شرفة للرباط على الجمال مقهى الاوداية... ليس كباقي المقاهي أكثر ما يشد إليه الوفاء للتفاصيل. وأشد ما يثير فيه الثبات في الزمن. يبقى فيه الجمال كما هو لا تعلوه تجاعيد، ولا يذهب تاركا حروف. لا أثر فوق محياه لنفاق الزمن والتحديث. تمتزج فيه زرقة البحر بزرقة السماء، وزرقة الموائد بقطع الزليج الصغيرة، وحصير بالسواري وقطط بالجوار. المقهى الموريسكي بقصبة الأوداية بالرباط، باب خلفي للحديقة الموريسكية، التي تؤثث المكان، وتحفظ الأساطير والحكايا والخيال، المقهى شرفة كبيرة تستشرف معالم سلا، تطل على مصب ابي رقراق والمحيط جغرافيا. تطل على محاربة قبائل برغواطة والقراصنة تاريخيا. وتحضن الشكل المعماري وفن العيش الاندلسي ثقافيا. في البدء كانت القصبة قلعة محصنة، شيدها المرابطون، ازدادت أهميتها في عهد الموحدين، جعلوها رباطا على مصب نهر أبي رقراق، وبعد إهمال طالها استوطنها الموريسكيون (القادمون من الأندلس)، فزرعوا بها النغم والشجر، أنطقوا أسوارها والحجر، وأعادوا لها الحياة. بالمقهى الموريسكي أو "le café maure " كما يسميه المؤرخون بقي الجمال خالدا منقوشا في صخر، والصخر مطمور بملتقى بحر ونهر. تعطشه ملوحة الأول فيرويها بعذوبة الثاني..فيبقى معتدلا..ويبقى النقش موشوما يؤرخ للعصور. تتوافد على المكان وفود من سياح شباب وشيب..وطلبة باحثين، موسيقيين وفنانين وعشاق صمت وهدوء وحنين، وحتى الأمراء والسلاطين. يقول عشاقه إن عنده يلتقي العمران بالزمان بالمجال، يروي قصة انسجام، لايفهمها عصر زرع الإنسان في اسمنت بارد خالي من الخيال، لا يوحي إلا بعزلة، واندحار ذوق، وفكر سجان.نقطة يلتقي عندها العصران. سهلة الولوج، شاسعة الأفق، عميقة في الوجدان. هنا الجمال الذي لا يحتاج كثير وصف..يغرق فقط في البساطة وفي التفاصيل. قبلا كان كل شيء جميل عند مدخل المقهى تتراءى لك بدءا شساعة الأفق، زرقة على امتداد البصر، و في الاستقبال نسيم الوادي المحمل بالرطوبة والانتعاش.على يمين المدخل جلسة أرضية مربعة، كانت مخصصة للموسيقيين، وبهو فسيح مؤثث بسواري للجلوس يغطيها حصير، وموائد خشبية دائرية زرقاء محاطة بكراسي صغيرة بنفس اللون والشكل. وعلى اليسار بهو اخرومحل صغير يعرض الصور وبطائق الذكرى. تناديك الزرقة أن اقترب، توصلك للشرفة المطلة على ملتقى البحر والنهر، حيث تمتد السواري الأرضية المغطاة بالحصير. تعتقد أنك رأيت المقهى كاملا، قبل ان تكتشف أن له ملحق يطل على النهر، يفصله عن الجزء الأول زقاق ملتو، تلون زرقة يمر بين منازل تجاور المكان، كانت اماكن الجلوس مغطاة بدوالي تمتد على اعمدة من خشب طبيعي غير مصنع، احتفظت اليوم بنفس الشكل مع فارق الاعمدة الخشبية المصنعة. يقول "بن سودة " أحد الوارثين لاستغلال المقهى، جازما إن "المقهى الموريسكي من أحسن المقاهي لا شبيه له" يتحدث بن سودة والحسرة بادية عليه "المقهى تراث مغربي وهو مسار ضروري في جولة السياح". يتابع وهو يحملق بجنبات المقهى وكأنه يستعرض شريط حياته ويستنطق حلقاته "هنا" مشيرا الى المربع عند المدخل "كان يعزف الموسيقيون الطرب الاندلسي..