في هذا التأرجح بين نفي الموت والخوف منه، يقيم الإنسان، ويبني فلسفاته ومعتقداته، وتصورات تغذي الشعور بالخلود، وتحاول درء قلق الموت، تبني أحلام يقظة لأن الميت فيها لا يموت. وفي هذه البينية حتى لا أقول «اللمبو» الدانتي، تندرج موضوعة الموت الدرويشية مشبعة بجماليات الشعر وشفوفه مخترقة أعماله، ومهيمنة على وجود موجود بالقوة والفعل لجماعة وذات في تماهيهما وتمايزهما- أريدَ مَحْوُهُما، غير أن الإستعارة المركزية التي بنت وتبني وطنا باللغة بما هي جمالية شعرية، احتضنت موضوعة الموت لتصنع منها مزمورَا ورمزا يتقدم الكينونة، ويستشرف الآتي : (إن في موتي حياتي) كما يعبر الحلاج. وفي شعر درويش انتسج الوطن شاسعا ووسيعا كما جذرته الكنعنة، وتمرحلات التاريخ والقيامة. ولئن كان الموت شمسا ثانية لا يمكن للإنسان أن يحدق ويمعن النظر فيها، فإن محمود درويش حدق في هذه الشمس وأطال التحديق من دون أن يرف له جفن، أو ترتعش له عين، ما جعل جدرايته / معلقة موته الخصوصي متفردة في بابها في تاريخ الكتابة الإبداعية والشعريات طُرا. هي استيحاءات أَلْهَمنَيها كتاب الشاعر الناقد عبد السلام المساوي الموسوم ب [جماليات الموت في شعر محمود درويش] الصادر عن دار الساقي في بيروت وضمن منشوراتها لعام 2009. يقع الكتاب في 173 صفحة تتوزعه مقدمة وفصلان وخاتمة. والكتاب بالغ الأهمية وبالغ العذوبة.. بالغ الأهمية لأنه يخوض في شعرية واحد من بناة الشعر العربي الحديث والمعاصر، على مستوى كيفيات معالجة موضوعة الموت شعريا لا بوصفها مفهوما فلسفيا مُلْغزا، مجردا ومتعاليا، بل بوصفها انكتابا مسطورا، حسيا منغرسا في اليومي، ومعيشا وجوديا مفروضا على الشعب الفلسطيني. وبالغ العذوبة لأنه مقاربة شاعر لمتن شاعر. والكتاب، قبل هذا وذاك، تتحكم فيه خلفية معرفية، ومنهجية محسوبة المنطلق والهدف، ما يُسَوّغُ اعتباره إضافة نوعية لمدونة الميتالغة العربية الحداثية المكرسة للشعر والشعريات. فماذا عن هيكلته، وعنونات محاوره المنهجية؟ يتشكل الكتاب ?كما أومأنا- من مقدمة ماهدة افترضت تَحصُّلَ بُعْدَيْن أو كيفيتين لتيمة الموت التي عالجها درويش شعريا، وبالتالي جماليا : بعد جماعي وبعد ذاتي، ومن فصلين تفصيليين عكفا على افتحاص البعدين، واختبارهما في ضوء إضاءتين، استقل كل فصل بإضاءة. فأما الأول فاستضاء بمحاور ثلاثة : 1-فلسطين والموت، 2-الموت الأسمى (الاستشهاد)- 3-الإحساس بالمرارة. وأما الفصل الثاني، فقد ساق المساوي بين يديه عنونات ثلاث أيضا دارت حول 1)معجم الموت- 2)التناص أو الذات المحمية بذاكرتها- 3)الذات وأشكال موتها، تلا ذلك خاتمة مركزة استقطرت جماع ما افترضه الشاعر المساوي، وحصائل ما خلص إليه. وهي خلاصات معرفية تحصلت للباحث عبر المصاحبة العاشقة والمعاشرة الوفية لشعر محمود درويش. «إن المتابعة الحثيثة لكتابات درويش الشعرية. تؤكد لنا تأرجح الشاعر بين مفهومين للموت عبر مساره الإبداعي الطويل، وهو تأرجح مال في المرحلة الأولى إلى تمجيد الموت باعتباره عرسا للشهيد، ومدخلا أساسا لاسترجاع الهوية من يد الغاصبين، فاتخذ الموت نتيجة لذلك مفهوما جماعيا تنظر إليه الذات بوصفها جزءا ملتحما بالكل، في حين مال التأرجح في المرحلة الثانية إلى تذويت الموت، وتأمله في سياق الرؤية الفردية المدعومة بثقافتها الواسعة، وبتجربة المرض التي قربت الذات من مصيرها، وأتاحت لها أن تتأمل هذه اللحظة بكثير من الحكمة والتفلسف الخاص». ويُنَبّهُنا الشاعر المساوي أن طائر الموت الأسود نشر جناحيه على تجارب درويش الأولى : من أوراق الزيتون المنشور في العام 1964 إلى ديوان : «حصار لمدائح البحر المنشور في العام 1984» على أن