سعدية سلايلي: مسؤولة صفحة نصوص ابداعية بمجلة "ألوان ثقافية" في حوار مع الكاتب المغربي ذ.سامح درويش 1 - كيف يمكن أن تلخص أول علاقة لك بالكتابة وما دور الكلمة في حياتك.؟ ذ.سامح درويش:بجوارح فلاح صغير، وجدت نفسي أقلب تراب اللغة،فأصبت مبكرا بحساسية الكتابة. كانت حواسي مزروعة في الطبيعة، في الريح، في الخرير، في الهسيس، في فصاحة القمر... كنت مفتونا بتلقائية ما يحدث حولي.. كنت أذهب وأجيء من المدرسة بدون أي معنى.. كانت المدرسة بعيدة فاضطررت للإقامة عند جدي لأمي .. هناك حيث تكتب الطبيعة قصائدها من دون أي حاجة لوضع توقيعها أسفل صفحات المساء.. كانت هوايتي المفضلة أن أضرب في الفراغ، أن أقضي الوقت في الصراع من أجل هدف غير معلوم، أن أتشاجر مع التضاريس، أن أصنع بندقية من نبات الدفلى، أن أطلق على الفراغ ثم أرديه فريسة في يدي .. وجدت نفسي أكتب مبكرا قصائد " الكَول" على غرار ما يفعل الشيخ " المير الطيب" القريب عائليا، ثم وجدتني أحلم بفعل أشياء غير محددة تماما، ثم غاب كل شيئ.. لأفتح عيني على حقائق واقع جارح.. كان من الضروري أن تحب امرأة لكي تتغلب على البياض.. كنت نزيل "دار الطالب" بالمدينة المنجمية المناضلة جرادة، كنا مجموعة نتبارى على السهر واستهلاك الشموع وكتابة قصائد الغزل.. كنت أركب بحور الشعر ببداوة منقطعة النظير.. كنت أذبح ناقتي في الخيال.. كنت أحرض رفاقي على العصيان.. كنت مشاغبا بأناقة، كنت متمردا من غير ضوضاء، كنت شاعرا في كامل السرية.. كنت عاشقا يلتحف قصائده.. ومن حينها أصبح للكلمة مكانة خاصة في حياتي.. وأصبحت أشعر كما لو أن اللغة من بين أعضائي الفيزيولوجية، وهي المبرر الأقوى للاستمرار في الوجود .. وهي في أحيان أخرى سلاح المواجهة والمطارحة. 2 - على هامش المعرض الأول للكتاب بمدينة وجدة، ما هو تقييمك الأولي لمؤشرات القراءة ولحالة الكتاب بالمدينة وبالمغرب عامة؟ ذ.سامح درويش:أولا لا بد من الإشارة إلى أهمية تبني فكرة تنظيم معرض جهوي للكتاب، لما لهذه المبادرة من دلالة في تكسير طوق تلك المركزية التقليدية في تدبير الشأن الثقافي، ولما تتيحه مثل هذه المناسبة من إنعاش لصناعة الكتاب وترويجه ومن تواصل مع فئات القراء التي ما فتئت تنحسر، إذ يمكن لأي متتبع للحياة الثقافية ببلادنا أن يلاحظ ذلك التراجع المستمر لمقروئية الكتاب ، كما يمكنه أن يلاحظ الإقبال المتزايد على القراءة والتواصل والتفاعل عبر البوابات والمدونات الأدبية الإلكترونية التي استطعت أن تكسب نشر الكتاب نوعا من التحرر، مما يؤشر لتحول عميق يطرأ على حال تداول الكتاب الورقي، هذا التحول الذي ينبغي أن نتكيف معه بسرعة، لا سيما وأنه تتيح التواصل الأدبي بوسائل وأشكال معلوماتية جديدة، ويطيح بحصون احتكار النشر التقليدي للكتاب، ويتجاوز الكوابح والمعوقات الجغرافية والسياسية، هذا علما أن الأدب الرفيع هو الذي سيبقى في النهاية بغض النظر عن وسيلة نشره وترويجه.. 