بقلم : عبد الرزاق المصباحي / المغرب - مدخل: ترمي الورقة إلى تمثل بعض الإشراقات الدلالية و إضاءة البنيات الجمالية الثاوية خلف سواد الكتابة في مجموعة " أوراق الوجد الخفية " للشاعر المغربي جمال بوطيب . سواد الكتابة الذي لا يفيد هنا البعد الغرافي الإيقوني فقط ، بل كذلك – و لزاما – الزوايا الشديدة التعتيم والإلغاز في السيرورات الدلالية المضاعفة التي تفتأ غير مستقرة و عصية على التحديد الجامع، والتي يمكن إضاءتها من خلال البحث في الخصائص الفنية و البنيات الدلالية في الديوان ، و كذا في مناص الإهداء و العنوان، باعتبارهما عتبة / عتمة أولى تنم عن رغبة فاضحة للشاعر في توريط قارئه " في لعبة المرايا اللا متناهية " و استدراجه بخبث الشعراء و غوايتهم المعتمدة كلاما مرقشا إلى عوالم التخييل. - العنوان : مرآة دلالية مخاتلة محور ملفوظات العنوان الثلاثة هي كلمة الوجد بمعانيها الحافة في الإشراق الصوفي و المنبثقة من منجز الشعر العربي في شق غزله العذري، والتي تجتمع و مصطلحات متقاربة : كالود و الخلة والهوى والتتيم و الكلف و الجوى والشجو و التدليه و العشق ... و غيرها . و هو اقتراب يعيه الشاعر،وعي يتجلى في تسييقاتها المختلفة في متن القصائد ،بخاصة لفظة "الوجد" . يقول في قصيدة " شمس أبي " : " لو طرقت سنينا ما فتحت لك باب و لا قلب و لا عادت نجوم الأمس تبحث عن وجد مورى " / الديوان ص : 41/ تؤكد بنية النفي المطردة في هذا الأسطر شدة الحرقة و المكابدة النفسيين ،وهي حرقة حافة بالوجد بقصائد الديوان بخاصة أوراق الوجد الخمسة . والحقيقة أن القارئ لا يلفى صعوبة في تفسير هذا التماثل ؛الذي تتضمنه آخرالأسطر السالفة،بين الوجد المورى وعنوان الديوان : "أوراق الوجد الخفية " ، إذا ما علم أن" شمس أبى" كانت عنوانا أصليا للديوان قبل أن يغيره الشاعر ؛بالرغم من أنه _أي الشاعر - ظل وفيا للرؤيا نفسها التي تحكمت فيه أوتحكم فيها حينما انتقى عنوان ديوانه ،وهو انتخاب له ما يبرره إذا ما تم تحليل " المركب الإضافي الموصوف : الصيغة التركيبية للعنوان . فالأوراق تشير إلى سند الكتابة و إلى جنس المكتوب " شعر " بدليل العبارة التجنيسية ، و الوجد يدقق القصد من الأوراق : التعبير عن حب مزيج بحزن و مشقة ، أما الخفية فتحدد طبيعة الوجد وميسمه: وجد خفي لا ظاهر، فكيف يتمظهر الوجد الخفي في القصائد الخمس الأولى ؟ - أوراق الوجد الخمس : بعض الأبعاد الدلالية أبعد التأويلات للفظة الخفي أن يكون هذا الوجد صامتا * , و أقربها – من منظور خاص – أن الصورة البصرية / السمعية " أوراق الوجد الخفية " تشير إلى مشاعر عَرَضها – بفتح الراء – انتقاد حاقد وجَوْهرها حب و احتفاء عميقين , احتفاء بالمكان و بشعراء و كتاب و أصدقاء قضوا و آخرون لا يزالون قيد الكتابة ، و هو ما يمكن تلقفه من إهداء الديوان يقول الشاعر " ضدا على كل الموقنين بسطوة الزمان و مديحا لجلال المكان و احتفاء بغياباتنا القسرية نحن مع كل الأحبة إلى بعض مدن الوجد العربي" / إهداء الديوان الموسوم ب : إضاءة " . إن الشاعر يضع متلقيه أمام تقابل بين سطوة الزمن و سلطته القاتلة المؤدية إلى الغياب القسري وبين المكان و عظمته المتمثلة في قيمة معنوية هي" الوجد "، مما جعله يتبوأ عند الشاعر- وبالقياس إلى الزمن – درجة متميزة استحق عبرها فعل