ذ. عبد الرزاق المصباحي/ المغرب/ أسفي توطئة: انتخاب شعرية التعالي النصي مدخلا لمقاربة أضمومة الشاعر المتميز إبراهيم القهوايجي " للأزهار رائحة الحزن " ،
انطلق _ بالنسبة إلي _ من علاقة سابقة مع نص " ما تيسر من سفر العيد " ، وهي علاقة قراءة بريئة _ غير نقدية _ ، ألفيت من خلالها أن معطى التناص يخترق عالم النص ؛ بل يشكل بنية القصيدة و يتحكم في مفاتيح قراءتها واستكناه السيرورات الدلالية الكامنة خلف تلك البنية ، و بعد أن وصلتني باكورة الشاعر تيقنت أن التناص منطلَق جوهري ناظم ومركزي : تشتغل عليه قصائد الديوان بأبعاد خاصة و باستحضار متفرد ، بالإضافة إلى التوزيع الإيقوني للدوال البصرية ، و خطاب العتبات من عنونة و عنونة داخلية وإهداء و تقديم ... . 1 - في حصر مفهوم الاشتغال : المتعاليات النصية مصطلح نظر له الناقد الفرنسي جيرار جنيت في كتابه "عتبات " حيث اعتبره موضوع الشعريات الحديثة ف " موضوع الشعرية (...) ليس هو النص باعتبار تفرده و تميزه _ كما يقول جنيت _ بل موضوعها هو جامع النص (... ) أو الأجدر القول بأن هذا الموضوع هو التعالي النصي " 1 ، و لقد عرفه بأنه " كل ما يجعل النص في علاقة ظاهرة أو خفية مع نصوص أخرى " 2 . هاته العلاقات يمكن أن تكون علاقات تناصية ، مناصية ، ميتانصية ، تعلقا نصيا أو جامع نص . و هي أنواع خمسة تندرج ضمن ما يسميه جنيت التعالي النصي. و سيتم الاقتصار في هذه الورقة على مقاربة عنصرين في المتعالي النصي هما : المناص أو النص الموازي و التناص . - النص الموازي: يشمل النص الموازي كل ما يحيط بالنص و يدور في فلكه من عنوان و مقدمة وفهرس و إهداء وصور مرفقة بالنص... و غيرها، باعتبار ها عتبات الولوج الأولى للمتن، ومدخلا أساسا من مداخل قراءته. أ – العنوان: يطالعنا الديوان بعنوان "مثير " من الإثارة و هي الوظيفة الشعرية للعنوان ذات الأبعاد الجمالية ؛بالقياس إلى الوظيفة " المشيرة " أي الوظيفة المرجعية للعنوان بإشارة داله – بصريا أو لغويا أو هما معا – إلى تصور متواضَع عليه و مرجع واقعي محدد . و الجدير بالقول إن عنوان الديوان " للأزهار رائحة الحزن " يخرج في داليه الإيقوني البصري واللغوي عن هاته الوظيفة ، و يعانق بالمقابل عوالم دلالية مختلفة و متباينة و عصية على التحديد المنطقي الصارم و الجامع . فهو يتموقع – طباعيا – في أعلى صفحة الغلاف مباشرة تحت اسم المؤلف ، و فوق لوحة الغلاف؛ التي أبدعتها الفنانة الفلسطينية حنان الآغا ، مكتوب بخط أسود بارز في حواشيه بياض ، جعله يحتل فضاء متسعا . توزيع بهذا الشكل له دلالته الخاصة ، إذ يومئ الشكل البارز للعنوان و توسطه لصفحة الغلاف أهميته بالمقارنة مع العناصر الإيقونية الأخرى من اسم المؤلف _ رغم وضعه في رأس الصفحة _ و العبارة التجنيسية " نصوص شعرية " و اسم الناشر " دفاتر الاختلاف " ، يعضد التأكيد على هذه الأهمية التحليل اللغوي للعنوان : إذ جاء _ تركيبيا _ جملة اسمية انزاحت عن النسق المحايد لتركيب الجملة في لغة الضاد حيث تقدم الخبر ( شبه الجملة ) "للأزهار " على المبتدإ المركب الإضافي " رائحة الحزن " ، و استنادا إلى اللسانيات الوظيفية ، فإن لهذا التقديم قصدية تواصلية هي جعل المقدَم في الكلام بؤرة اهتمام . من هذا المنطلق