3 - تنقلت وتتنقل بخفة بين الشعر والقصة والرواية ما هي معايير اختيارك لهذا الجنس أو ذاك لتقدم فيه إبداعك، وماذا يخوله لك كل نوع مقارنة بالآخر؟ ذ.سامح درويش:أولا، إنني أومن بالكتابة ككل وجودي، وليس كأجناس وأشكال متفرقة، وكل حداثة تطال الكتابة ينبغي أن تطالها ككل .. أي كجوهر. وثانيا، إنني أعتقد أن لاشيء في حقل العلوم الإنسانية يحسم بشكل قطعي، فالأشكال والظواهر والمفاهيم تتحول باستمرار، وتكتسب خصائصها وتجلياتها وهندساتها ودلالاتها من سيروراتها الخاصة داخل سياقات شرطها التاريخي والفني، ذاك أن الإنسان مذْ كان وهو منشغل بتوسيع مساحة حرياته، من خلال بناء تصورات صالحة لإيواء رغباته، وتقييد الكائنات حواليه بأسباب الوعي والمعرفة، هذا التقييد الرمزي الذي ليس سوى اللغة/الكتابة أولا، وقوانين العلم وحدوده ثانيا، وما نزوع الإنسان نحو بناء الأنساق المعرفية، وحياكة المنظومات الفكرية، وابتداع أشكال التعبير وفق مايمليه دبيب واقعه، وصوغ المناهج والطرائق والأدوات التي يقتضيها موقف الرغبة الإنسانية- غير القابلة للتأجيل- في مناجزة الظواهر وفهم قوانين وميكانيزمات اشتغالها، بما يتيح مزيدا من القدرة على التقليص من رقعة المجهول .. ما كل ذلك سوى مناشط تروم غاية واحدة، هي حيازة مجالات إضافية لممارسة الحرية، وبسط كواشف المعرفة في كل حيز متاح على جغرافيا الوجود.. بهذا المعنى فإن طموح الإنسان غير قابل للاكتمال، مادامت حريته غير قابلة للتحقق بشكل مطلق، وأن الإبداع - بما هو السقف الممكن لتلك الحرية- لايقبل التكرار، مادام الإنسان غير قابل لتكرير حياته، ومن ثمة كانت الأشكال الفنية بمثابة العلب السوداء التي تشي بأسرار الأمم والحضارات التي أنتجتها، وتشي بجوهر موقف الإنسان من الوجود، ومكابداته الخالدة في ترويض المعنى وجعله منقادا، أي رهين إدراك ما، ممّا يجعل أشكال التعبير غير قابلة للاستقرار تبعا لما يحدث فيها وحولها من تحول، فهي تولد، وتكتمل ولاتموت.. انطلاقا من كل ما تمت الإشارة إليه، فإنني أتنقل فعلا بين أشكال وأجناس الكتابة بلا حرج ما دام هناك جوهر يتعلق بالكتابة.. 4 - أثارت روايتك "ألواح خنساسا "جدلا ساخنا من حيث انتماؤها الأدبي للجنس الروائي فإلى أي حد ينبغي أن يهتم المبدع بتفاصيل التجنيس والهوية النصية لما يكتب؟ أم أن الحرية في الإبداع تقتضي التخلص من هذا الهاجس وخوض المغامرة بروح عارية؟ ذ.سامح درويش:بالطبع، فإن نجاح أي مغامرة إبداعية ينبغي أن يتوفر لها شرط الحرية أولا، ليس حرية التعبير فحسب، بل حرية تجاوز الأشكال الفنية المكتملة في أفق صياغة وبناء أشكال جديدة متناغمة مع أسئلة العصر وإشكالاته وشروطه، ومن ثمة يبدو الاهتمام الزائد بتفاصيل التجنيس الأدبي والوقوف الكابح عند الهويات النصية أمرا ثانويا، على اعتبار أن الكتابة تتشكل داخل سيروراتها الخاصة أيضا، فعندما نتتبع مسار الشكل الشعري نجده قد يتفاعل مع إيقاعات الظروف التي يتشكل في حضنها، وكذلك الأمر بالنسبة للأشكال السردية.. وإن كانت روايتي " ألواح خنساسا" قد أثارت جدلا - كما أشرت -، فإنني أعتقد أنه علاوة على الشكل الفني الذي يستلهم إيقاع كتابة الألواح القديمة، هناك القضايا الإنسانية الكبرى التي يناجزها هذا العمل الذي لا يمكن تكوين أي رأي حوله إلا بعد قراءته .. وعلى العموم فإنني أجد أن نقدنا الأدبي العربي لا زال دون تتبع ما تقترحه عليه الأعمال الإبداعية من نصوص. 5 - تتسم مضامين روايتك "ألواح خنساسا " و قبلها مجموعتك القصصية "هباء خاص" بمسحة من الغضب الممعن في القرف والسخط على مجريات الأمور فهل هي انعكاس لصورة العالم بعيون مبدعة أم هي انتفاضة ضد التردي العام أم ماذا؟ ذ.سامح درويش:لقد بدأت أمشاج هذه "الألواح" تتشكل مع بداية العشرية الأخيرة من القرن العشرين، في رحم مرارات متشابكة، مرارات وجودية وإنسانية؛ قطرية وقومية. فإن لم تكن آنئذ أطنان القنابل المتهاطلة على قلب بلاد الرافدين من طائرات مفتولة العضلات مفترسات، تسقط على رؤوسنا هنا في المغرب العربي، فإنها كانت تحدث ثقوبا غائرة في مشتركنا الرمزي، فكان من الطبيعي أن تكشف لي هذه الضربات الصادمة عن حميمية منقرضة، وأن توصِل المخيال إلى ألواحه المطمورة، أي أن توصلني بكامل منفاي إلى جدّي كلكامش، وإلى مآدب أدبية دسمة تنضح بمعتقات الألواح. ومن ثمة تلَبّس عملي الروائي هذا شكله هذا. فاعتبرت ذلك لحظة وصل جمالي ينبغي أن أحيطها بكامل الاندفاع، وخالص العشق، وفائض الحرية..إذ ما الكتابة إن لم تكن ما يبقى عندما تصبح كل الأشياء زائدة. أخذت مني هذه الألواح زهاء أربع سنوات، إذ لم أتمكن من نقر كلماتها على الماكنتوش إلا في أواخر سنة 1994، ومنذ ذلك الحين ودور النشر والمنابر الثقافية المغربية تتهيب من مشاركتي هذه المغامرة، عدا إحدى الجرائد السيارة بالمغرب التي نشرت آنذاك الفصل الأول من الألواح بملحقها الثقافي ، بل إنه قد تم احتجاز هذه الرواية بإحدى دور النشر المغربية أكثر من سنتين، على خلفية انتظار دورها في النشر،الذي لم يحصل قط ...المهم أن الطابوهات كانت أقوى من الجميع، والمهم أيضا - الآن - أن هذا العمل الروائي قد تم نقله إلى لغة موليير من طرف المترجم المقتدر، مروّض العتمات محمد العرجوني .. و الأهم أنه قد تمت كتابته و انتهى الأمر! إن هته الألواح لا تخضع لسيطرة موضوع محدد، إنها منفلتة ما بين المقدس و المدنس، إنها صرخة ضد شيخوخة الجمال، إنها رنين عصر وهو يسقط من بين يدي الإنسان، إنها مخلفات حرب جائرة، إنها أنين مرحلة بالتحقيب القطري،إنها هباء متناثر من مجرة المحظور، إنها اغتسال من ماكياج الحضارة، إنها استنهاض لقيم الجمال النبيلة، عن طريق الاحتفاء الخيالي بالبشاعة و القبح! إن شخوص هذه الرواية- كما سيرى القارئ - آلهة، و أنصاف آلهة وبشر، وأسماؤها ليست سوى ألقاب لأشخاص أميين عاشوا أو يعيشون في طواحين الواقع. إن مقاربتي الروائية هاهنا تتمثل في استغوار "فانتازمات" التحول، واللعب الأدبي بتحولات التشكل،إذ أنني رفعت هؤلاء الأشخاص العاديين جدا من حمأة الوجع الإنساني الفظيع إلى مصاف الآلهة العظام ! لا أدري هل سيقودنا استلهام هذا الشكل الأدبي إلى استكشاف آبار رمزية جديدة، وإلى استصقال هويتنا الجمالية الحديثة؟! 