكون في حضن طقس فانطازي؟ هل كنت قادرا على استفزاز سهو الناس وصحوهم في نفس الآن، بمجرد خيانة طفيفة اقترفها في حقي إله حقير؟ هل أفجر نفسي- هكذا- في فضاء عمومي، وأصيح في الناس أن هو إلا كائن من علكة الخيال؟ هل يمكن أن يكون هذا الذي أرى كله كابوسا سينطفىء بعد حين؟.. هل أكون قد جننت من غير أن أعلم؟!”40 ومن جهة أخرى، يستعمل الكاتب الأسلوب غير المباشر الحر كما في هذا المقطع السردي:” هكذا تكلم اللعين المتنطع خنساسا، وهو يفتتح حفل الاحتفاء به؛ فيما كانت الآلهة تنصت مشدوهة لرنات كلامه، وتتطلع بكل انبهار وخشوع إلى كل نأمة ينأم بها، فخض خلايا ذهني أن أسترد سردي فألفيه- مرة ثانية- قد استقل عني، وانساب عبر مساربه المسطرة كما لو كنت أنا سائسه! يالفظاعة عراني من الجدوى! إخ من هذا السرد القحوب ينصاع حتى لشخوص من علكة الوهم!!”41 وتستند اللوحات الشعرية الشذرية كذلك إلى مجموعة من الآليات التعبيرية كالتوازي، والتكرار، والتجنيس، والمشاكلة، والالتفات، والمطابقة، والمقابلة، والمماثلة، والانزياح، والاستعانة باللازمة الشعرية والسردية (أنا خنساسا)… ¿آلية التوصيف: من المعلوم أن الوصف ينصب على الشخصيات، والأمكنة، والأشياء، والوسائل. ومن هنا، فقد حظيت الشخصيات في رواية:”ألواح خنساسا” بحصة الأسد، باعتبارها كائنات أسطورية فانطازية غريبة غير مألوفة في عالمنا الواقعي هذا. بمعنى أنها شخصيات تألهت وتأسطرت لتسحق بني البشر بالقوة الخارقة والبطش النووي.وقد استعمل الكاتب في وصفه الاستعارة، والتشبيه، والنعت، والتمييز ، والحال، واسم التفضيل، والمجاز، والسخرية:” كان خنساسا هائج الأبعاد،صاعق النظرات، متوفز الملامح، بادي الكشكوشة عند ملتقى الشفتين، لايستطيع أحد أن يقترب منه ؛ وهو يصرخ باسترسال ولهفة في وجوه الجماهير: إلى أين؟ إلى أين؟ فأحسست أن هذا السؤال الذي يسكن خنساسا نابع من صلب رؤيتي للعالم، كنت أنا نفسي سأجعله في موقف ما يطرحه في وجه الإنسان، ووسعت إدراكي لمحنتي، واهتديت إلى رحابة الصدر وضرورة التعامل مع أوقاتي العصيبة بمزيد من السياسة والدهاء، عسى أن يعود خنساسا من تلقاء عصيانه إلى مجرى الواقع كما هي مسطرة في تصميم الرواية. كان يسقسق وراءه عدم خاطف! يضرب في أعماق المدينة وأنا أتبعه.. يجوب الأزقة والشوارع والساحات مثل فرس جموح، أو كأنما تسكنه صاعقة مراهقة، يجوب الأمكنة وأنا أتبعه على مضض، ينسف السابلة بسؤاله، يصافح الجدران مثل أشخاص يعرفهم، يحيي الفراغ، يقف على قدم واحدة، يرشف بلا استئذان من فناجين الجالسين حول طاولات المقاهي، يسير إلى الخلف، يقلد هرير السيارات بفمه، يقهقه، يرقص بلا ضوابط على إيقاعه الخاص، يقبل الشبابيك الأوتوماتيكية للأبناك بحرارة، يفرد ذراعيه كأنهما جناحان ويهم بالطيران، يصيح بأسماء الآلهة..