المديح. مديح ضمنه الكتاب كثيرا من العتاب الجميل ،عتاب المقة الخالصة و الغيرة الطافحة برائع الصبابة لمدن الوجد و الحلم معا ، يقول في ورقة :" القاهرة " / بما تتضمنه من دلالات القهر و الخضوع و الخنوع و الصغار اسم فاعل و مفعول / مجسدا ذلك العتاب : لا تسألي ألق السنابل هزه برق يباغت أمسنا بغد المحال و القلب من شرر العيون تلا السفاهة والنباهة و استقال . / الديوان ص : 19/ ففي الأسطر ما يشي بانهيار القيم الجادة ،و بسيادة ما يصم مدنا صماء إلا من حروب أهلية ،واغتيالات تحصد أرواحا بريئة ، نجد في ورقة وهران ما يحيل إلى ذلك بقوله : جبهة البحر زجي بالرسغ في طرف الصبوة تنتفض محجات" العربي بن مهيدي" و " أحمد زبانة يصادر ماء " سعيدة " (....) جبهة البحر يا جبهة البحر اقبلي الرهان يزه " عبد القادر " أميرا . / الديوان ص17 / يمكن التمييز هنا بين بنيتين دلاليتين : - الأولى : تتحدد بوساطة نداء خال من أداته و هو غالبا مؤشر على الاتصال الوجداني. - الثانية : مرتبطة بحال الانفصال الوجداني عن المدينة ،إذ يلحظ المتلقي أنه ناداها بالجبهة ،والجبهة مصطلح يحيل إلى الحرب و العنف و الاغتيال .وهو – أي الاغتيال – قيمة يصرح بها الشاعر . بدليل أن الورقة مهداة إلى عبدالقادر علولة المغتال و هو موضوع لها في آن : يغضب أسدا " لا ميري " يخرجان من صمت صخرهما يزأران في وجه خطيئة الحمري بحثا عن قاتل " علولة" . / الديوان ص .ص : 17-18 / و من البنية الدلالية الثانية تتضح سلبية الحديث إلى المدينة التي لا تستمتع إلى نداء الشاعر ، فنلفاه يكرر النداء [ جبهة البحر – يا جبهة البحر ( يا لنداء البعيد ) ] . أما و رقة " فاس " : الورقة الأولى في الديوان ، فالحلول ميسم مهيمن في علاقة الشاعر بها ،وهو الذي كتبها بثلاثة أقلام مختلفة مؤتلفة : قلم المؤرخ – قلم الشاعر – و بقلم فاس . و في كل مقطع / قلم،يبدل الشاعر في البنيات التركيبية على هذا النحو : أ - فاس بقلم المؤرخ : هيمنة الفعل الماضي : / فاس بكت – استوطنت – الرب غاب – الهمز ضاع – البوح خان / ب- فاس بقلم الشاعر : هيمنة فعل الأمر : / هزي إليك – اهمزي الألف – كوني شتاء – كوني غير التي أنت – كوني أنت / - فاس بقلم فاس : هيمنة الفعل المضارع : / يهين الشتاء – يخلدن عيد – صادرت – أكون – يطير – يعمر – ليست – تسمع – ترى / إن هذا التوزيع للأزمنة ينطلق من الوعي بطبيعة المتكلم في القصيد . فالمؤرخ – مثلا – مرتبط بالماضي لكون ممارسته تتحدد في دراسة التاريخ . و التاريخ في إحدى تعاريفه الأولية ليس إلا دراسة للماضي في الحاضر . بيد أن نفس مؤرخ فاس يقترب من نفس الشاعر استنادا إلى طبيعة الانزياحات الإسنادية الموظفة : كأنسنة فاس و جعل الرب يغيب من قلبها ،مع إشارة إلى أصل كلمة فاس / الهمز ضاع من حرفها / . و يبدو أن صوت الشاعر كان أقوى من صوت المؤرخ و من صوت فاس حيث مارس ما يشبه الوصلات الإشهارية الداعية إلى السياحة : " ليست فاس ما تسمع إن فاس ما ترى " / الديوان ص 13/ أما ورقتا بيروت و بغداد فتضمنتا إشارتين هامتين في موقف الشاعر منهما ، في الأولى تجسيد لإباء المدينة و مقاومتها " أنا بيروت واقفة إن تبكوا أكبو " / الديوان ص : 30/ و في الثانية مديح للعراقيين الذين وسمهم بالملائكة و مخازن الرقة و اللطافة و الحلم ،و نظن أن ثيمة الورقة كانت تتغير لو كتبها الشاعر في خضم الأحداث المذلة التي تشهدها بلاد الرافدين . -التناص . يقوم الشاعر بتوليف أنساق غير شعرية في عمله الإبداعي مستحضرا المنجز الصوفي والأسطوري والديني .... استحضارا يتسق و الرؤى الدلالية و الجمالية التي يتوخاها عبر تناصاته . أ - التناص الديني : يتأسس التناص في مجموعة " أوراق الوجد الخفية " على مبدإ " المجاورة و المجاوزة التناصية": أي أن الشاعر لا يعتمد تمثلا محايدا للنصوص و غرسها في تربة النص ، بل يدمجها ضمن سيرورات دلالية مختلفة ، و إن حافظ – أحيانا – على بنياتها التركيبية ، يعضد ذلك هذه الأسطر من" ورقة فاس" : " فاس هزي إليك بجدع الأبجدية تساقط عليك حروفا " / الديوان ص : 10/ إنها إحالة واضحة إلى الآية 24 من سورة :" مريم " . يقول تعالى:( و هزي إليك بجدع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا) : و فيها حافظ الكاتب على البنيات التركيبية نفسها ، لكن بسيرورات دلالية مغايرة باعتماد تقنية " الوضع خارج السياق " ، فالأمر الإلهي لمريم بتحريك جدع النخلة هو بغاية تحصيل الرطب التي تحتاجها في حال المخاض أو الوضع ،و هي المحرومة من الدعم و الاحتضان القبلي كما عكسه السياق القرآني ، لكن " أمر " الشاعر لفاس يحكمه وكد آخر هو تخير حرف من الأبجدية لتتم الناقص بها من همز بدليل قول الشاعر : اهمزي الألف . و لعل وجه الشبه بين فاس و مريم هو : الافتقاد .مريم تفتقد تصديق القبيلة لها بالعفة والشرف،وفاس تفتقد الهمز و أشياء أخر يشير إ ليها الشاعر عن طريق توظيف الفعل الإلهي " كن " حينما يخاطب فاس و يأمرها، مما يؤكد السلطة الرمزية للشاعر /أي شاعر : " كوني شتاء كوني غير التي بالأمس فصلها كان كوني أنت " /الديوان ص : 11/ أضف إلى ذلك فقدان الثقة و القيم التي أكدها الشاعر عبر تمثل قصة " يوسف عليه السلام ": " يا جدي ( .....) هذي الناي قد كسرت و الراعي صادق الذئب و أخي الذي استوزرته باع " الشياه " للشياه قاد الحب إلى منتهاه لا الجب تعرف سر الصفقة لا يوسف يكتم شر الحرقة لا امرأة عزيز فكرت يوما في توبة / الديوان : ص 86 / الشاعر يؤكد صورة عالم متهالك تتكرس فيه ملامح النفاق و الغدر و الخيانة التي لا تفكر معها " امرأة عزيز " _بما هي رمز للغواية و الظلم _ في التوبة . والمتأمل في تركيب اللفظين سيجد أن " امرأة " قد أضيفت إلى نكرة بعكس السياق القرآني الذي جاءت فيه الإضافة إلى معرفة ، و قصد منه زوج عزيز مصر . بيد أن الإضافة هنا لا تكسب المضاف تعريفا بل تخصيصا ،مما يفتح الأسطر السالفة على تأويلات دلالية ممكنة قد لا يكون التناص مفتاحها . ب – التناص الصوفي : هذا الضرب من التناص ليس إلا امتدادا للنصوص الدينية الغائبة , يمتح منها أبعادها العرفانية وكشوفها الحدسية المتحللة من سلطة المادة و سطوة الغرائز التي تختزل الإنسان في رغبات زائلة ،وليس غريبا أن يتأسس مفهوم الصوفي نتيجة ذلك _ في كونه من " يلبس الصوف على الصفا، و يطعم الهوى ذوق الجفا، و تكون منه الدنيا على القفا، و يتبع منهاج المصطفى صلى الله عليه و سلم ". فالجسد ليس محددا رئيسا لجوهر الإنسان و ماهيته ؛قياسا إلى الروح في التصور الصوفي التي تمكنه من السفر في عوالم الفيض الإلهي ومن الحلول ؛ الذي لا تستطيع معه اللغة التعبير أو حتى الإشارة/ تضيق العبارة /،و الشاعر يعي هذا البعد و يجسده نصيا في قصيدة " شمس أبي " : " أبي أحكم الإغلاق و أعطى المفتاح للشمس قبل خد البحر سافر باتجاه الرؤيا إذ ضاقت به العبارة " / الديوان ص : 42 / فيحيل صراحة إلى قولة "الإمام النفري" الشهيرة " إذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة " ، إنها تعبير عن درجة سامية يرقى فيها المريد إلى أن يصير شيخا يعيش شطحات ترشح وجدا منزلا و يكرره : بين مريدي شيخ يخط خطاب غرام على لوح أرهقه الصلصال الصوان الوقف الخسف بقلم يعلق بصوف دواة الوجد " / الديوان : ص.ص : 62- 63 / إلى أن يثمل و يعيش الدرجة ؛التي يستزيد فيها الكؤوس التي توازن " مزن الأرض " و " ترب السماء " و تدركها الثمالة و في هذه الغمرة يحضر التساؤل و التمني : " إلام يخون الصحاب الكؤوس و أبقى وفيا ؟؟؟ يا شهد الريف لو أسكرك يا ريق الأطلس لو تسكرني " / الديوان : ص ص -74- 75 / إن الشاعر لا يؤصل هنا لسلوك العربدة في الشعر كما قد يظهر من خلال القراءة البراغماتية المستعجلة . ذاك السلوك الذي شانه الشاعر المتميز المرحوم" محمد بنعمارة" محددا أنماط الشعراء : " شاعر .... و شاعر عاشق .... و بهلوان شاعر شموخه سلوك و شاعر سلوكه الهوان " / 2/ بل يوظف الكأس- و هي تسعفه و العبارة - بمدلولها الصوفي بما هي مؤشر على درجة من درجات الوجد و الحلول في المحبوب ، و المحبوب هنا ليس إلا المكان و جلاله ، الذي يحتفي به الشاعر أيما احتفاء . لذا نجده يتمنى أن يحل في شهد الريف أو يتحد معه ريق الأطلس ، و يتأسف الشاعر بأسى على بعض المعالم الصوفية التي غذت خاضعة لإشراط الآخر القوي كرسم " ليلى العامرية " شاهدة الفيض الإلهي : " حتى رسم العامرية غدا أثرا يرمم لسائحة من بلاد الثلج دونها مرشد لا يهتدي " و لن يهتدي . بكل بساطة لأن تجربة التصوف تجربة باطنية لا يستطيع معها الكلام المكرر اختراق جدارها المتمنع . و هنا قد لا نجد الشاعر بريئا حينما يهدي إحدى قصائده إلى "الطاهر وطار" أو "عمي الطاهر " كما يحلو له أن يسميه ، أو يقارب "الفاعل السردي" في ديوان " في الرياح .. و في السحابة " للراحل بنعمارة الصادر عن منشورات اتحاد كتاب المغرب سنة 2001 , محمد بنعمارة الذي قال عن " ليلى العامرية " : " ليلى التي من أجلها صرت رواية يحكيها الرواة للسمار ليلى التي هجرت من أجلها أهلي .. و أحبابي .. و داري ... ليلى البعيدة نجمة و هداية في كل أسفاري " / 3 / . ج - التناص الأسطوري : لا يحضر البعد الأسطوري إلا في قصيدة واحدة هي " ترنيمة الحنث " و الملاحظ أنه ارتبط بالنسق الصوفي ، إذ الشيخ الذي خط خطاب الغرام استقدم القلم من كهف " زوس " الذي وصمه الشاعر بالخرب ،في إشارة إلى ما يتداول بشأن كبير الآلهة اليونانية الذي قاد حروبا متعددة أولها مع إخوته ضد والده . يقول الشاعر : " بقلم يعلق بصوف دواة الوجد النازح من كهف زوس الخرب , التعب بالأثداء و الأشلاء و الأنواء .. . و أنت " إيو " و إيو النافدة المشرعة للقادم من وحل الأدغال نسجت على إثر خواء " / الديوان ص : ص 63 – 64 / إن سطوة " زوس" أو " زيوس " و تحكمه في عالم الآلهة لم يمنعه من الوقوع في " خطيئة الوجد،فخان زوجه الشرعي " هيرا " ' ليتزوج ب " إيو" المرأة البشرية الفاتنة , و يحولها إلى بقرة بعدما علمت هيرا بخيانته حماية لها . فطلبت