تكشف نتائج "مؤشر الحرية الاقتصادية لعام 2025″، الصادر عن مؤسسة "هيريتاج" الأمريكية، عن تحولات بنيوية جذرية في مسارات التنمية الاقتصادية عبر العالم، وسط بيئة دولية مشحونة بالأزمات الجيوسياسية والضغوط الاقتصادية المتراكمة، ما يجعل التقرير وثيقة محورية لفهم الاتجاهات الكبرى التي تحكم الاقتصاد العالمي، وموضع كل دولة فيه. وفي خضم هذه الصورة القاتمة نسبيا، يظهر المغرب كحالة جديرة بالتأمل، إذ حقق تقدما مهما في مؤشر الحرية الاقتصادية، بالرغم من التحديات الداخلية والخارجية. وقد صنّف التقرير المغرب ضمن الاقتصادات "الحرة إلى حدّ ما"، وذلك بعد ارتفاع مؤشره إلى 60.3 نقطة، مقابل 56.8 نقطة في السنة الماضية، مما جعله يحتل المرتبة 86 عالميا من بين 184 دولة، والسابعة إقليميا على صعيد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهي مرتبة تضعه فوق المتوسطين الإقليمي والعالمي، الذين بلغا على التوالي 58.6 و59.7 نقطة. ويُعزى هذا التقدم إلى حزمة من الإصلاحات الاقتصادية والإدارية التي استهدفت تحفيز القطاع الخاص، وتحسين مناخ الاستثمار، وتوسيع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الوطني. فقد شهدت المملكة تحسّنا في مؤشرات التنافسية وحرية ممارسة الأعمال، إلى جانب الحفاظ على استقرار نسبي في المؤشرات النقدية، مثل التضخم وأسعار الصرف، مما عزز من قدرة الاقتصاد المغربي على امتصاص الصدمات الخارجية والداخلية. غير أن التقرير يشدد في المقابل على أن هذا التقدم لا يزال هشا، ما لم يُعزز بإصلاحات أعمق تشمل البنية القضائية، ونظام الوظيفة العمومية، وتكريس الشفافية، ومحاربة الفساد الإداري والمالي، وهي تحديات هيكلية تعيق تحقيق إقلاع اقتصادي متين ومندمج.
في المحور المتعلق بسيادة القانون، سجل المغرب أداء متفاوتا. ففي حين أحرز نقاطا إيجابية نسبيا في مؤشر حماية حقوق الملكية، وهو ما يعكس الجهود المبذولة لضمان الحماية القانونية للعقارات والاستثمارات، فإن فعالية النظام القضائي لا تزال دون المتوسط العالمي، كما أن مؤشر النزاهة الحكومية يعاني من تدنٍّ واضح، ما يشير إلى استمرار مظاهر الرشوة والمحسوبية وضعف آليات الرقابة. وتُعد هذه الاختلالات من أهم العوائق التي تمنع تفعيل حقيقي لمبدأ تكافؤ الفرص، وتحد من قدرة البلاد على جذب استثمارات أجنبية نوعية، خصوصا في القطاعات ذات القيمة المضافة العالية، مثل التكنولوجيا والصناعات التحويلية والخدمات الرقمية. أما في ما يخص حجم الحكومة والتوازنات المالية، فقد أشار التقرير إلى أن العبء الضريبي في المغرب يُعادل 19.7 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة متوسطة مقارنة ببعض الدول في المنطقة. ومع ذلك، فإن النفقات العمومية لا تزال مرتفعة، إذ بلغت في المتوسط 32.7 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات الثلاث الماضية، ما ساهم في تفاقم العجز المالي إلى حدود –5.3 بالمائة. هذا، إلى جانب بلوغ الدين العمومي نحو 69.5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو رقم يضع المملكة أمام تحدي الحفاظ على توازناتها المالية دون المساس بالإنفاق الاجتماعي والاستثماري، لا سيما في ظل ارتفاع متطلبات الساكنة وتزايد كلفة المواد الأولية والنفقات المرتبطة بالتغير المناخي. وفي الشق المتعلق بكفاءة الأداء التنظيمي، يُشير التقرير إلى أن بيئة الأعمال في المغرب تعتبر مؤسساتية بشكل نسبي، إلا أنها تعاني من بطء في التنفيذ، وتعقيد في الإجراءات، وغياب