تغذو الأزهار بؤرة العنوان و محددَه ، لكنها ليست أزهارا عادية لأنها تمتلك رائحة حزينة ، و هذا إسناد تركيبي منزاح له أثر على مدلول العنوان وطبيعة الوظيفة المهيمنة فيه ، فالأزهار في الدلالة الاصطلاحية رمز للجمال والخصب ، إنها هدية العاشق لمحبوبته ، و علامة زمن الانبعاث و الحياة الدافئة " الربيع " ، و توسم بأنها ذات رائحة أرجة ، و في عنوان الديوان إرهاصات معنوية مغايرة حيث تغرق الأزهار في الحزن و تنشره كما تنتشر الرائحة في الهواء ، و أزهار العنوان هنا تبدو معادلا موضوعيا لقصائد الديوان ، فكما أنها _ أي القصائد_ تتضمن جمالا بنيويا (الرائحة العبقة التي هي من طبيعة الأزهار ) فإنها تفصح عن حزن دفين آثر الشاعر مقاسمته و القارئ َ، ويفضح بعضا من سواد العالم و شره و جزءا هاما من رؤية الشاعر لمحيطه المحلي والقومي والإنساني ، و هي أزهار تجول في أمكنة مختلفة و أزمنة متباينة تقوض سلطتها ، فتقذف الشاعر أحيانا إلى تغريبة الوالد و العراق و إلى الوطن القصيدة والمدينة المعشوقة ( سبع عيون ) .. . و غيرها من أمكنة حبلى بذاكرة يقظة وممتدة . و ليس من غريب أن نجد المفردات الصريحة و الإبدالات المصطلحية الحافة بلفظ الأزهار متضمنة في العناوين الداخلية للقصائد : بيني و بينك زهر أيلول - زهرة ترسم الألف ميل – لا اسم لها تلك الوردة -... أو في المعاني الحزينة المرتبطة بالعنوان: سيرة الألم - هكذا حدثني الغياب . إن العنوان عند إبراهيم القهوايجي يتأسس على المفارقة ironie من حيث هي صيغة بلاغية تودي غير وظيفة دلالية من خلال اعتمادها على الجمع بين المتناقضات و الأضداد التي لا تجتمع حقيقة 3 . و هي مفارقة تندرج ضمن نوع المفارقة المأساوية ** بإلباس الأزهار وصفا غير ذلك الذي هو من صميم طبيعتها و تتحد هذه المأساوية مع اللون الأسود الذي كتب به العنوان ، و هو لون المأساة والموت و حالات السديم و التعمية بل الفوضى ، رغم ما يتخلل العنوان في حواشيه من لون أبيض أو في سند support صفحة الغلاف البيضاء و مراميهما المرمّزة في التخفيف من سوداوية المعاني المؤشَّر عليها . و بالتالي فإن الشاعر في عنوانه لا يصادر عن المطلوب و يمنع فرصة الحلم في الأمل و الحياة ، بالرغم من كل المثبطات و كل ما يحيط بنا من ابتذال في القيم و انحطاط في اعتبار قيمة الإنسان ؛ بل ما يصنع إنسانيته و يسمو بها ، و لعل من بين أهمها الشعر : لذا لا نستغرب كل هذا الحضور للشعر موضوعا في قصائده و عناوين تلك القصائد : وطني .. قصيدتي – قل قصيدتك ... و ارحل – توقيعات شاعر على صدر دفتر - خلوة ... ظل قصيدك . و لا نستغرب استحضار أسماء شعرية وازنة في المتن و الإهداء، كما لا نستغرب حضور الحديث عن الشعر و الشاعر في خطاب المقدمة و المدخل. ب – الإهداء: الإهداء عتبة لها أهميتها في أي إمكانية قرائية للمتن ، و صيغها ثلاث هي : صيغة الإهداء الخاصة والعامة و المشتركة ، فالخاصة تتميز بطابعها الشخصي وبالعلاقات الحميمة التي يمكن أن تجمع المؤلف بأشخاص بعينهم من محيطه ، أما الصيغ العامة فلا تتحدد بأشخاص بعينهم فقد يكون المهدي له القارئ أو الذات أو النص .. . أما صيغ الإهداء المشتركة فتتأسس على التوجه إلى أشخاص معينين و تعنى بالتواشج بين عنوان المؤلَف أو