حكير، زوا، بدودو، زرزا، يوران، بلوتونيوس، دديس، حتشو…ويتخذ في أماكن بعينها هيئة نصب تذكاري.”42 وقد أسبغ الكاتب على شخصياته صفات القبح، والسوداوية، والفضاضة، والدناءة، والخساسة، بل إن شخصياته شخصيات فانطازية مرحاضية تقتات البراز، والقيح، والحيض، وتتلذذ بالأوبئة والأمراض الفتاكة. أي: إنها شخصيات ملوثة منحطة وموبوءة كشخصيات ألبير كامو، وكافكا، وبنسالم حميش في روايته:”سماسرة السراب”، ويحيى بزغود في روايته:”الجرذان”.. وفي هذا الصدد، يقول السارد واصفا شخصياته المرحاضية الدونية:”كان خمبي بكوبه البلاستيكي ذاته قد شرع في نقل رحيق القصعة الرقطاء إلى شفاه الآلهة،وبدأت باحة المرحاض تمور بكائنات وشخوص لم تكن مسجلة بالمرة في جذاذتي الخاصة بهذه الرواية، كائنات تتفتق تباعا من رحم الظلمة، وتتحرك في ألفة وتبرج وغنج في أحضان القوس الإلهي، كائنات شرشفت عيون الآلهة بشراشف الشبق وخلبت ألبابهم، وصرفت أنظارهم عن طلعة خنساسا، ودب في عروق الأنوناكي نسغ النزوات، وانفتحت أسارير الآلهة عن مشاعر القرف والاشمئزاز، حتى كدت أهب واقفا من لسع الحنق ولطم المهانة، وضنك تدبير العيش والسرد لشخوص جديدة بتلك البشاعة والكثافة، واستحضرت بيني وبين نفسي- بالموازاة مع مأساتي- مقياسا راجحا لدرجات الحنق، من خلال استحضار مشهد امرأة يفاجئها بعلها بكوكبة من الضيوف قبيل ميقات النوم، فلا تجد سوى المطبخ مكانا مناسبا للانفجار!”43 وهكذا، ينقر الكاتب من خلال وصفه هذا على ثنائية المقدس والمدنس، والهامش والمركز، للتنديد بعالم التناقضات الذي انحط فيه الإنسان، وتقزم وجوديا، وتهاوى قيميا في الحضيض. علاوة على ذلك، يصف الكاتب كذلك أفضية فانطازية تتأرجح بين الغرابة والألفة، وبين الواقع واللاواقع.ويعني هذا أن التخييل الفانطاستيكي الغريب هو الذي يتحكم في تقنية الوصف المكاني، حينما يفتقد المعنى، وتغيب الدلالة، ويتحول المعقول إلى لامعقول:”كان الضوء المنظم لحركة المرور جاحظا في أعلى العمود الحديدي الأخضر يغير لونه بانتظام وانضباط؛ لكن بلا معنى، وكنت أحدث نفسي في لجة اللغط المتنامي: هل كنت قادرا على زرع كل هذه البلبلة والفوضى بمجرد وضع الكون في حضن طقس فانطازي؟ هل كنت قادرا على استفزاز سهو الناس وصحوهم في نفس الآن، بمجرد خيانة طفيفة اقترفها في حقي إله حقير؟ هل أفجر نفسي- هكذا- في فضاء عمومي، وأصيح في الناس أن هو إلا كائن من علكة الخيال؟ هل يمكن أن يكون هذا الذي أرى كله كابوسا سينطفىء بعد حين؟.. هل أكون قد جننت من غير أن أعلم؟!”44 وقد يختلط الوصف الشخوصي بالوصف المكاني، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الرواية ذات طبيعة مزدوجة: رواية شخوصية ورواية مكانية بامتياز. لكن تشترك الأوصاف كلها في البشاعة والغرابة والقبح:” جلس خنساسا واضعا يديه فوق ظهري الممهد، وقد تحلقت حوله الآلهة في هيئة قوس تلقائي بديع،- لم تكن هندسته مسطرة بذلك الشكل في جذاذتي الخاصة- قوس يبدأ من اليسار برب المجاري حتشو الفتي الممسك بباب المرحاض في مباهاة وخيلاء،ويمتد من خلال حكير القاعد أرضا قعدة المنصهر في طقوس اليوغا، فربة الضوضاء ميرا المشرئبة