توقعات أحوال الطقس اليوم الأربعاء    الكنبوري يستعرض توازنات مدونة الأسرة بين الشريعة ومتطلبات العصر    "وزارة التعليم" تعلن تسوية بعض الوضعيات الإدارية والمالية للموظفين    مسؤول فرنسي رفيع المستوى .. الجزائر صنيعة فرنسا ووجودها منذ قرون غير صحيح    سقوط عشرات القتلى والجرحى جراء حريق في فندق بتركيا    جريمة بيئية في الجديدة .. مجهولون يقطعون 36 شجرة من الصنوبر الحلبي    الكاف : المغرب أثبت دائما قدرته على تنظيم بطولات من مستوى عالمي    دوري أبطال أوروبا.. برشلونة يقلب الطاولة على بنفيكا في مباراة مثيرة (5-4)    ماستر المهن القانونية والقضائية بطنجة ينظم دورة تكوينية لتعزيز منهجية البحث العلمي    "سبيس إكس" تطلق 21 قمرا صناعيا إلى الفضاء    "حماس": منفذ الطعن "مغربي بطل"    الحاجب : تدابير استباقية للتخفيف من آثار موجة البرد (فيديو)    ارتفاع عدد ليالي المبيت السياحي بالصويرة    "البام" يدافع عن حصيلة المنصوري ويدعو إلى تفعيل ميثاق الأغلبية    كأس أمم إفريقيا 2025 .. "الكاف" يؤكد قدرة المغرب على تنظيم بطولات من مستوى عالمي    المغرب يواجه وضعية "غير عادية" لانتشار داء الحصبة "بوحمرون"    تركيا.. ارتفاع حصيلة ضحايا حريق منتجع للتزلج إلى 76 قتيلا وعشرات الجرحى    التحضير لعملية "الحريك" يُطيح ب3 أشخاص في يد أمن الحسيمة    الحكومة: سعر السردين لا ينبغي أن يتجاوز 17 درهما ويجب التصدي لفوضى المضاربات    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الانخفاض    تركيا.. يوم حداد وطني إثر حريق منتجع التزلج الذي أودى بحياة 66 شخصا    وزارة التربية الوطنية تعلن صرف الشطر الثاني من الزيادة في أجور الأساتذة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    مطالب في مجلس المستشارين بتأجيل مناقشة مشروع قانون الإضراب    اتخاذ إجراءات صارمة لكشف ملابسات جنحة قطع غير قانوني ل 36 شجرة صنوبر حلبي بإقليم الجديدة    توقيع اتفاق لإنجاز ميناء أكادير الجاف    مجلس المنافسة يكشف ربح الشركات في المغرب عن كل لتر تبيعه من الوقود    الدفاع الجديدي ينفصل عن المدرب    اليوبي يؤكد انتقال داء "بوحمرون" إلى وباء    فضيل يصدر أغنيته الجديدة "فاتي" رفقة سكينة كلامور    افتتاح ملحقة للمعهد الوطني للفنون الجميلة بمدينة أكادير    هل بسبب تصريحاته حول الجيش الملكي؟.. تأجيل حفل فرقة "هوبا هوبا سبيريت" لأجل غير مسمى    أنشيلوتي ينفي خبر مغادرته ريال مدريد في نهاية الموسم    المجلس الحكومي يتدارس مشروع قانون يتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة    ندوة بالدارالبيضاء حول الإرث العلمي والفكر الإصلاحي للعلامة المؤرخ محمد ابن الموقت المراكشي    المبادلات التجارية بين المغرب والبرازيل تبلغ 2,77 مليار دولار في 2024    الغازوال والبنزين.. انخفاض رقم المعاملات إلى 20,16 مليار درهم في الربع الثالث من 2024    مطالب برلمانية بتقييم حصيلة برنامج التخفيف من آثار الجفاف الذي كلف 20 مليار درهم    تشيكيا تستقبل رماد الكاتب الشهير الراحل "ميلان كونديرا"    انفجار في ميناء برشلونة يسفر عن وفاة وإصابة خطيرة    المؤتمر الوطني للنقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية: "خصوصية المهن الفنية أساس لهيكلة