كان المقهى ملتقى للفنانين والمبدعين والرسامين، رأيت ذالك عندما كنت صغيرا، رأيت المتاحف الثلاث واحد للملابس وثاني للموسيقى والآخر للأسلحة.." ليضيف وهو يغالب دمعات عينيه لا يبديها "قبلا كان كل شيء جميل حتى الفضاء المطل على البحر هناك"، مشيرا للجزء الآخر من المقهى. تراث عالمي كانت الأوداية من الأحياء التاريخية الاولى المدرجة ضمن قائمة التراث العالمي، يشرح "بن سودة "، المقهى تراث عالمي لا يمكن تغيير معالمه، لكن هذا لايعني عدم صيانته، يستطرد بن سودة "المكان ليس مهملا وليس منسيا، بل قلة الوقت التي يقضيها السياح تجعلهم لايتمتعون بشكل كاف بجماله وهدوئه ورونقه".مضيفا انه لا يوجد تنسيق ولا بعد رؤيا لدى وزارة السياحة وباقي الفاعلين، داعيا وزارة السياحة الى مراقبة المكان وإعطائه الأهمية بحجم أهميته، فالمكان حسب بن سودة ليس عاديا، هو ملاذ لأشخاص وازنين وأخبرنا أن الأميرة للا سلمى تأتي للزيارة وتمكث أكثر من ساعة. يحاول المتصرفون في المقهى الحفاظ ما أمكن على تمظهراته الأندلسية، كرافد لفن العيش المغربي فتجد النادل يلبس "جبادور" مطرز، وتعرض على الزوار حلويات مغربية "كعب غزال وغريبة والمحنشة.." وشاي محشو بنعناع أخضر يوزع في صينية من نحاس. هنا يقف الزمان برهة. يقول "لورون" زائر فرنسي يزور المقهى للمرة الثانية إنه أحب المكان كثيرا فهو قريب من الحياة العصرية لكنه خارجها، ليضيف انه نقطة تلاقي ثقافات تكتشف فيها الماضي في العصر، إذ القصبة تختزن تاريخا مهما، ليضيف في الاخير إن التاريخ مفخرة والتراث يجب الحفاظ عليه.. حضن حافظ للذاكرة إذا تربعت فوق سواري المقهى يمكن أن تتخيل ما تشاء..يمتزج هاهنا الحلم بالفضاء..ينبت عشب في صخر وينبت صخر في عشب في ماء.وتأبى زهور صغيرة ملونة إلا أن تجد لنفسها مكانا فتزاحم بين شقيقات الصخر ترنو، وشجرة تين فجرت الصخر لتنذر أن هذا الحجر حي يغدق. "جيوم " زائرفرنسي يجلس فوق الكرسي الخشبي الصغير متأملا البحر يقول ويداه لاتفارقان كاس الشاي "انها المرة الثانية التي ازور فيها هذا المقهى، جئت في زيارة عمل للرباط وأعتقد انه لا يوجد احسن منه للراحة الداخلية"، يتابع "جيوم" بفرنسية سريعة بالكاد نفهم منها ما يريد قوله "هناك من وضح لنا امورا عديدة عن تاريخ المكان وعن تفاصيل صغيرة تميزه " مستطردا ان المقهى والقصبة ككل مكان تاريخي استطاع ان يحتفظ بخصوصياته وبمواصفاته..وكأن الزمن يقف عنده، ليروي لزائريه انه مكان حي "vivant". وعن استقرار المكان وثباته في وجه التغيير يقول لوران "انه اجمل مافيه..