نصوصه 4 . ورد الإهداء في " أزهار إبراهيم القهوايجي " بصيغة الإهداء المشترك : " أهدي هذه النصوص التي عشت معها أكثر مما عاشت معي. إلى: ريحانة البستان والفراشتين و البطل الحالم . " و الإهداء يبدو حاملا لطابع شخصي إذ قد تكون ريحانة البستان زوج الشاعر والفراشتان ابنتاه و البطل الحالم ابنه ، إلا أن رغبة الشاعر في عدم تقييد إهدائه بأسماء الأعلام جعل المهدى إليه شاملا لكل محب للحرية ( الفراشتان ) و للجمال (البستان ) و للشعر ( الحلم و الريحانة ) ، و من هنا ترشَح العلاقة بين العنوان و الإهداء و تظهر وشائجهما في الدعوة إلى الحلم بما هو بعد من أبعاد القول الشعري و مقوم من مقومات دهشته كما تصرح بذلك السريالية والرومانسية على حد سواء . ينسحب ذلك أيضا على الإهداءات الداخلية بالرغم من إقرار أسماء بعينها : إلى محمد أمين في مهده ( قصيدة سيرة الألم ) ، إلى حنان و هي تتسكع في رحلة الحرف ( توقيعات شاعر على صدر دفتر ) ، إلى جميلة في الحقيقة و المجاز ( امرأة من رماد ) ، إلى نورس الدارالبيضاء عبدالسلام مصباح في عيد الشعر ( ما تيسر في سفر العيد ) ، إلى المرحوم محمد بن عمارة ( على سبيل الرحيل ) ... الخ : تتعالق هذه الإهداءات و غيرها بشكل لافث بمتن النص بقصديات مختلفة : بأن يكون المهدى إليهموضوع القصيدة احتفاء بقدوم ( محمد أمين ) أو استحضارا لفضل ( عبدالسلام مصباح ) أو تأبينا ( محمد بنعمارة ) . و هو الأمر الذي يمكن أن نفصل الحديث فيه في الجزء الخاص بمقاربة التناص عند البهي إبراهيم . ج- الهرمينوطيقا الأولية (خطاب التقديم) : يشير doninque julien من خلال مصطلح " الهرمينوطيقا الأولية " إلى وظيفة التقديم المركزية بوصفه : خطابا واصفا و قولا ممهدا للنص بغايتين متكاملتين : أولها أن يجعل العمل الإبداعي مقروءا و ثانيها أن يجعل قراءته حسنة ، و هي وظيفة إشهارية تثير المتلقي إلى الجوانب المميزة للنص ، و تجنبه _ في أحايين كثيرة _ القراءات المغرضة ، رغم أن القراءة نفسها هي إساءة قراءة كما يقول "دومان" . و هنا ينبغي التمييز _ كما يقول ديريدا _ بين المدخل و التقديم : من حيث كون المدخل يرتبط ارتباطا نسقيا بالنص غير متأثر بالطبعات وتواريخها ، ويعالج قضايا ذات صلة بهندسة النص و منطق بنائه أما المقدمة فتختلف بين طبعة و أخرى، وتستجيب لمتطلبات سياقية و تداولية 5 . تأسيسا على هذا فإن الخطاب الواصف الذي تم تصدير الديوان به بقلم د / أسماء غريب ، و الممتد من الصفحة الأولى إلى الثانية عشر ، هو مدخل و ليس مقدمة باعتباره انشغل بتشريح بعض بنيات الديوان الموضوعية ، حيث تناولت بالتحليل الدلالات الممكنة الحافة بالعنوان و تصورها الشخصي لمراميه و أبعاده ، كما تناولت بالمقاربة الإهداء َ و ثلة من القصائد المنتقاة من درر الديوان و جواهره ،رابطة إياها بأحداث تاريخية و في الحاضر تصم العالم : أحداث العراق على وجه التمثيل لا الحصر ،بالإضافة إلى حديث عن شاعرية إبراهيم القهوايجي يستحقها الشاعر و بوسام أيضا . و في السياق نفسه ، يمكن إدارج "مدخل " بهيجة مصري إدلبي الموسوم ب " الاحتفاء بالشعر : الغيبة و الغياب " ؛ الذي ركز في مضمونه على ثيمة التصوف و الغياب عند الشاعر . 