بعنقها بحثا عن جرعة ضجيج تداري بها هدوء المجلس، فبدودو المفتون في نفس الآن بسيد الآلهة، وبما يعتمل فوق المصطبة من أنين وزفرات وسعال، فزوا الجذلان دوما بسريان شريعته في أرجاء الأرض، فيوران المعتد بفحولة أكاسيده، وينتهي القوس إلى اليمين عند بلوتونيوس المستلقي باستهتار فوق دولاب شاحنة؛ مشيحا بوجهه قليلا عن سيد الآلهة الذي تعلقت بمقامه العيون في انتظار إعلانه عن افتتاح الحفل الكبير، وقد وقفت زرزا بانضباط إلى جانبه قريبا جدا من رأسي المعقوف فيما كان خمبي يقتعد طوبة إسمنتية مجوفة بباب المرحاض العمومي المخنوق، والسكري ينتصب كالحارس المتوفز الحواس عند نقطة منحنى القوس الإلهي؛ مندغما بمعطفه الأسود بحلكة الظلال الليلة التي رسمت حدودها الثابتة الأضواء الهاربة وجدران المحطة العتيقة، فاصلا بين عالم الإنس فوق المصطبة، وعالم الآلهة في باحة المرحاض.”45 ولم يقتصر وصف الكاتب على الشخصيات والأمكنة والأشياء، بل اهتم أيضا بوصف الوسائل، كوصفه للسيارات في مدينة موبوءة بالعبث والفوضى والضجيج :” كنت محشورا بطريقة هتشكوكية بين الجمهور الواقف ببلاهة على الأرصفة، يتابع ذلك المشهد في توتر وحرج وانفعال محتدم تحت ضغط جعيق السيارات والشاحنات والحافلات المكبوحة في صف طويل يندى له الجبين؛ من غير أن أتمكن من السيطرة على الموقف، أو اقتناص فرصة جانبية للتفاوض مع الإله خنساسا المنفلت من عقال الكتابة.”46 ¿ آلية الحذف والإضمار: تستند رواية:” ألواح خنساسا” لبنسامح درويش إلى آلية الحذف والإضمار ، باستعمال نقط الحذف الدالة على الفراغ التي تستلزم من المتلقي ملأها وتأويلها في ضوء معطياتها الإحالية والسياقية والتداولية. وغالبا ما يلتجىء الكاتب إلى تشغيل نقط الحذف لأسباب دينية وسياسية واجتماعية وأخلاقية. بمعنى أن ثمة طابوهات تمنع الكاتب من استعمال لغة الوضوح والمباشرة والشفافية، والانتقال إلى لغة الإضمار والتكنية والتورية والترميز من أجل إشراك القارىء في فعل القراءة والتأويل، وبناء النص الروائي. وقالما نجد شذرة روائية لايوجد فيها الحذف والإضمار والتكثيف: ” هومي خذروف فلسفي يدور في مركز الذاكرة، يثقبها عن كثب. هو صرير نرجسية الإنسان. هو حصيلة مركز لمأساة الكائن. هو الإيقاع النهائي لنشيد الكون. إنه بؤرة تناقض مريرة ونقطة تطاحن شرس، بين عالمين متنافرين، فهو وإن كان يبدو متوازنا في مجمل علاقته بالآخرين، يظل متفردا، خارقا، مسكونا بتيار غامض، تنتابه من حين لآخر نوبات نوارنية مذهلة، وتظهر على مسلكياته أعراض جوهر مغاير، لكنه الإنسان المألوف، لايطيق أبدا لعنة النظافة ولا يشتهي ما يشتهي أقرانه، حتى وسعته رحمة الأمراض وشملته بحدب الألم، واكتسحت جسده الغض بثور وتقرحات جلدية…… تنز بقيح دافق….. مزركش بخيوط دموية دقيقة وفاتنة، سرعان مااهتدى إلى مداعبتها برأس لسانه الكرزي؛ المشبع بالمذاق…الخالص، متنافسا والذباب الملائكي الأزرق، على امتصاص نزيزها…”47 وعليه، فرواية:” ألواح