قطاعية عادلة"    في حلقة جديدة من برنامج "مدارات" بالاذاعة الوطنية : نظرات في الإبداع الشعري للأديب الراحل الدكتور عباس الجراري    إيلون ماسك يثير جدلا واسعا بتأدية "تحية هتلر" في حفل تنصيب ترامب    ترامب يوقع أمرا ينص على انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية    ترامب: "لست واثقا" من إمكانية صمود اتفاق وقف إطلاق النار في غزة    المغرب يدعو إلى احترام اتفاق وقف إطلاق النار في غزة    الإفراط في اللحوم الحمراء يزيد احتمال الإصابة بالخرف    وفاة الرايس الحسن بلمودن مايسترو "الرباب" الأمازيغي    دوري أبطال أوروبا.. مواجهات نارية تقترب من الحسم    ياسين بونو يتوج بجائزة أفضل تصد في الدوري السعودي    علماء يكشفون الصلة بين أمراض اللثة وأعراض الزهايمر    القارة العجوز ديموغرافيا ، هل تنتقل إلى العجز الحضاري مع رئاسة ترامب لأمريكا … ؟    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    دراسة: التمارين الهوائية قد تقلل من خطر الإصابة بالزهايمر    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من إواليات الكتابة الشعرية في " أوراق الوجد الخفية " / 1/
نشر في وجدة نيوز يوم 27 - 11 - 2008


بقلم : عبد الرزاق المصباحي / المغرب
- مدخل:
ترمي الورقة إلى تمثل بعض الإشراقات الدلالية و إضاءة البنيات الجمالية الثاوية خلف سواد الكتابة في مجموعة " أوراق الوجد الخفية " للشاعر المغربي جمال بوطيب .
سواد الكتابة الذي لا يفيد هنا البعد الغرافي الإيقوني فقط ، بل كذلك – و لزاما – الزوايا الشديدة التعتيم والإلغاز في السيرورات الدلالية المضاعفة التي تفتأ غير مستقرة و عصية على التحديد الجامع، والتي يمكن إضاءتها من خلال البحث في الخصائص الفنية و البنيات الدلالية في الديوان ، و كذا في مناص الإهداء و العنوان، باعتبارهما عتبة / عتمة أولى تنم عن رغبة فاضحة للشاعر في توريط قارئه " في لعبة المرايا اللا متناهية " و استدراجه بخبث الشعراء و غوايتهم المعتمدة كلاما مرقشا إلى عوالم التخييل.
- العنوان : مرآة دلالية مخاتلة
محور ملفوظات العنوان الثلاثة هي كلمة الوجد بمعانيها الحافة في الإشراق الصوفي و المنبثقة من منجز الشعر العربي في شق غزله العذري، والتي تجتمع و مصطلحات متقاربة : كالود و الخلة والهوى والتتيم و الكلف و الجوى والشجو و التدليه و العشق ... و غيرها .
و هو اقتراب يعيه الشاعر،وعي يتجلى في تسييقاتها المختلفة في متن القصائد ،بخاصة لفظة "الوجد" .
يقول في قصيدة " شمس أبي " :
" لو طرقت سنينا
ما فتحت لك باب
و لا قلب
و لا عادت نجوم الأمس
تبحث عن وجد مورى " / الديوان ص : 41/
تؤكد بنية النفي المطردة في هذا الأسطر شدة الحرقة و المكابدة النفسيين ،وهي حرقة حافة بالوجد بقصائد الديوان بخاصة أوراق الوجد الخمسة .
والحقيقة أن القارئ لا يلفى صعوبة في تفسير هذا التماثل ؛الذي تتضمنه آخرالأسطر السالفة،بين الوجد المورى وعنوان الديوان : "أوراق الوجد الخفية " ، إذا ما علم أن" شمس أبى" كانت عنوانا أصليا للديوان قبل أن يغيره الشاعر ؛بالرغم من أنه _أي الشاعر - ظل وفيا للرؤيا نفسها التي تحكمت فيه أوتحكم فيها حينما انتقى عنوان ديوانه ،وهو انتخاب له ما يبرره إذا ما تم تحليل " المركب الإضافي الموصوف : الصيغة التركيبية للعنوان .