6 -. يبدو أن الأدب الذي لا يحمل قضايا نبيلة هو أدب محكوم عليه بالموت مهما بلغت درجة جماليته فما هي القضايا التي تخترق نصوص سامح درويش وتفرض ضلالها عليها؟ ذ.سامح درويش:ما يهمني بالدرجة الأولى في أي عمل أدبي أو فني هو جماليته، أي تحقّقه الفني، إذ لا يمكن أن ندافع ونترافع عن قضايانا النبيلة بأدب رديء أو بأعمال فنية ممجوجة، ولا يمكن لنبل القضية وحده أن يخلق أدبا رفيعا أو أعمالا فنية جيدة، ولا أضن أن الأدب الحقيقي بالمعنى الفني والجمالي يستطيع أن يغفل عن التقاط قضايا عصره بطرائقه الخاصة، إن الفن الأصيل والإبداع الصادق يتميز بنظامه الاستشعاري الذي يتيح تناول القضايا الإنسانية بأساليب فنية تجع من هذه القضايا سقفا للبشرية برمتها.. لذلك فإنني في نصوصي لا تقودني القضايا بل تقودني اللغة إلى عمق هذه القضايا التي تنتصر للحق و تتوق إلى الانتصار والدفاع عن آمال المجتمع الإنساني وطموحاته في الاستقرار والأمن ورغد العيش.. 7 - اسم سامح درويش مركب من اسمين لشاعرين فلسطينيين لا يخفى صيتهما على احد : سميح القاسم ومحمود درويش، هل أحسست يوما ما بتأثير ذلك على مستوى حماسك للشعر دون غيره من الأجناس التعبيرية، أو بصيغة أخرى هل كان لذلك تأثير على بداياتك؟ ذ.سامح درويش:الشخص هو الذي يصنع اسمه، وليس العكس، فإن كان اسمي يحمل اسمين لشاعرين فلسطينيين كبيرين، فإن ذلك لن يضيف شيئا إلى تجربتي في الكتابة، بالرغم من بريق الاسمين المذكورين اللذين اطلعت عن قرب على تجربتيهما الشعريتين، قراءة وبحثا، لكن ذلك قد تم بعد أن كنت قد أصبت بداء الكتابة، والمفارقة هي أنني بدأت اجتنب الشعر ما استطعت بعد التعرف على مثل هذه الأسماء، لأنطلق في كتابة نصوص أخرى تحافظ على الجوهر الشعري و تتجاوز شكلية الجنس الأدبي إلى عوالم الكتابة اللامتناهية.. وذلك بعد أن تربى لديّ تصور جديد للممارسة الإبداعية، وبعد أن وجدت في الشعر نوعا من الرهبنة، وفضلت أن أكون كاتبا فقط بدل أن أكون راهبا.. سيرة مقتضبة للكاتب ذ.سامح درويش من مواليد سنة 1957 بقرية كفايت / إقليم جرادة بالجهة الشرقية للملكة المغربية، حاصل على شهادة الدراسات العليا المعمقة تخصص النقد الأدبي المغاربي ويحضر رسالة دكتوراه/ تخصص النقد الأدبي المغاربي ، عضو اتحاد كتاب المغرب وناشط جمعوي بعدد من الجمعيات والمؤسسات الثقافية والتنموية محليا ووطنيا ومغاربيا، اشتغل بمجال الصحافة ، من أعماله الأدبية المنشورة : هباء خاص / مجموعة قصصية / منشورات منتدى رحاب 1999 - ألواح خنساسا/ رواية حائزة على جائزة ناجي نعمان الأدبية / منشورات مؤسسة النخلة للكتاب سنة2003، وله أيضا ديوان القهقهات / مجموعة شعرية ، قيد الطبع لدى وزارة الثقافة المغربية- أزهار الدفلى / مجموعة مقالات معدة للطبع- النقد القصصي المغاربي: المفاهيم والبنيات/ مخطوط ، علاوة على عدد من الدراسات والمقالات الأدبية المختلفة في مجلات وملاحق ثقافية.