خنساسا” لبنسامح درويش رواية الحذف والإضمار بامتياز، ويعني هذا أن الكاتب يوصل عبر هذه الآلية السردية مجموعة من الرسائل المسكوت عنها ترميزا وتلميحا وتعريضا وتلويحا. ¿ آلية التزمين: يتسم الزمن في رواية:” ألواح خنساسا” بكونه زمنا فنتازيا منكسرا، بعيدا عن زمن التعاقب والتسلسل الذي نراه في الروايات التقليدية الواقعية أو الرومانسية. بمعنى أن زمن الرواية يتخذ بعدا شاعريا في المتوالية الشاعرية الأولى ليتخذ بعدا فانطازيا في المتوالية السردية الثانية. ويمكن القول بأن هناك زمنين متجاورين: زمن خنساسا الدائري والمغلق في الانطواء والجبروت والتسلطن، وزمن الكاتب المفتوح القائم على رغبة الانتقام من خنساسا الخائن. ويتسم هذا الزمن كذلك بكونه زمنا شذريا متقطعا دائريا في المتوالية الشاعرية، وينماز بالتذويت، والشاعرية الغنائية، والانسياب المسترسل. كما يتحول إلى زمن سردي غرائبي يقوم على المفارقة الخارقة، والتشظي الأسطوري، والتخييل المجازي. ¿ آلية التفضيء: تتخذ الرواية فضاء بصريا يتقاطع فيه فضاء الشعر المنكسر – الذي يذكرنا بالقصيدة النثرية – وفضاء النثر الذي يهيمن على المتوالية السردية في آخر الرواية. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الرواية تندرج ضمن الكتابة الشذرية التي تجمع بين الشعر والتأمل الفلسفي، أو تندرج ضمن المحكي الشاعري؛ نظرا لتقاطع الشعر (وظيفة المشابهة) مع السرد(وظيفة المجاورة). أما على مستوى فضاء النص، فتدور أحداث الرواية في فضاءات فنطاستيكية غريبة ، وأمكنة موبوءة بالمحن والإحن والكراهية والسوداوية. إنها فضاءات كابوسية وغريبة ومدنسة، تذكرنا بفضاءات رواية السجن السياسي، ويلاحظ أن أغلب هذه الفضاءات مرحاضية بامتياز. وهذا الفضاء جديد في الرواية العربية، حيث تبدأ الرواية بالفضاء المرحاضي لتنتهي بالفضاء نفسه، وترتبط به فضاءات أخرى لاتختلف عنها بحال من الأحوال في قبحها وعريها ودناءتها:”كأنني كنت أحدس أن خنساسا المنفلت بسلطانه، يتجه رأسا صوب مجلس الآلهة، وأنه سيعود إلى مرحاضه ليلعق من قصعته الرقطاء، فكان علي أن استنفر كل دهائي لأتسرب إلى عقر الأنوناكي، ولم يكن ثمة بد من مساومة السكري، فهرعت إليه مثل أي زبون مفعم؛ دفعت به الأوجاع إلى مرحاضه المخنوق، فحياني بعينيه وهزة من رأسه، ثم عاد إلى إطراقته واستغرق يتأمل الجدار العتيق في خشوع. كأنني عكرت عليه صلاته! أشرت إليه أن يقترب مني، فانقاد لإشارتي بما عهدت فيه من طاعة وخنوع، ثم وضعت يدي بحميمية عند ملتقى كتفيه، فانساق لرغبتي في الانفراد به بلا عنت، وانتحينا شبه متلاحمين بعيدا عن باب المرحاض الذي كان يبدو حينئذ مواربا للغاية..”48 ويضع الكاتب نهاية مأساوية مخزية لشخصياته الإلهية المتجبرة، فيوقعها في فضاءات مرحاضية، كما حدث لخنساسا التي لقيت حتفها في فضاء يتفوح بولا وقذارة ودنسا، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مصير كل متجبر في الأرض، فنهايته مرتبطة بمزبلة التاريخ:” انطفأت الآلهة في رحاب الباحة؛ تاركة أطيافها في عيني برهة من الوقت، ولم يعد هناك سوى خمبي؛ الوقت مشدوها بباب المرحاض، والسكري الذي كان يتقدم محاذرا نحو الجسد المنهار فوق أرضية الباحة الندية المشبعة برائحة البول والنفايات وزرزا التي كانت تهرول كالشبح الهلوع صوب البوابة الحديدية العتيقة. ركنت إلى المصطبة وكأن تلك الجثة الملقاة في باب المرحاض لاتعنيني.”49 وهكذا، ففضاءات رواية:” ألواح خنساسا” فضاءات فانطازية متعفنة ومشينة، تذكرنا بفضاء العتبة عند ميخائيل باختين، ذلك الفضاء القائم على المآسي والأزمات الإنسانية المصيرية. ¿ آلية التصوير: تعتمد الرواية على مجموعة من الوسائل البلاغية التصويرية ، كاستعمال التشبيه، والاستعارة، والمجاز المرسل والعقلي، والكناية، والرمز، والأسطورة، وخاصة في المتوالية الشعرية التي تحول فيها النص إلى قصيدة شعرية حبلى بالصور البلاغية والأسلوبية التي تقرب النص الروائي إلى قصيدة شعرية طويلة، يطغى فيها الأنا والمجاز والرمز بشكل لافت للانتباه كما في هذا المقطع السردي الشاعري:” كان حتشو يوزع أقداحه على الآلهة بلا انقطاع، فاختلطت الأنخاب حين انضاف إلى توزيعها بدودو بعد عودته إلى موضعه من القوس الإلهي، وارتفع هرج الآلهة، وكشفت الجواري عن بشاعاتها، وتغنت بآلام البشر، وأطلقت الربة ميرا العنان لألحانها الصاعقة، وتحركت زرزا تصب للآلهة رشفات مما أمرت بصبه من لدن خنساسا، وبسط الإله زوا في مركز القوس الإلهي ما في جعبته من أوبئة وأخماج، كمن يقدم طبقا من الفواكه جمعته مشيئته من مختلف القارات.”50 وتأسيسا على المقطع السردي السابق، يوظف الكاتب في هذا المقطع التصويري صورة المشابهة القائمة على التشبيه (كمن يقدم طبقا من الفواكه…) والاستعارة(كشفت الجواري عن بشاعاتها…)، والصورة المجاورة المبنية على الكناية (حتشو كناية عن آلهة المجاري، وزوا آلهة الأوبئة والأخماج..) ، والمجاز المرسل (ارتفع هرج الآلهة…)،والمجاز العقلي (جمعته مشيئته، فاختلطت الأنخاب…)، والصورة الرؤيا القائمة على الرمز(بدودو رمز الفقر والتخلف، وحتشو وزوا رمزا الأمراض والأوبئة)، والأسطورة(الأسماء الأسطوية). ¿ آلية التضمين: يتستلهم بنسامح درويش في رواياته مجموعة من النصوص المضمرة التي تنتمي إلى المتن الروائي العالمي كروايات كافكا وألبير كامو وصمويل بيكيت وغيرهم من كتاب الرواية الحداثية، ناهيك عن تأثره ببعض كتاب الرواية المغربية كبنسالم حميش، ويحيى بزغود، وعزالدين التازي، ومحمد شكري… كما يضمن نصوصه خطابات فلسفية وأسطورية ودينية وتاريخية وأدبية واجتماعية، دون أن يغض الطرف عن الأدب الشعبي كما في هذا المقطع السردي الشاعري: ” في أواسط شتنبر من عام هيروشيما، سيق هومي إلى صفوف المدرسة، فسماه المعلم الأسمر … منذ يومه الأول ” بوجنديخة” نظرا لأثر القرع المكين الذي لم يمح بعد من رأسه المستطيل، وتحامل عليه أطفال الصف: - القرع..