خصيصات هذا الموت الجمعي، تنتظمها المنطلقات والتوجهات الفكرية التالية بحسب الناقد : -الإيمان العميق بأن الإقدام على الموت استشهاد وفداء هو الخطوة العملية التي بإمكانها أن تعيد الحق المسلوب. -الإنصراف عن التأمل الفلسفي في الموت بكونه مصيرا ميتافيزيقيا، لأن اللحظة التاريخية وما رافقها من محنة التشرد واللجوء والقتل كانت أقوى من أي ارتكان إلى خطرات الفكر المتأمل. -اعتبار الكلمة الشعرية الوجه الثاني للسلاح الفعلي. لقد انتقل محمود درويش من هذه المرحلة التي يُسَمّيها المساوي المرحلة الأولى.. من مديح الموت الجماعي الذي كرسته الأعمال الشعرية السالفة، بما هو إصرار على الحياة، وانتصار للنشيد الأبدي، وتأكيد على تجوهر الكينونة من خلال مرورها بمصهر الموت البطولي أو الشهادة بما هي تأمثل للموت، واختراق لرهبوت صمته وبطشه إلى المرحلة الثانية مرحلة قضية الشعر والانتصار لندائه الجمالي أي إلى الإعلاء من لسان الذات، والصدح بالفردانية والتوحد مع الجرح الخاص، ومع الشعر بوصفه مرادفا للحياة، ورديفا للذات المتجوهرة بجمال اللغة، وجلال المعنى الذي هو أحد غايات الوجود. إنها مرحلة «الجدارية» التي كانت مناسبة ?فيما يقول درويش نفسه- له «للذهاب في سؤال الموت منذ أقدم النصوص التي تحدثت عن الموت، ومنها ملحمة غلغامش التي تحدثت أيضا عن الخلود والحياة». لم يشخصن الموت في كتابات سابقة كما شُخْصنَ في «الجدارية» وإن كنا نستثن جون دون، ووالاس ستيفنز، وقبلهما أبو الطيب المُتَنَبي الذي يقول : وما الموت إلا سارق دَقَّ شَخْصُه يصول بلا كف ويسعى بلا رحل وهو المعنى الذي يستضمره ويستبطنه درويش في مواجهته الموت الذي جاءه مخاتلا كسارق أو كطارق ليل شَبَحي. غير أن الشاعر يُستهرُ في وجه الموت ما يميت الموت، أي الفنون : (الأغاني في بلاد الرافدين ? مسلة المصري- مقبرة الفراعنة- أشعار امريء القيس وطرفة بن العبد والمعري، ورونيه شار وهولدرلن وجبران خليل جبران، وهايدجر إلخ.... هكذا، ينتصر درويش على الموت عبر رثائه والسخرية منه : [أيها الموت كأنك المنفي بين الكائنات، ووحدك المنفي، لاتَحْيَا حياتك، مَا حَيَاتُك غَيْرَ موتي]. فهذا التحول الدلالي والجمالي الذي يُسَمّيه المساوي ارتدادا، والذي طال تجربة درويش الشعرية المتفردة في (جداريته)، «لها صلة بتغيير مفهوم الشعر لديه، ووظيفته تبعا لتغير إيقاع العصر، والتطورات الحاصلة في المسألة الفلسطينية (مفاوضات أوسلو)، وتبعا لأسباب فيزيولوجية تخص صحة الشاعر بعد الأزمنة القلبية التي ألمت به. فالوقوف على حرف الموت وجرف القتل (لأن الموت ضرب من القتل ? كما يقول المتنبي)، قاد إلى منازلة فنية وثقافية، شكلت ما يشبه القطيعة مع المفهوم الأول للموت، والذي راهنت عليه أعماله الشعرية الأولى (الكتاب ? ص16 و17). ويسوق المساوي على لسان درويش قوله : (لقد حاولت أن أضع في هذه القصيدة كل معرفتي وأدواتي الشعرية معا باعتبارها معلقتي) (ص 51). إن الحديث عن الموت ?في الفصل الثاني- بصيغة المفرد..، يَجيءُ في «الجدارية» مشتبكا برموز الحياة. فالجدارية تصنع موتا مختلفا، وتؤسس لجمالية جديدة في مواجهته، فإذا كان الموت يستطيع إفناء الجسد، فإن الكتابة تغدو جسدا غير قابل للفناء، وهي قادرة على أن توسع فضاءها لتنفتح على آفاق متباينة (ص63، خليل الشيخ، نقلا عن المساوي). وإذا كان درويش يقول : (هزمتك يا موت الفنون جميعها) كما رأينا، فما ذلك إلا لأن الفن يتبلور إلى الأبد في صور لا تتبدل، ويثأر للحياة محققا لها ما عجزت هي عن تحقيقه، إذ أنه وحده من يتحرر من الزمان، ويبلغ الأبدية فيما يقول سيمر الحاج ساهين- ص 67. لا ينسى الناقد عبد السلام