فالأوراق تشير إلى سند الكتابة و إلى جنس المكتوب " شعر " بدليل العبارة التجنيسية ، و الوجد يدقق القصد من الأوراق : التعبير عن حب مزيج بحزن و مشقة ، أما الخفية فتحدد طبيعة الوجد وميسمه: وجد خفي لا ظاهر، فكيف يتمظهر الوجد الخفي في القصائد الخمس الأولى ؟
- أوراق الوجد الخمس : بعض الأبعاد الدلالية
أبعد التأويلات للفظة الخفي أن يكون هذا الوجد صامتا * , و أقربها – من منظور خاص – أن الصورة البصرية / السمعية " أوراق الوجد الخفية " تشير إلى مشاعر عَرَضها – بفتح الراء – انتقاد حاقد وجَوْهرها حب و احتفاء عميقين , احتفاء بالمكان و بشعراء و كتاب و أصدقاء قضوا و آخرون لا يزالون قيد الكتابة ، و هو ما يمكن تلقفه من إهداء الديوان يقول الشاعر " ضدا على كل الموقنين بسطوة الزمان و مديحا لجلال المكان و احتفاء بغياباتنا القسرية نحن مع كل الأحبة إلى بعض مدن الوجد العربي" / إهداء الديوان الموسوم ب : إضاءة " .
إن الشاعر يضع متلقيه أمام تقابل بين سطوة الزمن و سلطته القاتلة المؤدية إلى الغياب القسري وبين المكان و عظمته المتمثلة في قيمة معنوية هي" الوجد "، مما جعله يتبوأ عند الشاعر- وبالقياس إلى الزمن – درجة متميزة استحق عبرها فعل المديح. مديح ضمنه الكتاب كثيرا من العتاب الجميل ،عتاب المقة الخالصة و الغيرة الطافحة برائع الصبابة لمدن الوجد و الحلم معا ، يقول في ورقة :" القاهرة " / بما تتضمنه من دلالات القهر و الخضوع و الخنوع و الصغار اسم فاعل و مفعول / مجسدا ذلك العتاب :
لا تسألي
ألق السنابل
هزه برق يباغت أمسنا
بغد المحال
و القلب من شرر العيون
تلا السفاهة
والنباهة و استقال . / الديوان ص : 19/
ففي الأسطر ما يشي بانهيار القيم الجادة ،و بسيادة ما يصم مدنا صماء إلا من حروب أهلية ،واغتيالات تحصد أرواحا بريئة ، نجد في ورقة وهران ما يحيل إلى ذلك بقوله :
جبهة البحر
زجي بالرسغ
في طرف الصبوة تنتفض
محجات" العربي بن مهيدي"
و " أحمد زبانة
يصادر ماء " سعيدة "
(....)
جبهة البحر يا جبهة البحر
اقبلي الرهان
يزه " عبد القادر " أميرا . / الديوان ص17 /
يمكن التمييز هنا بين بنيتين دلاليتين :
- الأولى : تتحدد بوساطة نداء خال من أداته و هو غالبا مؤشر على الاتصال الوجداني.
- الثانية : مرتبطة بحال الانفصال الوجداني عن المدينة ،إذ يلحظ المتلقي أنه ناداها بالجبهة ،والجبهة مصطلح يحيل إلى الحرب و العنف و الاغتيال .وهو – أي الاغتيال – قيمة يصرح بها الشاعر . بدليل أن الورقة مهداة إلى عبدالقادر علولة المغتال و هو موضوع لها في آن :
يغضب أسدا " لا ميري "
يخرجان من صمت صخرهما
يزأران في وجه خطيئة الحمري
بحثا عن قاتل " علولة" . / الديوان ص .ص : 17-18 /
و من البنية الدلالية الثانية تتضح سلبية الحديث إلى المدينة التي لا تستمتع إلى نداء الشاعر ، فنلفاه يكرر النداء [ جبهة البحر – يا جبهة البحر ( يا لنداء البعيد ) ] .