هيرا إهداء البقرة ، و حاولت قتلها قبل أن تفر إلى مصر و تنتظر زوس هناك و هو ما يشير إليه قول الشاعر : و إيو النافذة المشرعة للقادم من وحل الأدغال " ويعيدها إلى طبيعتها البشرية ، قبل أن تقضي و هي تضع رضيعها بسبب الدبابة الشرسة التي سلطتها " هيرا " . و يستحضر الشاعر الأجواء السيابية ،باستحضاره لأسطورة السندباد : " إذا ما سندباد الفيافي يوم عاد أو كاد أو أسرج نحو الكون يبغي فرح الندماء فبلغيه سلامي أو عبق ملامي أو علميه كيف خارطة الحب لا يرسمها أحد غير الشعراء " / الديوان ص ص : 64 -65 / إن مجمل المؤشرات التناصية في الديوان ، تغترف من معين واحد و فيه تصب ، إنه الوجد المتعدد الذي دان به الشاعر و حفر أبعاده عميقا في " حديقة الشعر " ، التي تأبى إلا أن تكون غناء وعناء – في الوقت ذاته - إذ تتمنع دلالتها و تلغز فتنغلق في وجه المتلقي حتى يظن أن الشاعر أبهم، نؤكد ذلك بهذا المثال : " لوليدك الصرخة الأولى يدك بها سنابك الخوذات . لرضيعك زغرودة من زمن شاح عن ثدي المهنة السفلى / الديوان : / فالسنابك جمع سنبك و هو طرف الحافر عند الحصان – مثلا – لكن الوعي بهذا المعنى الأولي لا يحل مشكلة الدلالة – هذا رغم تمام إدراكنا أن المعنى في الشعر الحداثي لا يتحصل من فك الصعوبة المعجمية بل ببحث طبيعة العلاقات الإسنادية - حتى في حال اعتماد المدخل التناصي باعتبار اللفظة إشارة ضمنية إلى قصيدة " الخيول " لأمل دنقل : " الفتوحات في الأرض مكتوبة بدماء الخيول و حدود الممالك رسمتها السنابك . " إن طبيعة العلاقة الإضافية " سنابك الخوذات " تعضل في الوصول إلى المعنى، قياسا إلى العلامة النصية " المهنة السفلى " التي نجدها إشارة إلى أقدم مهنة في التاريخ ، و انتقادها في تمام عدم الرغبة في " الهجرة إلى المدن السفلى " . حيث يعضل الكون و يعضل المعنى . و حين يعضل المعنى فلا بد من الحدس مفتاحا رئيسا ، أو قد يكون المفتاح هو المبنى . - السردي و الشعري : مساءلة نصين . يروم هذا المحور إضاءة سؤالين مركزيين : - ما هي حدود الشعري و السردي في مجموعة " أوراق الوجد الخفية " ؟ - كيف يتمظهر التناص الداخلي في الديوان ؟ نسائل في هذه الإضاءة نصين هما ديوان " أوراق الوجد الخفية " و " زخة و يبتدئ الشتاء " / قصص قصيرة جدا / أ - السردي و الشعري : بداءة نعرض التصور الأكاديمي لجمال بوطيب في مسألة الشعري و السردي فهو يعتبر الحدود بينهما " مرسومة / مهدومة / منطلقا في ذلك من فرضية مؤداها غياب الاستقلالية و هجانة النوع الأدبي/ 4 / إن هذا المتصور الشخصي موجه قسري للشاعر / القاص . قسري لأن الكاتب يحترمه بإنجازه نصيا و تفعيله لدرجة يصعب التمييز في أعماله بين الشعر و النثر . يتأثل هذا المعطى في قصيدة " الوطن برشة عاشق " . يقول في المقطع الثالث : " اليوم فاجأني البريد المرسل هل تعرفه ؟ عرفته يا حبيبتي لكن خطك من ثقفه / الديوان ص : 78 / إن هذا المقطع مستقل بذاته تركيبا و دلالة ، لذلك فهو يحقق وقفة دلالية ونظمية ، أي أنه جملة شعرية ، هذه الجملة الشعرية هي جملة سردية أيضا لسببين : - الأول : أنها تعتمد تناميا في الحدث / وصول الرسالة – تفاجأ الشاعر بها – يطرح السؤال فيجيب الشاعر .