2 - التناص : يعي إبراهيم القهوايجي جيدا أنه يكتبه نصا إبداعيا ذا طبيعة خاصة ، يقع على الحدود بين أجناس متعددة و أشكال تعبير مختلفة ، لذا يتريث في إبداع قصائده ، و لنلحظ أن الغلاف الزمني لقصائد الديوان الستة عشر تطلب سبعة عشر سنة ،كما هو مثبت في غلاف ما قبل الصفحة الرابعة للغلاف . إننا إذا أمام "حوليات " شاعر ، و هي مدة كفيلة بأن تعكس لنا رؤى الشاعر للعالم و لمحيطه من خلال هذا المنجز ، و هي رؤى لا تقدم نفسها بشكل مباشر بقدر ما هي صدى يمكن أن نلتقطه من خلال ولوج إهاب النص ، هذا النص الذي تم توسيع مفهومه ف" ما حدث – كما يقول جاك ديريدا - ...هو عملية اجتياح أبطلت كل الحدود و التقسيمات السابقة و أرغمتنا على توسيع المفهوم المتفق عليه ....لما ظل يسمى لأسباب إستراتيجية نصا ، لم يعد منذ الآن جسما كتابيا مكتملا ،أو مضمونا يحده كتاب أو هوامشه، بل , شبكة اختلافات ، نسيج من الآثار التي تشير بصورة لا نهائية إلى أشياء أخرى غير نفسها ، إلى آثار اختلافات أخرى ، و هكذا يجتاح النص كل الحدود المعينة له حتى الآن " – 6 - . إنها آثار تأخذ بعين الاعتبار قارئا معينا ،ترمي إلى انتشاله من كسله في التلقي المحايد إلى التلقي المنتج ، كما لا نغفل قيمتها في بلورة قالب جمالي للمبدع ( بفتح الدال ). ونعود للتأكيد هنا على ثقافة الشاعر و وعيه بهاته الأبعاد ، إذ لإبراهيم القهوايجي تكوين نقدي رصين ،ودربة متميزة في مجال النقد تظهر في قراءاته العاشقة و الواعية لأعمال الزملاء . ومن المفيد في هذه القراءة أن نستحضر العلاقة الجدلية بين المبدع و الناقد ، فمما لا شك فيه أن المبدع أول ناقد لعمله وأول موجه له ، كان ناقدا ملما بأدوات النقد أم غير ذلك ، لكن علاقة الشاعر / الناقد بنصه تختلف باختلاف امتلاك تلك الأدوات من دونها ، وقد يجوز التسليم هنا بأن ذلك الأثر قد ألقى بظلاله على المنجز، فالوعي بأهمية التناص و دوره الاستراتيجي في بناء النص الحداثي و تحديد هويته ، جعل منه إطارا هاما للاشتغال و أداة فاعلة في تمرير الرؤى الخاصة ، و قد هيمن التناص الشعري والشاعري ( التناص المرتبط بأسماء شعراء ) بشكل يوحي بكون الشعر لدى إبراهيم القهوايجي انشغال يومي و هوس يلازمه ؛ بل " و يعيش معه " كما صرح بذلك في إهداء الديوان ، من دون أن نغفل ذلك الرجع البهي لقيم الدين الإسلامي و أخلاقه و قَصصه . هكذا نلفى المتنبي و الخمار الكنوني و محمد بن عمارة و محمود درويش و سميح القاسم و السياب و نورس الدار بيضاء عبدالسلام مصباح ... و غيرها رموزا حاضرة في النسيج النصي و مؤثثة له ولموضوعاته ، لا زمن يمنعها من التحليق الحر ، ففي قصيدة " يقذفني الشوق إلى تغريبة أبي .. . و العراق ." يستحضر سندباد السياب و مطره ، منتظرا إياه ليتطهر من أدران ربطها بفضاء مكناس ، فكأنما السندباد رمز خلاص ، بعودته يطفو الشوق و الرغبة في البوح وفي الحياة حينما تطفو سفينه على بحر المديد : " و يعود السندباد فتطفو سفينه في البحر المديد لأكتب في دفتر انكساري أشعار ميلادي " / الديوان ص : 14 / و لعل هذا يقودنا إلى الحديث عن قيمة التماهي عند القهوايجي مع السياب ، تماه في معاناة الانكسار و كذا عدم فقدان الأمل في الحياة ، فإذا كان السياب قد عاش علة الجسد و اكتوى بنار الشوق و البعد عن" إقبال" زوجه ، فإن الشاعر يكاد يصدح بالمعاناة نفسها في بعد أبيه عنه و الذي " يستعذب وحشة مكان معرف بالإشارة إليه : ( تستعذب هذا المكان ) و هو مكان موحش و لا شك . / الديوان : 13 ؛ بيد أن ذلك لا يمنع انسياب الحياة المخضرة و عيون الخصب : " عيناك حين تورقان تخضر حقول قلبي " / الديوان: ص : 32 / ، بالرغم من ذلك يبقى الحزن صفة لصيقة بالشاعر ، و بتعبير أدق بقصائد الشاعر ، و لا غرو أن نجده يوظف التناص مع قصيدة " أنشودة المطر " بقصدية دلالية مباينة للتناص السالف، و هو يخاطب اللغة في الشعر قائلا : " عيناك غابتا حزن وقت السحر " ، و هو الزمن ذاته ؛ الذي وظفه السياب ليجعل من عيني مخاطبته غابتي نخيل أو شرفتين راح ينأى عنهما القمر . إن هذا المثال يشير إلى الخاصية التناصية الواسمة لشعر القهوايجي ،باعتمادها على ممارسة التعديل و الانحراف و تجاوز الظروف و الدلالات ؛ التي يتأسس عليها النص الأصلي ( نص السياب ) ، فالإشارتان التناصيتان السالفتان تظهران طباقا صريحا في المعنى بينهما بالرغم من اتفاقهما في نص الانطلاق . و هذه الخصيصة تشمل باقي أشكال التناص الأخرى ،بحيث يصل التعديل و التجاوز للنص الأصلي أبعادا قصوى ، بخاصة حينما يتعلق الأمر بمعالجة ثيمة معينة أو قضية ، و لعل ذلك برز أثناء حديثه عن العراق / العراك ، فلم يجد خيرا من كافوريات المتنبي تمثيلا : " و العراق يرقص على أنغام الدماء و الوسن يأبى أن يداعب عينيه حمائمه تنشد عشاقها قصائد المتنبي يا بئرا شربت من بترولها الأمم " / الديوان ص 16 / ، إنها سخرية جميلة ؛ و لكن جمالها ك "البكا " ، و لا اختلاف مع معنى نص المتنبي " يا أمة ضحكت من جهلها الأمم " ، و في استنزاف ثروات العرب و العراق على وجه الخصوص جهل بما حيك و ما يحاك و ما هو مخطط لحياكته ضد هذا البلد المسلم السابح في برك الدم . و القصيدة بشذاها الفلسطيني و قضاياها المجلجلة حاضرة بقوة في النص عبر قطبيها المركزيين : محمود درويش و سميح القاسم ، بأفضيتها : ( الجليل – حقول الزعتر - ... ) وبأدوات النضال ( الحجر – القصيدة ... ) ، و بنفس درويش النضالي الملتزم لقضية صادرت غالبية شعره ، " ليدين من حجر و زعتر هذا النشيد " ، و هو نشيد أهداه الشاعر ليدين من طبشور و خبز ، في تحويل للمسار الدلالي السالف ، فإذا كانت الغاية عند درويش هي المقاومة : مقاومة المحتل واسترجاع حقول الزعتر بما هي رمز للأراضي المغتصبة ، فإن الشاعر يومئ بهذا التحويل إلى أن القضية في فضاءات أخرى هي التعليم و الحق في العيش الكريم المفتقد ، و هي قضايا تلازم بال الشاعر و توجهه لذلك غذت _ وبامتياز _ حزنا يحمله على كتفه و يغادر وطنه : " سأحمل حزني على كتفي و ارحل عنك لأصنع من عشقي ثورة و قصيدة " / الديوان ، ص : 18 / و هو تناص مع قصيدة سميح القاسم ؛ التي غناها مارسيل خليفة " منتصب القامة .... " . و يبدو أن النعش و الحزن سيان عند الشاعر .