فهو بمثابة مخبأ لخصوصيات الزمن محفظ في قرية معزولة كحضن يحافظ على التفاصيل". مزيج منقطع النظير هنا تنحبس دمعتك حياء وتبقى بين الجفون متلألئة، تنتزع نفسك من نفسك بسمة شوق، وتنهيدة رضى، هذا ما يؤكده "مهدي" في الواحد والعشرين من عمره طالب بالجامعة الدولية منحدر من فاس، يحكي عن المقهى وعن القصبة بلهفة وحب، يقول ازور المقهى مرات عديدة احسه قطعة من فاس مزروعة بالرباط، يذكرني هو والطريق إليه ورائحة الصوف والجلد بسوق الاوداية بعائلتي ويثير في الحنين ويشكل نقطة تقاطع مجالية في ذاكرتي. يلاحظ بمقهى الاوداية وبارضيته هذا التشابه والتقاطع الذي يجمعه ببعض المدن المغربية، فزرقة الازقة المجاورة تحيل على شفشاون والفسيفساء على فاس واسوار القلعة على الاحصنة المرابطية واطلالة المكان من عال تشبه مقهى الحافة بطنجة، ليبقى رغم ذلك استثناءا يحضن كل هذه الخصائص في مزيج منقطع النظير. يضيف "مهدي" المقهى يجمع بين التاريخ والحضارة..بين الجمال والبساطة، بين شساعة الرؤية ودفء رشفة الشاي وحلاوة قطعة كعب غزال وهذا المزيج قلما تجده في مكان. سترجع يوما المكان سرداب للروح تخبيء فيه الأحاسيس تجمدها، وتستدعيها لحظة صباح ذي معنى..تسترجع معها الأيام والصور والألوان والنغم والهمس والعطر والشدو وبعض الحنين. "بيسان" 20سنة، أردنية بأصول فلسطينية وام مغربية، تحكي انها ليست المرة الأولى التي تزور فيها المقهى مؤكدة وابتسامة عريضة مرسومة على محياها "لايمكن لمن زاره مرة ألا يعود" تتابع بيسان وعلامات الرضى والاسترخاء بادية من طريقة جلستها وتسريحة شعرها ولباسها، "اتي هنا من اجل الاستجمام والراحة، يشدني الهدوء ويسحرني البحر وبعد الأفق " تتابع والابتسامة لا تفارقها اقيم في صنعاء ولا تتاح لي رؤية البحر فالمكان بالنسبة الي فرصة لا تعوض..يوفر لي من الراحة مالا اجده في مكان اخر، تتابع بيسان وهي تحكي عن المكان باسهاب واعجاب هنا البساطة والبحر والطبيعة ونفحة الهواء بعطر خاص والهدوء مشيرة الى كاس الشاي بالنعناع بين يديها دون ان ننسى الشاي موضحة بلكنتها المشرقية "الجلسة طبيعية والمكان طبيعي والحلو.. إنو مكان للتفكير بحسسك بالامان والجمال..ويربطك بالتراث والتاريخ ". هدوء وعلاج بالمقهى رغم امتلائه بالمارين والزائرين والواقفين والمصورين إلا أن الهدوء يخترق الوجدان، يجتازك الصمت فبدل أن تصف المكان يكشفك المكان، ويذكرك فهو وفي وبه عرفان، رشفة شاي حلو بنعناع تغزلك مع مكونات المجال...فتحس الدفء يسري بالأوصال، وأصوات موج هادئة تارة وهادرة أخرى تضبط إيقاعاتها على أوتار القلوب، وتدخل على السمفونية اذان للصلاة، لتعزف في الدواخل..