المساوي وهو في حمأة التحليل والتأويل.. والإضاءة، أن يردنا إلى جادة العمل الأكاديمي في مفاصل مباحثه الصغرى المبثوثة في ثنايا الفصلين. ومن ثمة، فهو يضع عنونات بمثابة كوى ضوئية، وخيوط تتحكم في القصد، واستراتيجية العمل النقدي. عنينا بذلك تقصي واستقصاء معجم الموت إفرادا وتركيبا، ومدى دورانه في أعمال درويش الشعرية موضوع المقاربة. ثم التناص من حيث كونه دليلا على غنى النص الدرويشي وثرائه، وشساعة رؤيته ورؤياه الآتية من خلفية ومرجعية ثقافية ومعرفية تراثية وكونية. «فالجدارية» غنية بحضور النص الغائب الأسطوري والديني والتاريخي والصوفي والأدبي والفلسفي. وليس بمكنتنا جرد تلك المناصات التي صنعت مجد «الجدارية» الأدبي، وجدارتها الشعرية، فالمقام مقام إشارة وعرض لا استقصاء ولا إطناب، وإلا فإن العودة إلى الكتاب في كليته، يسد الجوعة، ويبل الغلة، ويلبي الطلب، ويشبع الحاجة. كما يعرج الشاعر عبد السلام المساوي على الصورة الشعرية، واضعا اليد على هيمنة النمط الحسي منها في المتن الدرويشي حيث تجد مبررها في هذا الموت اليومي الذي يُعَانيه الشعب الفلسطيني في سياق ملحمته المعاصرة (ص120). يَسْتَوي في ذلك الأعمال الشعرية التي سادها مفهوم الموت بمعناه الجماعي، أو «الجدارية» التي أنشئت إنشاء لمنازلة الموت الحميم، الموت الذاتي. في المرحلتين معا، طغت الصورة الشعرية الحسية التي اقتربت من شَخْصَنَة الموت. وما خلع صفات الجبن والنقص والمهانة على الموت إلا حسية وملموسية إذ أن ترويض الموت وتدجينه، يتم من خلال تصويره في أوضاع مبتذلة أو عادية، فهو (شحاذ- وجابي ضرائب- و شرطي سير- وثعلب...). من جهة أخرى، يَنْبشُ المساوي في رمزية الألوان، ودلالات الزمان، ودلالات المكان حيث تداخل الأزمنة وانشباكها، وحيث تتمرأى قيمة الفقد التي تجعل الشاعر حريصا على : «تشكيل أمكنته الشعرية تشكيلا يكافيء حدة الشعور بذلك الفقد، وهو أكثر من ذلك، يجد لذة كبرى في الرجوع إلى الذاكرة لتخليص تلك الأمكنة من النسيان الذي قد يطولها». وحين يصل المساوي إلى دال الإيقاع، فإنه يعطي لقيصر ما ينبغي أن يعطاه، وهو ما يعني إخلاص محمود درويش لجمالية الإيقاع بمفهومه الحصري والعام، وتوفقه البديع في تأثيت الإيقاع بدلالات الموت، والعكس بالعكس، عن طريق الإيقاع الداخلي، وبواسطة التكرار الفونيمي والتكرار المونيمي، والتكرار التركيبي: «وهكذا يتآزر كل من المستوى الخارجي للإيقاع (الوزن والقافية)، والمستوى الداخلي (عناصر التكرار المختلفة) ليغنيا الأبعاد الرمزية للنص بما تحتاج إليه من دلالات ونغمات معنوية ترتبط بالجو الجنائزي العام». إن افتتان محمود درويش بالإيقاع يتمظهر في الإنتصار له عبر الممارسة النصية، والممارسات الافتتاحية والنثرية المختلفة، يقول : (لا دور لي في القصيدة غير امتثالي لإيقاعها). ويقول في مطلع أولى قصائد ديوانه : (لا تعتذر عما فعلت): (يختارني الإيقاع، يَشْرَقُ بي)، مُعربا عن علاقة مكينة، ووشيجة صوفية «بالإيقاع الذي يستحيل لديه كاللهات أو النَّفَس المتصاعد من الروح. الإيقاع قدر القصيدة وقدر الشاعر نفسه: إيقاع مفتوح على الحركة التي تنتظم الحس والنفس، الحلم والواقع، الوهم والحقيقة». أما قبل، فإن صاحب الكتاب شاعر وناقد، فلا غرو أن يسم كتابه بالطلاوة والحلاوة والصرامة أيضا. وقيمته المضافة متأتية من نجاحه في صهر المقاربة الاحترافية المتسلحة بالمنهج الاستقرائي، والاستبار الأكاديمي، بالقراءة الحدسية العاشقة والشاعرة، حتى لكأنك تقرأ كتابا إبداعيا مسطورا في جملة واحدة طويلة ومنسابة، ومنشورا تحت أشعة شمس ذهبية تلملم بللا كالندى، أو كحبات اللؤلؤ، فيتواثب اللمعان.