إبراهيم القهوايجي كأي مبدع حقيقي ، لا يؤمن بأن وظيفة الشعر هي تقرير الحقائق و وصفها ، فهذه وظيفة خطابات أخرى يند الشعر عنها و إن عالج قضايا ، لذا جاءت مجمل التناصات الشعرية أو الدينية ؛التي لم نتحدث عنها ، مؤثثا جماليا قبل أن تقدم نفسها حاملة لدلالات . 1 – تناص الاحتفاء : مفهوم تناص الاحتفاء ، هو مفهوم إجرائي فقط ، القصد منه الإشارة إلى شكل التناص الذي يحتفي به الشاعر بأحد رفقائه في درب الكتابة . و قد جاءت قصيدة " ما تيسر من سفر العيد " متضمنة لهذا النوع ، إذ يبدو ضمير المخاطب موجها إلى الشاعر الصديق " عبدالسلام مصباح " ، و القصيدة مهداة له " إلى نورس الدارالبيضاء ، الشاعر عبدالسلام مصباح في عيد الشعر " ، ومن المؤشرات النصية الدالة على ما ذهبنا إليه قو ل القهوايجي : " يا صاحب النزف أيها المندور للعتمه ما زلت معي بيني و بينك حاءات بيني و بينك متسع للغواية " / الديوان ص 48 / ، إن لفظة الحاءات هنا تبدو مبهمة ؛ بيد أن هذا الإبهام يزول عندما نعرف أنها إشارة إلى ديوان الشاعر عبدالسلام مصباح " حاءات متمردة " ، وتتضاعف الإشارة بذكر مدينة مصباح ؛ الذي عده الشاعر نورسها : " على حرفك أقامت البيضاء اغترابي على حرفك نثرت إهدائي / الديوان ص : 49 / ، تشير علامات القصيدة أن لإبراهيم القهوايجي علاقة إنسانية رفيعة بالشاعر عبدالسلام مصباح، علتها طيبة و شاعرية هذا الأخير ؛ الذي يملك قلبا مجنحا ، و حرفا مترنحا يتمنى الشاعر اقتراضه، وكذا هو مندور للعتمة ينيرها أليس مصباحا ؟ " أيها المندور للعتمه أقرضني حرفك المرنح قلبك المجنح " / الديوان ص 49 / إنه حرف يفوح ريحانا و عشقا و روحا .. و كذا أحزانا رومانسية تتغنى بالذات وتغزل عليه القصائد . و يصدح بها في عيد جديد للشعر ، بالرغم من رداءة زمن يعيشه الشعر و الشعراء . " عيد جديد و دهر عنيد " / الديوان ص: 10 / " عيد بأي حال عدت يا عيد "، / الديوان ص: 10 / إنه حوار مع المتنبي و تساؤل عن الجديد؛ الذي يتلو يوم الاحتفاء بالشعر و عيده .هل بما مضى أم لأمر فيه تجديد كما يقول المتنبي . و لا ينسى الشاعر أن يعرج على حدائق هسبريس ، و في ذلك علامة نافذة إلى استحضار صاحب " رماد هسبريس " محمد الخمار الكنوني رحمه الله ، و الاحتفاء به ، فحدائقه الأسطورية لا زالت ساكنة في ذوات الشعراء، تقاوم النسيان و تنافحه ، و تؤسس لحضور الروح بدل الجسد ؛ الذي غادرنا .
2 – تناص التأبين : يتجسد هذا الضرب من التناص في قصيدتين اثنتين هما : " هكذا حدثني الغياب " و " على سبيل الرحيل " ، حيث الحقل الدلالي الخاص بالموت يواجه القارئ مجسدا في الرحيل و الغياب ، و مفردات أخر تخترق متن القصيدتين : " أيها الصمت لو يمنحني الغياب بعض إشراق الحضور لو يغيب الغياب و لا يعود " / الديوان ص 63 / ففي قصيدة " هكذا حدثني الغياب " ، يستحضر إبراهيم القهوايجي أسماء أدبية لامعة غادرتنا فجأة ، واختارت كرها الغياب : مليكة مستظرف الروائية المغربية الراحلة ؛ التي اشتعلت بلا كبريت و انطفأت ، فاطمة شبشوب الزجالة والأكاديمية التي ماتت غرقا ، و نجيب محفوظ النوبلي صاحب الحرافيش، ومحمد أسد الأديب السوري الراحل : " آه لو أن للرياح أبوابا فأعبر إليكم : مليكة التي اشتعلت بلا كبريت و انطفأت في الغبار ... فاطمة كانت تسبح ضد التيار فوقعت وليمة لأعشاب البحر في القرار ... نجيب لم يعد يكحل جفن الحرافيش تيها . و أسد لم يعد يزأر في عرين الخيال . " / الديوان ص : 64 / إنه وفاء جميل من الشاعر أن يخلد بين دفتي ديوانه أسماء عانى بعضها من التهميش ، و حرمت من أبسط حق إنساني هو العلاج حين