أما و رقة " فاس " : الورقة الأولى في الديوان ، فالحلول ميسم مهيمن في علاقة الشاعر بها ،وهو الذي كتبها بثلاثة أقلام مختلفة مؤتلفة : قلم المؤرخ – قلم الشاعر – و بقلم فاس . و في كل مقطع / قلم،يبدل الشاعر في البنيات التركيبية على هذا النحو :
أ - فاس بقلم المؤرخ : هيمنة الفعل الماضي : / فاس بكت – استوطنت – الرب غاب – الهمز ضاع – البوح خان /
ب- فاس بقلم الشاعر : هيمنة فعل الأمر : / هزي إليك – اهمزي الألف – كوني شتاء – كوني غير التي أنت – كوني أنت /
- فاس بقلم فاس : هيمنة الفعل المضارع : / يهين الشتاء – يخلدن عيد – صادرت – أكون – يطير – يعمر – ليست – تسمع – ترى /
إن هذا التوزيع للأزمنة ينطلق من الوعي بطبيعة المتكلم في القصيد . فالمؤرخ – مثلا – مرتبط بالماضي لكون ممارسته تتحدد في دراسة التاريخ . و التاريخ في إحدى تعاريفه الأولية ليس إلا دراسة للماضي في الحاضر . بيد أن نفس مؤرخ فاس يقترب من نفس الشاعر استنادا إلى طبيعة الانزياحات الإسنادية الموظفة : كأنسنة فاس و جعل الرب يغيب من قلبها ،مع إشارة إلى أصل كلمة فاس / الهمز ضاع من حرفها / .
و يبدو أن صوت الشاعر كان أقوى من صوت المؤرخ و من صوت فاس حيث مارس ما يشبه الوصلات الإشهارية الداعية إلى السياحة :
" ليست فاس ما تسمع
إن فاس ما ترى " / الديوان ص 13/
أما ورقتا بيروت و بغداد فتضمنتا إشارتين هامتين في موقف الشاعر منهما ، في الأولى تجسيد لإباء المدينة و مقاومتها
" أنا بيروت واقفة
إن تبكوا
أكبو " / الديوان ص : 30/
و في الثانية مديح للعراقيين الذين وسمهم بالملائكة و مخازن الرقة و اللطافة و الحلم ،و نظن أن ثيمة الورقة كانت تتغير لو كتبها الشاعر في خضم الأحداث المذلة التي تشهدها بلاد الرافدين .
-التناص .
يقوم الشاعر بتوليف أنساق غير شعرية في عمله الإبداعي مستحضرا المنجز الصوفي والأسطوري والديني .... استحضارا يتسق و الرؤى الدلالية و الجمالية التي يتوخاها عبر تناصاته .
أ - التناص الديني :
يتأسس التناص في مجموعة " أوراق الوجد الخفية " على مبدإ " المجاورة و المجاوزة التناصية": أي أن الشاعر لا يعتمد تمثلا محايدا للنصوص و غرسها في تربة النص ، بل يدمجها ضمن سيرورات دلالية مختلفة ، و إن حافظ – أحيانا – على بنياتها التركيبية ، يعضد ذلك هذه الأسطر من" ورقة فاس" :
"
فاس هزي إليك
بجدع الأبجدية
تساقط عليك حروفا " / الديوان ص : 10/
إنها إحالة واضحة إلى الآية 24 من سورة :" مريم " . يقول تعالى:( و هزي إليك بجدع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا) : و فيها حافظ الكاتب على البنيات التركيبية نفسها ، لكن بسيرورات دلالية مغايرة باعتماد تقنية " الوضع خارج السياق " ، فالأمر الإلهي لمريم بتحريك جدع النخلة هو بغاية تحصيل الرطب التي تحتاجها في حال المخاض أو الوضع ،و هي المحرومة من الدعم و الاحتضان القبلي كما عكسه السياق القرآني ، لكن " أمر " الشاعر لفاس يحكمه وكد آخر هو تخير حرف من الأبجدية لتتم الناقص بها من همز بدليل قول الشاعر : اهمزي الألف .