يقول "يحيى" طالب تطواني في العشرينات من عمره أنه يزور المقهى الموريسكي لأول مرة، يتحدث بحماس بان المكان وحده كان كفيلا بان يثير لديه رغبة النقاش والتفكير والتحليل وكأن الدماغ يستجيب لمؤثرات الهدوء والراحة، مؤكدا أنه سيعود لزيارته مرات عديدة، أحب "يحيى "البحر وهديره، أحب الجلسة التقليدية والبعد عن صخب المدينة. الكثير يعتبر المكان مصدر للراحة والطمأنينة وهواءه معالج للدواخل، هذا مااكده مرشد سياحي كان رفقة مجموعة من السياح الاجانب موضحا "الهواء هنا مختلط باليود والملح، معالج للحنجرة بالإضافة الى الافق الذي يمكن من ان تكون الرؤياافقية تماما وهي وضعية علاج مقوم للعيون". إن أسندت ظهرك لسارية من السواري وأغمضت جفنيك قليلا على حافة الشرفة تعتقد انك بجناحان وانك تنافس طيور النهر في الطيران، تشتم الحرية إيقاعا وتعيشها جهارا. افواج سياح تتلاحق وامال تعلق يقول "بن سودة "وفود تاتي وتذهب من جنسيات مختلفة لكنها لا تطيل البقاء، ليضيف متحسرا "السياح لا يحسون بالامان احيانا يبتزون من طرف اشباه المرشيدين " يردد بن سودة في كل مرة بحرقة وبفرنسية منسابة واثر التعب بادية في عينيه وتجاعيد وجهه الرقيقة تحكي بدلا عنه عن المه وغزارة التراكم وارتباطه بالمجال "يلزم الكثير من العمل يلزم الكثير من العمل "il faut du travail"، ويضيف انه مصدر للعملة الصعبة فإذا مر السياح ولم يتركوا عملة كانهم لم ياتو وكأنهم لم يزوروا المكان. اثناء كلامنا مع بن سودة دخل فوج جديد فحملقت عيناه وهرول لحمل صينية الحلويات وتحدث بكل اللغات..مشيرا إلينا انه وقت عمل "الوجيبة". تتوافد على المقهى وفود متعددة من مختلف الجنسيات، لا يخفون إعجابهم بالمكان، تختلف أعمارهم ولهجاتهم وطرق تعاملهم، منهم من يطيل الجلوس ومنهم من لا يتعدى دقائق معدودات. ولسكان المكان كلمة محمد متقاعد كان يقيم بفرنسا، تكلم معنا بحسرة بادية وانتقد ما أصبحت تعرفه المقهى من "خروقات". وحكى لنا عن طفولته كساكن بجوار المقهى ويطل سطح بيته عليها كيف تغيرت سلوكيات الناس، أما المكان يقول كما عهدناه صغارا ملاذا للباحثين على الهدوء والراحة، راجيا ألا تطاله أيادي الانحراف والمخدرات والاجرام. انتقد المتحدث الإهمال وعدم النظافة واستغلال الأطفال في الخدمة قائلا "حشومة..طفل صغير يتسخر على السياح". وهو مالاحظناه عند بداية الزيارة، صبي في العاشرة يقوم على خدمة السياح، سألناه منذ متى يعمل بالمقهى أجاب منذ أسابيع قليلة، يمشي حاملا صينية نحاسية مملوءة بكؤوس الشاي الساخنة، تتمايل قامته الصغيرة مع ثقلها..ينساب مسرعا في الزقاق الصغير، الذي يفصل الشرفة الأولى للمقهى بالجزء المطل على النهر، يرافقه رنين الكؤوس المهتزة على إيقاع رعشات يديه الصغيرة. يملك محمد بيتا أعاد ترتيبه وفق فن العيش المغربي الراقي وحين سألناه هل يستغله للسياحة كدار ضيافة مثلا قال "لا..زينته ووضبته لأسهم في جمال المكان، هذا بيت أهلي اشتم فيه رائحة الوالدين والأجداد ولا يمكن أن أفرط فيه"، مشيرا إلى ارتفاع الضرائب على الاستثمار في هذا المجال. عدنا من المقهى، محملين بأحاسيس الناس ورؤاهم وبشيء من حب المكان ندعو رفقة كل عشاقه أن أحفظوا مقهى الأوداية وقصبة الأوداية للتاريخ للحضارة للعمران للرباط، فإن كان للرباط أبواب للتاريخ فمقهى الاوداية بابه على الجمال.