في فاس التي تتربع في وسط المغرب، هنا حيث علمتني منذ زمان أن الأزمنة كل الأزمنة تنحني احتراماً ووقارا واستحياء فللمكان قدسية استثنائية هي وحدها علمتني أن الهبة للمكان لا يمكن أن تختزل في لحظة انبهار استثنائية ومهما كتبت فآنني لن أوفيها حقها، فاس التي اتخيلها تشبه شيخا وقورا يرقد كجوهرةٍ أزليةٍ في تاج الحضارة. وهكذا فعي لا يمكن اعتبارها فقط مجرد مدينة كباقي المدن العالمية الخارجة من قمقم الحضارات الانسانية، وإن كنت اعتز بها فلأنها حقا ذاكرة نابضة تخترق ذاكرتي الموشومة، أكيد تسكن الجدران والأزقة والمآذن التي لم تشيد فقط حجرا حجرا بل شيدت بأيادي اناس عبروا الزمكان كما عبرت دولا متعاقبة مرت من هنا وتركت بصمتها تشبه سبحة يدوزنها عقيق من الماس والزمرد تآخت تفاصيلها في نظام وانتظام طرزته أيادي حضارات متعاقبة، وحين احاول استرجاع قرون مرت من هنا، فلأنني أعلم أن كتاباتي الإبداعية تبقى عاجزة عن الوصف، والجميل كل الجمال أن تبقى عصية عن الوصف، وهكذا يبقى مجرد يمكن نافذة تطلّ على ماضٍ مجيد.. لكن بعيون حاضر يراود المستقبل في بهاء ما بعده بهاء..! فاس الروحية لا تزال وستبقى تهمس في آذان عشاقها بحكايات الأندلسيين والمماليك والعلماء والحال أنها انعكاس لضارات أممية مرت من هنا، ولعل كل من زارها أو المقيم فيها تخترقه أزهار لها ألف عبير وعبير،فتفوح منها رائحة الكتب القديمة والعطور الشرقية والاندلسية. ففي أزقة المدينة العتيقة، لا يمكن التمسك بأهدابها كما كنا نتمسك بأهداب عشاقها، فنعترف علانية أننا كثيرا ما تشعرنها أنها تضيع منا البوصلة الزمنية، لتصبح كل خطوة تذكرنا بأكثر من رحلةً نحو حضارةٍ ما زالت وستبقى حية في ذاكرتنا الموشومة. ألم نردد في امثلتنا الشعبية الخالدة أن " كل شيء في فاس ولا شيء يبقى خارج فاس..؟" أجل كل شيء في فاس يحدثك بجوانية استثنائية، وكل تفاصيلها تجعلك تحاور عاشقة متمنعة؛ من هذه الجدران، ومن هذه المدارس العتيقة الصامتة الناطقة، التي تخبرك في بهاء بعلماء خلوها في كتاباتهم، فمن ابن خلدون وابن العربي، إلى زخارف الفسيفساء التي تنقش على العيون دهشةً لا تزول؛ فتعيش في حيرة وأنت تحاول أن تشق احياءها فتضيع منك خطاك وكأنك تزورها فتزيغ بك أقدامك في متاهات ازقتها الضيقة الواسعة؛ وسرعان ما تجد نفسك أمام جامع القرويين الذي سجل ارثه الانساني في سجل لا يدخله إلامن كان له نديا، لأنه أقدم جامعة في العالم، لا يزال قائماً بشموخ، كمنارة علمٍ ترفض أن تنطفئ. وأنت تشق هذه الأزقة المحتشمة تلتق انفاسك عبير الصناعات التقليدية، لتعلم جيدا أنك في قبضة نبض فاس الحي، تاركا العنان لأصوات تنبث من هنا وهنا، أصوات الحضارة تعبر ذاكرة الزوار التي تدرك بسرعة أنك حقا بين ذراعي أزقتها الدافئة. ففي فاس، تسترجع أن فيها يُطرَز الجلد بحب، وكما يُطرق النحاس بإيقاعٍ يشبه القصيدة، وفيها تنسج الزرابي تذكرك بشهرزاد وهي تحكي لشهريار قصة امرأة أمازيغية ترقص تحت سماء الأطلس عوالم تعانق عوالم وكلها روافد ترقص على ايقاع أناشيد الأطلسية الرائعة. في فاس فجرا تستيقظ على ايقاع الأذكار من زوايا الصوفية وباقي المساجد المهللة في سمفونية متماسكة، فتتحول عندك المدينة إلى معزوفة صامتة تُعزف على ناي الروح ولهذا، خلدت فاس في التراث الإنساني ب" الموسيقى الروحية الكونية..". وفي آخر المطاف تدرك أيها اللبيب أن فاس ليست مكاناً فحسب، بل شعور. شعور استثنائي استثناء كونيا والحال يهيل اليك وربما الخيال يتحول الى حقيقة، بأنك تمشي على أرضٍ ليست كباقي الأراضي مشى عليها قبلك الملوك والعلماء والعشاق. وكثيرا ما يحلو لي أن أعتبرها كتاباً مفتوحاً وسيبقى مفتوحا إلىالأبد، وصفحاتها فيه تروي ملحمة بل ملاحم خالدات، ترى من يدري قد أكون واحدا ممن خلصوا فاس كتابة؛ من يدري..!