و لعل وجه الشبه بين فاس و مريم هو : الافتقاد .مريم تفتقد تصديق القبيلة لها بالعفة والشرف،وفاس تفتقد الهمز و أشياء أخر يشير إ ليها الشاعر عن طريق توظيف الفعل الإلهي " كن " حينما يخاطب فاس و يأمرها، مما يؤكد السلطة الرمزية للشاعر /أي شاعر :
" كوني شتاء
كوني غير التي بالأمس فصلها كان
كوني أنت " /الديوان ص : 11/
أضف إلى ذلك فقدان الثقة و القيم التي أكدها الشاعر عبر تمثل قصة " يوسف عليه السلام ":
" يا جدي ( .....)
هذي الناي
قد كسرت
و الراعي صادق الذئب
و أخي الذي استوزرته
باع " الشياه " للشياه
قاد الحب إلى منتهاه
لا الجب تعرف سر الصفقة
لا يوسف يكتم شر الحرقة
لا امرأة عزيز فكرت يوما في توبة / الديوان : ص 86 /
الشاعر يؤكد صورة عالم متهالك تتكرس فيه ملامح النفاق و الغدر و الخيانة التي لا تفكر معها " امرأة عزيز " _بما هي رمز للغواية و الظلم _ في التوبة . والمتأمل في تركيب اللفظين سيجد أن " امرأة " قد أضيفت إلى نكرة بعكس السياق القرآني الذي جاءت فيه الإضافة إلى معرفة ، و قصد منه زوج عزيز مصر . بيد أن الإضافة هنا لا تكسب المضاف تعريفا بل تخصيصا ،مما يفتح الأسطر السالفة على تأويلات دلالية ممكنة قد لا يكون التناص مفتاحها .
ب – التناص الصوفي :
هذا الضرب من التناص ليس إلا امتدادا للنصوص الدينية الغائبة , يمتح منها أبعادها العرفانية وكشوفها الحدسية المتحللة من سلطة المادة و سطوة الغرائز التي تختزل الإنسان في رغبات زائلة ،وليس غريبا أن يتأسس مفهوم الصوفي نتيجة ذلك _ في كونه من " يلبس الصوف على الصفا، و يطعم الهوى ذوق الجفا، و تكون منه الدنيا على القفا، و يتبع منهاج المصطفى صلى الله عليه و سلم ". فالجسد ليس محددا رئيسا لجوهر الإنسان و ماهيته ؛قياسا إلى الروح في التصور الصوفي التي تمكنه من السفر في عوالم الفيض الإلهي ومن الحلول ؛ الذي لا تستطيع معه اللغة التعبير أو حتى الإشارة/ تضيق العبارة /،و الشاعر يعي هذا البعد و يجسده نصيا في قصيدة " شمس أبي " :
"
أبي أحكم الإغلاق
و أعطى المفتاح للشمس
قبل خد البحر
سافر باتجاه الرؤيا
إذ ضاقت به العبارة " / الديوان ص : 42 /
فيحيل صراحة إلى قولة "الإمام النفري" الشهيرة " إذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة " ، إنها تعبير عن درجة سامية يرقى فيها المريد إلى أن يصير شيخا يعيش شطحات ترشح وجدا منزلا و يكرره :
بين مريدي شيخ
يخط خطاب غرام
على لوح أرهقه
الصلصال
الصوان
الوقف
الخسف
بقلم يعلق بصوف دواة الوجد " / الديوان : ص.ص : 62- 63 / إلى أن يثمل و يعيش الدرجة ؛التي يستزيد فيها الكؤوس التي توازن " مزن الأرض " و " ترب السماء " و تدركها الثمالة و في هذه الغمرة يحضر التساؤل و التمني :
" إلام يخون الصحاب الكؤوس
و أبقى وفيا ؟؟؟
يا شهد الريف لو أسكرك
يا ريق الأطلس لو تسكرني " / الديوان : ص ص -74- 75 /
إن الشاعر لا يؤصل هنا لسلوك العربدة في الشعر كما قد يظهر من خلال القراءة البراغماتية المستعجلة . ذاك السلوك الذي شانه الشاعر المتميز المرحوم" محمد بنعمارة" محددا أنماط الشعراء :
" شاعر .... و شاعر
عاشق .... و بهلوان