مالك غضبان -أسيدي كلاني الذبان -أسيدي شري شاشية - أسيدي بشحال هي - أسيدي بميات أوقية -أسيدي بزاف علي. وهومي يتحسس رأسه في نشوة بادية، لا مبال بما يردد الأطفال من حوله…”51 ومن هنا، فقد استلهم بنسامح درويش مجموعة من النصوص الدينية والأسطورية والأدبية واللاهوتية والشعبية …، وقد تفاعل معها تأثرا وتفاعلا وحوارا. خلاصات ونتائج: وهكذا، نصل إلى أن الكتابة الشذرية بمثابة جنس أدبي ونوع فكري جديد، يعتمد على شعرية الانفصال، وبلاغة التنوع، والتجزيء، والتشذير، والتقطيع ، واللاثبات، وبلورة كتاب متشظ أو منكسر أومخلخل أجناسيا. ومن ثم، يمكن الحديث عن كتاب شذري أو شذرية الكتاب أو كتاب التشذير. ويمكن أن يتحول هذا الجنس إلى طريقة في الكتابة والتعبير، ويكون فن المستقبل في صياغة النص الفلسفي أو الأدبي أوالإبداعي أوالنقدي. وعليه، فالشذرة بمثابة جزيرة منعزلة قائمة بنفسها، ومكتفية بذاتها، مبنية على الرغبة في التلاشي والاضمحلال والاختلاف، والتأرجح بين الأمل واليأس. والآتي، أن الكتابة الشذرية تهدف في الحقيقة إلى الثورة على الهوية، والتمرد عن الكينونة الموحدة، والتخلص من صرامة المنطق، والنفور من التحليل العلمي والعقلاني الصارم، والابتعاد عن النسقية المنسجمة. ومن ثم، تتغنى الكتابة الشذرية بالحرية المطلقة، وتجنح إلى التمرد الشاذر، وتبحث جاهدة عن عالم مثالي طوباوي تسوده السعادة الممكنة. ومن ثم، ترتبط الشذرة بشخصية المبدع في استقباله للعالم، وفي كيفية تصويره لهذا العالم المفكك، وتشخيصه له ذاتيا وموضوعيا، مع انتقاده شذريا على جميع المستويات والأصعدة ، وذلك ضمن رؤية ذهنية ووجدانية . وهكذا، فالكتابة الشذرية هي في الجوهر رفض للخطاب الخطي المتسلسل، ونفي للمشهد الموحد والمتكرر في استمراريته واتصاله. لذا، تعتمد الكتابة الشذرية بلاغة الانفصال لتعويض بلاغة الاتصال ، كما تمتح هذه الكتابة من الصياغة البوليفونية القائمة على تعدد الأصوات، وتعدد اللغات والأساليب، واختفاء صوت الكاتب أو المؤلف، والاعتماد على تعدد المواضيع والأفكار والتيمات تقطيعا وتجزيئا. وأخيرا، ووليس آخرا، فالكتابة الشذرية كتابة جسدية قوامها اللاشعور، والانسياب، والتداعي ، والفرادة. وتعبر في منطوقها عن ذات تكتب نفسها عبر التشظي ، عبر زمن منهك ومشتت ومفصول. وتقوم كذلك على التأمل والبوح والاستبطان الذاتي، وتعمل على خلخلة الأجناس الأدبية كلها، من أجل صهرها في بوتقة نصية موحدة ، تأبى التصنيف والتجنيس، بغية التميز ، والانزياح، وخلق خطاب مابعد الحداثة. ¿ الهوامش: 51 – ابن منظور: لسان العرب،الجزء السابع، دار صبح ، بيروت، لبنان، وإديسوفت ،الدارالبيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2006م، ص:54-55. 2 – د.بنسالم حميش: معهم حيث هم، بيت الحكمة، الدارالبيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1988م، ص:133. 3- د.جميل حمداوي: مقاربة النص الموازي وأنماط التخييل في روايات بنسالم حميش، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة، جامعة محمد الأول بوجدة، السنة الجامعية:2000-2001م، ص:194. 