السؤال و الجواب يعادلان الحوار، والحوار تقنية سردية . - الثاني : أن ألفاظ المقطع الشعري متضمنة في قصة " بريد " من مجموعة " زخة و يبتدئ الشتاء " وسنورد النص لقصر مبناه : " وجد الرسالة في صندوق بريده على ظهرها مكتوب : - المرسل هل تعرفه ؟ لم يرهق ذهنه لتذكر الخط ( ...) همس لنفسه : - عرفته يا حبيبتي لكن خطك من ثقفه / 5 / و إذا كان هذا النص قد عرف تعديلا خاصة على مستوى الاستهلال و إطالة النفس السردي نسبيا برصد الحال الذهنية لبطل القصة و محور القصيدة . فإن الأمر يختلف بالنسبة إلى المقطع الرابع من القصيدة نفسها : " لما أغرقت بالسكر القهوة السوداء ضحكت و قالت : إن المرارة في الماء / الديوان ص 79 / هذه الأسطر الشعرية هي ذاتها المشكلة لبنية استهلال قصة " مرارة " الواقعة في الصفحة 26 من المجموعة القصصية " زخة .... " . فأين يبتدئ الشعر و أين ينتهي السرد ؟ الجواب قد نجده في المنطلق النظري لجمال بوطيب أو في الإبستيمي الموجه لشعراء الحداثة . ؟؟؟ ب - التناص الداخلي : يقصد بالتناص الداخلي كل تمثل لنصوص الشاعر ، و تنزيلها في العمل الأدبي مع الإمكانية الدائمة لفعل المجاوزة الدلالي و البنيوي و فعل التنسيج في السياق ، نمثل لهذا الضرب من التناص بالمقطع الخامس من قصيدة " الوطن بريشة عاشق " : " أحضر أصباغا و ألوانا صار يرسم الوطن نهره غاضبا لا أريد بورتريه بلا ثمن " / الديوان: 79 / هذه القصيدة هي صدى لقصيدة بوتريه من المجموعة القصصية " زخة.... " الواقعة في الصفحة 45، تحكي القصة رغبة فنان مشهور متخصص في البورتريهات والموديلات النسائية في رسم بورتريه للوطن بدل بورتريهات النساء خاصة الفتاة الشقراء التي يسميها " الكاوية " و حين اقترب من إنهاء ملامح الوطن " فاجأه حين نهره قائلا : لست الكاوية و لا أريد بورتريها بالمجان " . و لنلحظ أن الشاعر حاول الحفاظ على القصد ذاته و الأبعاد الخطابية نفسها لكن بإبدالات تركيبية وأسلوبية منها تغيير لفظة " بلا ثمن " حتى يتحصل قافية مركبة / الوطن- ثمن / أضف إلى ذلك إعمال خاصية التقليص و التكثيف الواسمة للشعر و المحددة له . و التناص الداخلي لم يتمظهر فقط بين " زخة ... " و الديوان قيد المقاربة ، بل كذلك بين هذا وبين روايته" سوق النساء " و المتبدي في هذا المقطع : " و جل أنا من بعدك سيدتي إذ فجر غشت غشني و بانطفائك رشني ألثم وجنة باردة و يدا سكنت من بعدما سكنت غلالات القلوب " / الديوان : 68 – 69 / خاتمة لم تكن الغاية من هذه القراءة سوى محاولة الاقتراب من بعض الإواليات الفنية و الجمالية التي يستند إليها المنجز الشعري عند الشاعر جمال بوطيب ، بغاية تقديم إضاءة أولية للأسئلة التي تدفعك النصوص الشعرية إلى طرحها. الهوامش * - نستبعد هذه الفرضية التحليلية لسبب نجده جوهريا ، هو أن الوجد تنسج داخل لغة . و اللغة – لسانيا- حاصل لسان و كلام ، والكلام وكده " التواصل" ، و التواصل ينفي الصمت إذا جاز اعتبار الصمت عملية غير دالة . 1- بوطيب ، جمال . أوراق الوجد الخفية ، منشورات ما بعد الحداثة ، الطبعة الأولى 2007 . 2- بنعمارة ، محمد : الذهاب بعيدا إلى نفسي ، منشورات الديوان آسفي، الطبعة الأولى 2007 ،ص : 13. 3 - نفسه ، ص: 16 . 4 - بوطيب ، جمال . السردي و الشعري : مساءلات نصية ، منشورات الديوان ، ط1 ، 2007 ، ص ص : 7 – 8 5 - بوطيب ، جمال . زخة و يبتدئ الشتاء ، قصص قصيرة جدا . منشورات الديوان، ط2 2007 ص 77 .