شاعر شموخه سلوك
و شاعر سلوكه الهوان " / 2/
بل يوظف الكأس- و هي تسعفه و العبارة - بمدلولها الصوفي بما هي مؤشر على درجة من درجات الوجد و الحلول في المحبوب ، و المحبوب هنا ليس إلا المكان و جلاله ، الذي يحتفي به الشاعر أيما احتفاء . لذا نجده يتمنى أن يحل في شهد الريف أو يتحد معه ريق الأطلس ، و يتأسف الشاعر بأسى على بعض المعالم الصوفية التي غذت خاضعة لإشراط الآخر القوي كرسم " ليلى العامرية " شاهدة الفيض الإلهي :
" حتى رسم العامرية
غدا أثرا
يرمم لسائحة من بلاد
الثلج
دونها مرشد لا يهتدي "
و لن يهتدي . بكل بساطة لأن تجربة التصوف تجربة باطنية لا يستطيع معها الكلام المكرر اختراق جدارها المتمنع . و هنا قد لا نجد الشاعر بريئا حينما يهدي إحدى قصائده إلى "الطاهر وطار" أو "عمي الطاهر " كما يحلو له أن يسميه ، أو يقارب "الفاعل السردي" في ديوان " في الرياح .. و في السحابة " للراحل بنعمارة الصادر عن منشورات اتحاد كتاب المغرب سنة 2001 , محمد بنعمارة الذي قال عن " ليلى العامرية " :
"
ليلى التي من أجلها
صرت رواية
يحكيها الرواة للسمار
ليلى التي هجرت من أجلها
أهلي .. و أحبابي .. و داري ...
ليلى البعيدة
نجمة و هداية في كل أسفاري " / 3 / .
ج - التناص الأسطوري :
لا يحضر البعد الأسطوري إلا في قصيدة واحدة هي " ترنيمة الحنث " و الملاحظ أنه ارتبط بالنسق الصوفي ، إذ الشيخ الذي خط خطاب الغرام استقدم القلم من كهف " زوس " الذي وصمه الشاعر بالخرب ،في إشارة إلى ما يتداول بشأن كبير الآلهة اليونانية الذي قاد حروبا متعددة أولها مع إخوته ضد والده . يقول الشاعر :
" بقلم يعلق بصوف
دواة الوجد النازح
من كهف زوس الخرب , التعب
بالأثداء و الأشلاء و الأنواء .. .
و أنت " إيو "
و إيو النافدة المشرعة
للقادم من وحل الأدغال
نسجت على إثر خواء " / الديوان ص : ص 63 – 64 /
إن سطوة " زوس" أو " زيوس " و تحكمه في عالم الآلهة لم يمنعه من الوقوع في " خطيئة الوجد،فخان زوجه الشرعي " هيرا " ' ليتزوج ب " إيو" المرأة البشرية الفاتنة , و يحولها إلى بقرة بعدما علمت هيرا بخيانته حماية لها .
فطلبت هيرا إهداء البقرة ، و حاولت قتلها قبل أن تفر إلى مصر و تنتظر زوس هناك و هو ما يشير إليه قول الشاعر :
و إيو النافذة المشرعة
للقادم من وحل الأدغال "
ويعيدها إلى طبيعتها البشرية ، قبل أن تقضي و هي تضع رضيعها بسبب الدبابة الشرسة التي سلطتها " هيرا " .
و يستحضر الشاعر الأجواء السيابية ،باستحضاره لأسطورة السندباد :
"
إذا ما سندباد الفيافي
يوم عاد أو كاد
أو أسرج نحو الكون
يبغي فرح الندماء فبلغيه سلامي
أو عبق ملامي
أو علميه
كيف خارطة الحب لا يرسمها أحد
غير الشعراء " / الديوان ص ص : 64 -65 /
إن مجمل المؤشرات التناصية في الديوان ، تغترف من معين واحد و فيه تصب ، إنه الوجد المتعدد الذي دان به الشاعر و حفر أبعاده عميقا في " حديقة الشعر " ، التي تأبى إلا أن تكون غناء وعناء – في الوقت ذاته - إذ تتمنع دلالتها و تلغز فتنغلق في وجه المتلقي حتى يظن أن الشاعر أبهم، نؤكد ذلك بهذا المثال :
"
لوليدك الصرخة الأولى
يدك بها سنابك الخوذات .