4 – فريدريك نيتشه: هكذا تكلم زرادشت، ترجمة: محمد الناجي، أفريقيا الشرق، الدارالبيضاء، المغرب، الطبعة الثانية سنة 2011م. 5 – د.بنسالم حميش: معهم حيث هم، ص:144. 6- د.بنسالم حميش: معهم حيث هم، ص:145. 7-Ph. LacoueLabarthe et J.-L. Nancy : L'absolu littaraire, Paris, seuil.Poétique, 1978. 8 – François Susini- Anastopoulos: L'écriture fragmentaire. Définitions et enjeux. PUF, 1997. 9 – Ricard Ripoll (textes réunis par), L'Ecriture fragmentaire, théories et pratiques, Presses Universitaires de Perpignan, Collection Etudes, 2002, 363. 10- النفري: كتاب النطق والصمت، نصوص صوفية، الشذرات، المناجيات، الديوان، تحقيق:قاسم عباس، دار أزمنة، عمان، الأردن، الطبعة الأولى سنة 2000م. 11- نقلا عن د.بنسالم حميش: المرجع السابق، ص:133-134. 12- نقلا عن د.بنسالم حميش: المرجع السابق، ص:135. 13- إلياس كانيتي: شذرات، ترجمة: رشيد بوطيب، دار الكلمة، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى سنة 2011م. 14- بشير ونيسي: (صفات) ، موقع الحوار المتمدن، موقع رقمي، العدد: 3040، بتاريخ:21/06/2011م. http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=219854. 15- بنسامح درويش: ألواح خنساسا، مؤسسة النخلة للكتاب،وجدة، الطبعة الأولى سنة 2004م. 16- Tadié.Jean Yves: Le récit poétique,PUF.Paris,1978. 17- jakobson .Roman: Huit questions de Poétique,Points,Paris,1977. 18- بنسامح درويش: نفسه، صص:15-17. 19- يحيى بزغود: الجرذان، منشورات منتدى رحاب بوجدة، الطبعة الأولى سنة 2000م. 20- بنسامح درويش: نفسه، ص:152. 21- بنسامح درويش: نفسه، ص:150-151. 22- بنسامح درويش: نفسه، ص:160. 23- بنسامح درويش: نفسه، ص:139-140. 24- بنسامح درويش: نفسه، ص:159-160. 25- بنسامح درويش: نفسه، ص:34-35. 26- بنسامح درويش: نفسه، ص:40-39. 27- بنسامح درويش: نفسه، ص:5. 28- بنسامح درويش: نفسه، ص:137-138. 29- بنسامح درويش: نفسه، ص:7-8. 30- بنسامح درويش: نفسه، ص:5. 31- بنسالم حميش: سماسرة السراب، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء، الطبعة الاولى سنة 1996م. 32- بنسامح درويش: نفسه، ص:59-60. 33- بنسامح درويش: نفسه، ص:138. 34- محمد برادة: لعبة النسيان، دار الأمان، الرباط، المغرب، طبعة2003م. 35- بنسامح درويش: نفسه، ص:139-140. 36- ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي، ترجمة: الدكتور جميل نصيف التكريتي، دارتوبقال للنشر، الدارالبيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1986م، ص:59. 37- ميخائيل باختين: الخطاب الروائي، ترجمة: محمد برادة، دار الأمان، الرباط، المغرب، الطبعة الثانية سنة 1987م، ص:54. 38- بنسامح درويش: نفسه، ص:12. 39- بنسامح درويش: نفسه، ص:138. 