سقطت عليلة الجسد لا الروح ، كما حدث مع مليكة مستظرف صاحبة "الترانت سيس " ، والشاعر الصوفي المرحوم محمد بن عمارة ؛ الذي خص له البهي إبراهيم قصيدة كاملة ينعيه فيها ، جعلها خاتمة أزهاره الحزينة على سبيل الختم ، و " على سبيل الرحيل " . قصيدة « على سبيل الرحيل " قصيدة طويلة بالمقارنة مع باقي قصائد الديوان، ولا تضاهيها في الطول إلا قصيدة واحدة هي " ما تيسر من سفر العيد " ، و ليس بغريب هذا الاهتمام من الشاعر بقيمتي: الاحتفاء و التأبين . فأخلاقه الطيبة و روحه النقيه الشفافة و رقة إحساسه و تأثره بمحيطه الإبداعي الكبير، تجعله لا يكتب بالشعر فقط ؛ بل عن الشعر والشعراء . صدر ابراهيم قصيدته الرثائية بمقتبسة ل سعيد هادف تقول " الشعراء موجودون،ما من أحد يقدر على محوهم و لو بقوة النسيان " ، إن محمد بن عمارة موجود إذا ، و النسيان قوة لا تستطيع الوقوف أمام الأقوى بقصيدته ، و بحدائق الشعر ؛ التي شذبها كأي بستاني محترف ، فمن فر إلى الآخرة إذا ؟ " أنت أم حدائق الشعر الباقية " / الديوان ص: 71 / يتساءل القهوايجي في إنكار و استنكار ، خاصة أنه شاهد _ و نحن معه _ على مكابدة المرحوم و على ظلم ذوي القربى، و ظلم ذوي القربى كما يقول الشاعر : " وراف الجناح " . / الديوان ص 73 /. و كان من رائع الشاعر أن ضَمّن قصيدته المحزنة بعضا من مقاطع شعرية لمحمد بن عمارة و عناوين دواوينه، مخلدا إياها في "مملكة الروح " و كذا "في الرياح .. وفي السحابة " و في " السنبلة "و " عناقيد وادي الصمت " المتدلية، جذورها في بين دفتي كتاب و فروعها في ذواتنا ساكنة كشاردة أبدية . - خارج المتعاليات: / على سبيل الختم / حاولت هذه الورقة ملامسة الأبعاد الدلالية و الجمالية الحافة بالنصوص الموازية ، و قاربت قيمة التناصّ و أشكالَه واعيةً بوظائفهما المتعددة و بضرورتهما في القراءة الجادة للعمل الإبداعي ، و مستَشفةً أن شعر القهوايجي " جادة " في رؤيته للعالم و في تنوع ثيماته و احتفائه و تأبينه ، و حين يقع فيه " الحافر على الحافر " ، فإنه يكون بوعي تام ، و قصديات محددة ، يجيد الشاعر صياغتها وتمريرها في قالب جمالي / إيقوني علامي ، و إنه لعمري شاعر يستحق أكثر من لحظة احتفائية كهاته التي تجمعنا اليوم بمكناسة الزيتون . و أكثر من دعوة صادقة بطول العمر الإبداعي ، فكل ديوان وأياديك سابغة على القصيدة أيها العزيز إبراهيم .
- الهوامش: * - القهوايجي ، ابراهيم . للأزهار رائحة الحزن ، منشورات دفاتر الاختلاف ، مطبعة سجلماسة مكناس ، غشت 2007 . 1 – المنادي ، أحمد . النص الموازي: آفاق المعنى خارج النص ، علامات ، ج 61 ، مج 16 ، مايو 2007 ، ص 141 . 2 – نفسه ، ص : 141 . 3 – درمش ، باسمة . عتبات النص، علامات، ج 61، مج 16 ، مايو 2007 ، ص 71 . ** - أنواع عناوين المفارقة هي / اللفظية، المأساوية، الفلسفية، مفارقة الأحداث، مفارقة الموقف... . ينظر : درمش ، باسمة . عتبات النص، علامات، ج 61 ، مج 16 ، مايو 2007 . 4 - درمش ، باسمة . عتبات النص، مرجع مذكور، ص : 79 . 5 - المنادي ،أحمد . النص الموازي: آفاق المعنى خارج النص ، مذكور ص : 144 . 6 - عبد العزيز حمودة , الخروج من التيه : دراسة في سلطة النص , عالم المعرفة . العدد: 298. نونبر 2003.ص: 176.