لرضيعك زغرودة
من زمن شاح
عن ثدي المهنة السفلى / الديوان : /
فالسنابك جمع سنبك و هو طرف الحافر عند الحصان – مثلا – لكن الوعي بهذا المعنى الأولي لا يحل مشكلة الدلالة – هذا رغم تمام إدراكنا أن المعنى في الشعر الحداثي لا يتحصل من فك الصعوبة المعجمية بل ببحث طبيعة العلاقات الإسنادية - حتى في حال اعتماد المدخل التناصي باعتبار اللفظة إشارة ضمنية إلى قصيدة " الخيول " لأمل دنقل :
" الفتوحات في الأرض
مكتوبة بدماء الخيول
و حدود الممالك
رسمتها السنابك . "
إن طبيعة العلاقة الإضافية " سنابك الخوذات " تعضل في الوصول إلى المعنى، قياسا إلى العلامة النصية " المهنة السفلى " التي نجدها إشارة إلى أقدم مهنة في التاريخ ، و انتقادها في تمام عدم الرغبة في " الهجرة إلى المدن السفلى " . حيث يعضل الكون و يعضل المعنى . و حين يعضل المعنى فلا بد من الحدس مفتاحا رئيسا ، أو قد يكون المفتاح هو المبنى .
- السردي و الشعري : مساءلة نصين .
يروم هذا المحور إضاءة سؤالين مركزيين :
- ما هي حدود الشعري و السردي في مجموعة " أوراق الوجد الخفية " ؟
- كيف يتمظهر التناص الداخلي في الديوان ؟
نسائل في هذه الإضاءة نصين هما ديوان " أوراق الوجد الخفية " و " زخة و يبتدئ الشتاء " / قصص قصيرة جدا /
أ - السردي و الشعري :
بداءة نعرض التصور الأكاديمي لجمال بوطيب في مسألة الشعري و السردي فهو يعتبر الحدود بينهما " مرسومة / مهدومة / منطلقا في ذلك من فرضية مؤداها غياب الاستقلالية و هجانة النوع الأدبي/ 4 /
إن هذا المتصور الشخصي موجه قسري للشاعر / القاص . قسري لأن الكاتب يحترمه بإنجازه نصيا و تفعيله لدرجة يصعب التمييز في أعماله بين الشعر و النثر .
يتأثل هذا المعطى في قصيدة " الوطن برشة عاشق " . يقول في المقطع الثالث :
" اليوم فاجأني البريد
المرسل هل تعرفه ؟
عرفته يا حبيبتي
لكن خطك من ثقفه / الديوان ص : 78 /
إن هذا المقطع مستقل بذاته تركيبا و دلالة ، لذلك فهو يحقق وقفة دلالية ونظمية ، أي أنه جملة شعرية ، هذه الجملة الشعرية هي جملة سردية أيضا لسببين :
- الأول : أنها تعتمد تناميا في الحدث / وصول الرسالة – تفاجأ الشاعر بها – يطرح السؤال فيجيب الشاعر .السؤال و الجواب يعادلان الحوار، والحوار تقنية سردية .
- الثاني : أن ألفاظ المقطع الشعري متضمنة في قصة " بريد " من مجموعة " زخة و يبتدئ الشتاء " وسنورد النص لقصر مبناه :
" وجد الرسالة في صندوق بريده على ظهرها مكتوب :
- المرسل هل تعرفه ؟
لم يرهق ذهنه لتذكر الخط ( ...) همس لنفسه :
- عرفته يا حبيبتي لكن خطك من ثقفه / 5 /
و إذا كان هذا النص قد عرف تعديلا خاصة على مستوى الاستهلال و إطالة النفس السردي نسبيا برصد الحال الذهنية لبطل القصة و محور القصيدة . فإن الأمر يختلف بالنسبة إلى المقطع الرابع من القصيدة نفسها :
" لما أغرقت بالسكر
القهوة السوداء
ضحكت و قالت :
إن المرارة في الماء / الديوان ص 79 /
هذه الأسطر الشعرية هي ذاتها المشكلة لبنية استهلال قصة " مرارة " الواقعة في الصفحة 26 من المجموعة القصصية " زخة .... " . فأين يبتدئ الشعر و أين ينتهي السرد ؟
الجواب قد نجده في المنطلق النظري لجمال بوطيب أو في الإبستيمي الموجه لشعراء الحداثة . ؟؟؟
ب - التناص الداخلي :
يقصد بالتناص الداخلي كل تمثل لنصوص الشاعر ، و تنزيلها في العمل الأدبي مع الإمكانية الدائمة لفعل المجاوزة الدلالي و البنيوي و فعل التنسيج في السياق ، نمثل لهذا الضرب من التناص بالمقطع الخامس من قصيدة
" الوطن بريشة عاشق " :
" أحضر أصباغا و ألوانا
صار يرسم الوطن
نهره غاضبا لا أريد
بورتريه بلا ثمن " / الديوان: 79 /
هذه القصيدة هي صدى لقصيدة بوتريه من المجموعة القصصية " زخة.... " الواقعة في الصفحة 45، تحكي القصة رغبة فنان مشهور متخصص في البورتريهات والموديلات النسائية في رسم بورتريه للوطن بدل بورتريهات النساء خاصة الفتاة الشقراء التي يسميها " الكاوية " و حين اقترب من إنهاء ملامح الوطن "
فاجأه حين نهره قائلا : لست الكاوية و لا أريد بورتريها بالمجان " .
و لنلحظ أن الشاعر حاول الحفاظ على القصد ذاته و الأبعاد الخطابية نفسها لكن بإبدالات تركيبية وأسلوبية منها تغيير لفظة " بلا ثمن " حتى يتحصل قافية مركبة / الوطن- ثمن / أضف إلى ذلك إعمال خاصية التقليص و التكثيف الواسمة للشعر و المحددة له .
و التناص الداخلي لم يتمظهر فقط بين " زخة ... " و الديوان قيد المقاربة ، بل كذلك بين هذا وبين روايته" سوق النساء " و المتبدي في هذا المقطع :
" و جل أنا من بعدك سيدتي
إذ فجر غشت غشني
و بانطفائك رشني
ألثم وجنة باردة
و يدا سكنت
من بعدما سكنت غلالات القلوب " / الديوان : 68 – 69 /
خاتمة
لم تكن الغاية من هذه القراءة سوى محاولة الاقتراب من بعض الإواليات الفنية و الجمالية التي يستند إليها المنجز الشعري عند الشاعر جمال بوطيب ، بغاية تقديم إضاءة أولية للأسئلة التي تدفعك النصوص الشعرية إلى طرحها.
الهوامش
* - نستبعد هذه الفرضية التحليلية لسبب نجده جوهريا ، هو أن الوجد تنسج داخل لغة . و اللغة – لسانيا- حاصل لسان و كلام ، والكلام وكده " التواصل" ، و التواصل ينفي الصمت إذا جاز اعتبار الصمت عملية غير دالة .
1- بوطيب ، جمال . أوراق الوجد الخفية ، منشورات ما بعد الحداثة ، الطبعة الأولى 2007 .
2- بنعمارة ، محمد : الذهاب بعيدا إلى نفسي ، منشورات الديوان آسفي، الطبعة الأولى 2007 ،ص : 13.
3 - نفسه ، ص: 16 .
4 - بوطيب ، جمال . السردي و الشعري : مساءلات نصية ، منشورات الديوان ، ط1 ، 2007 ، ص ص : 7 – 8
5 - بوطيب ، جمال . زخة و يبتدئ الشتاء ، قصص قصيرة جدا . منشورات الديوان، ط2 2007 ص 77 .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.