40- بنسامح درويش: نفسه، ص:150. 41- بنسامح درويش: نفسه، ص:138-139. 42- بنسامح درويش: نفسه، ص:151. 43- بنسامح درويش: نفسه، ص:138. 44- بنسامح درويش: نفسه، ص:148. 45- بنسامح درويش: نفسه، ص:138. 46- بنسامح درويش: نفسه، ص:44. 47- بنسامح درويش: نفسه، ص:141. 48- بنسامح درويش: نفسه، ص:160. 49- بنسامح درويش: نفسه، ص:154. 50- بنسامح درويش: نفسه، ص:45. ¿ المصادر والمراجع العربية: 51 – ابن منظور: لسان العرب،الجزء السابع، دار صبح ، بيروت، لبنان، وإديسوفت ،الدارالبيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2006م. 2- إلياس كانيتي: شذرات، ترجمة: رشيد بوطيب، دار الكلمة، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى سنة 2011م. 3- د.بنسالم حميش: معهم حيث هم، بيت الحكمة، الدارالبيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1988م. 4- بنسالم حميش: سماسرة السراب، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء، الطبعة الاولى سنة 1996م. 5- بنسامح درويش: ألواح خنساسا، مؤسسة النخلة للكتاب،وجدة، الطبعة الأولى سنة 2004م. 6- د.جميل حمداوي: مقاربة النص الموازي وأنماط التخييل في روايات بنسالم حميش، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة، جامعة محمد الأول بوجدة، السنة الجامعية:2000-2001م. 7 – فريدريك نيتشه: هكذا تكلم زرادشت، ترجمة: محمد الناجي، أفريقيا الشرق، الدارالبيضاء، المغرب، الطبعة الثانية سنة 2011م. 8- محمد برادة: لعبة النسيان، دار الأمان، الرباط، المغرب، طبعة2003م. 9- ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي، ترجمة: الدكتور جميل نصيف التكريتي، دارتوبقال للنشر، الدارالبيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1986م. 10- ميخائيل باختين: الخطاب الروائي، ترجمة: محمد برادة، دار الأمان، الرباط، المغرب، الطبعة الثانية سنة 1987م. 11- النفري: كتاب النطق والصمت، نصوص صوفية، الشذرات، المناجيات، الديوان، تحقيق:قاسم عباس، دار أزمنة، عمان، الأردن، الطبعة الأولى سنة 2000م. 12- يحيى بزغود: الجرذان، منشورات منتدى رحاب بوجدة، الطبعة الأولى سنة 2000م. ¿ المقالات العربية: 13- بشير ونيسي: (صفات) ، موقع الحوار المتمدن، موقع رقمي، العدد: 3040، بتاريخ:21/06/2011م. http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=219854. ¿ المراجع الأجنبية: 14-François Susini- Anastopoulos: L'écriture fragmentaire. Définitions et enjeux. PUF, 1997. 15-Jakobson .Roman: Huit questions de Poétique, Points, Paris, 1977. 16-Ph. LacoueLabarthe ET J.-L. Nancy : L'absolu littaraire, Paris, seuil.Poétique, 1978. 17- Ricard Ripoll (textes réunis par), L'Ecriture fragmentaire, théories et pratiques, Presses Universitaires de Perpignan, Collection Etudes, 2002. 18- Tadié.Jean Yves: Le récit poétique,PUF.Paris,1978.