الفعالية في بعض مراحل إعداد وتنفيذ السياسات العمومية. فقد أحرز المغرب أداء جيدا في مؤشر حرية ممارسة الأعمال، إلا أن سوق الشغل لا يزال مقيدا بالقوانين الصارمة، وانخفاض مرونة التشغيل، مما يحدّ من قدرته على خلق مناصب شغل لائقة، ويؤدي إلى استمرار هشاشة سوق العمل، حيث تظل فئات واسعة من اليد العاملة محصورة في القطاع غير المهيكل، مما يقلل من الإنتاجية الوطنية، ويؤثر على حجم التغطية الاجتماعية والتأمينات الصحية، ويعمق الفجوة الاجتماعية بين الطبقات. من جهة أخرى، يؤكد التقرير أن المغرب يحتفظ بموقع متقدم نسبيا في ما يتعلق بانفتاحه على الأسواق. فمعدل الرسوم الجمركية يبلغ 13.9 بالمائة، وهو معدل لا يزال مرتفعا مقارنة بدول أكثر انفتاحا، إلا أن القوانين المغربية تضمن معاملة متساوية بين المستثمرين الأجانب والمحليين، ما ساهم في استقطاب تدفق للاستثمارات الأجنبية المباشرة بلغ 2.1 مليار دولار في سنة 2023. كما أن القطاع المالي يشهد نموا مستقرا، ويوفر خيارات تمويلية متنوعة، دون قيود على المشاركة الأجنبية في السوق المالية، ما يشكل رافعة مهمة لتنمية الاستثمار وتعزيز الاندماج المالي، خاصة في ظل التحول الرقمي الذي تشهده المؤسسات البنكية والبورصة المغربية. وفي ما يتعلق بالمؤشرات الاقتصادية الكلية، أحرز المغرب معدل نمو بلغ 3.4 بالمائة سنة 2023، بمعدل نمو متوسط يناهز 4.4 بالمائة خلال الثلاث سنوات الأخيرة، وهي نسب إيجابية بالنظر إلى السياق الإقليمي والعالمي. غير أن هذا النمو لا ينعكس بشكل كافٍ على التشغيل، حيث يبلغ معدل البطالة حوالي 9.1 بالمائة، وهو رقم يعكس ضعف القدرة الاستيعابية لسوق الشغل، وضرورة تطوير سياسات نشطة للتشغيل والتكوين المهني، وربط التكوين بالطلب الحقيقي لسوق العمل. كما بلغ معدل التضخم 6.1 بالمائة، وهو معدل مرتفع نسبيا، له تأثير مباشر على القدرة الشرائية للمواطنين، خاصة الطبقات الوسطى والهشة، مما يستدعي تدخلا فعالا للدولة لضبط الأسعار وتعزيز شبكات الحماية الاجتماعية. وفقا لما خلُص إليه التقرير، يوجد المغرب عند منعطف حاسم في مسار إصلاحاته الاقتصادية. فرغم التحسن الذي شهده المؤشر مقارنة بالسنوات الماضية، فإن البيئة الاقتصادية لا تزال محكومة بعوامل هشاشة هيكلية، لا يمكن تجاوزها إلا من خلال مواصلة إصلاح الإدارة العمومية، وتقوية استقلالية القضاء، وتبسيط المساطر الإدارية، وتحسين الحكامة المالية، وتوسيع قاعدة المساهمين في النظام الضريبي، وتعزيز الاستثمارات الموجهة نحو الابتكار والتكنولوجيا والطاقات المتجددة. كما أن التحدي الأكبر يظل في مدى قدرة المؤسسات العمومية على استباق التحولات الجيوسياسية، وتكييف السياسات الوطنية مع متطلبات الاقتصاد الرقمي والمنافسة العالمية المتسارعة. ويُعد مؤشر الحرية الاقتصادية أداة تحليلية تعكس جودة المؤسسات والسياسات العمومية، ومدى نجاعة الحكامة الاقتصادية، واستدامة النمو. وهو في الآن ذاته، مرآة تعكس صورة البلد في أعين المستثمرين والممولين الدوليين، ومدخل لتقييم فعالية النخب السياسية في صياغة مستقبل مشترك للمواطنين. من هذا المنظور، فإن المغرب مدعو أكثر من أي وقت مضى إلى استثمار التحسن الذي حققه في هذا المؤشر، لتقوية الثقة في الاقتصاد الوطني، وتحقيق إقلاع تنموي قائم على الشفافية، والكفاءة، والمساءلة، والعدالة الاجتماعية، في أفق بناء نموذج اقتصادي أكثر حرية، وأكثر إدماجا، وأكثر قدرة على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين.