تناهز علاقتي بالراحل، الصديق والروائي الأستاذ بهاء الدين الطود، ومعرفتي به، ثلاثة عقود من الزمن والصداقة والتواصل، ظلت، رغم ما تخللها من مد وجزر، تختصر، بالنسبة لي، علاقة طافحة بالأبعاد الإنسانية والرمزية، وهي علاقة لم أعد، اليوم، أتذكر لا كيف بدأت، ولا متى وأين توطدت، ربما كان الأمر مصادفة جميلة.. فمع بهاء الطود، قد لا تصبح للزمن أية قيمة، أمام ما ظل يغمرنا به من كرم وفيض المحبة، سواء هنا في المغرب، أو خارجه؛ بحيث غدا الأهم، بالنسبة لكل واحد منا، هو كيف نحافظ على هذه الصداقة ونصونها، في امتداداتها الإنسانية والروحية، وفي إكراهاتها الزمنية والوجدانية. ما أتذكره جيدا، هو أن علاقتي بالفقيد العزيز بهاء قد تعمقت أكثر بعد صدور روايته الشهيرة والممتعة "البعيدون"؛ هذه الرواية التي وإن كان عنوانها يضمر صورة البعاد، فقد نسجت بيننا خيطا شفيفا، مقربة بيننا، نحن الاثنين على الأقل، حيث حصل أن أعجبت بهذه الرواية، واستمتعت بقراءتها وبعوالمها، فحولت إعجابي ذاك إلى أسئلة كثيرة شغلتني وقتئذ… ورواية "البعيدون"، لحظة صدورها، وهي تعيش وسط زحمة اهتمام النقاد والقراء بها، داخل المغرب وخارجه، حصل أن فكرت لحظتها، في أن أحمل هواجسي وأسئلتي التي شغلتني، إثر قراءتي الأولى للرواية، إلى كاتبها، فجاء حوارا عميقا وممتعا، نشر بداية، في مجلة "نزوى" (العدد 38- 01 أبريل 2004)، قبل أن تتناقله منابر أخرى، ويدرج في كتب احتفائية بالكاتب نفسه؛ أقول جاء حوارا جريئا ومضيئا، جراء ما تطارحته أجوبة بهاء الطود من قضايا، وما كشفت عنه من معرفة وأبعاد مضيئة لقراءة هذا العمل الروائي الأول لكاتبه. وهو الحوار الذي شكل بالنسبة لي، أرضية جديدة لإعادة قراءة رواية "البعيدون"، وهامشا مضيئا لضبط السياق الثقافي والتاريخي والإبداعي العام الذي يؤطر مضمون الرواية وسيرة انكتابها، بالنظر إلى كونه حوارا جاء بمثابة نص مواز للرواية ولقراءتها، يذكرنا، في ذلك، بتلك الهوامش المضيئة الشهيرة التي سطرها كبار الروائيين لنصوصهم الروائية، نذكر من بينهم، على سبيل المثال، أمبرتو إيكو، في كتيبه الشهير "هوامش لاسم الوردة"… وقبل هذا وذاك، أتذكر أن إعجابي بشخصية بهاء الطود، كان قد ازداد بعد متابعتي لإحدى حلقات برنامج "مدارات" الثقافي التلفزيوني، بمناسبة صدور روايته "البعيدون"، كان يقدمه المفكر نور الدين أفاية، في القناة الأولى، وكان بهاء الطود ضيفا خفيفا ومرحا على البرنامج، أعجبت لحظتها بالروائي بهاء، وبردوده الذكية على تساؤلات محاورِه، بمثل ما أعجبت بتواضعه، وبطريقته الذكية في التفكير وصوغ الأجوبة، عدا ما أبان عنه بهاء من قدرات على التحليق في عوالم الأدب والرواية، في العالمين العربي والغربي. عدا هذا، فما كان على كل من أراد أن يكتشف شخصية بهاء الطود عن قرب، سوى أن يرافقه في سفر خارج الوطن، فحتما سيكتشف إنسانا آخر، أكثر بهاء وإمتاعا ومؤانسة… ففي لقاءاتنا العديدة التي تمت خارج الوطن، في تركيا والإمارات وليبيا وإسبانيا، وتحديدا لقاءاتنا المتكررة في مصر، كنت، في كل رحلة، أكتشف في الرجل شخصا بالمعدن الأصيل نفسه، طالعا إلينا من سلالة نادرة، لرجال آمنوا بالوطن وأخلصوا له، على رأسهم المناضل والمقاوم المغربي الكبير، العقيد الراحل الهاشمي الطود. لذا، فالسفر، عادة، هو ما يشكل المحك الحقيقي لاختبار العلاقات والصداقات؛ إذ ونحن في لقاءاتنا المكرورة، في القاهرة، في "مؤتمرات الرواية العربية" بالمجلس الأعلى للثقافة، وفي الإسكندرية، في مؤتمرات "الإصلاح العربي" بمكتبة الإسكندرية، سرعان ما تجذبك شخصية الرجل، بما توفره لك مرافقته من متع ومؤانسة، تبدو أكثر تأثيرا من متع المكان الذي أنت حل به، كما يجذبك خزان مواهبه الكثيرة والمثيرة، في الحكي والغناء والتذكرات والعلاقات والجلسات… على هذا النحو، إذن، كان بهاء الطود حريصا، ما أمكنه ذلك، على أن يقرب لك المَشاهِد، في تلويناتها المختلفة، ويقدم لك خيرة أصدقائه، من المغاربة والأجانب، كما تجده حريصا بشدة على أن تستمتع بوقتك وأنت برفقته. فلكي يستجيب بهاء لدعوات أصدقائه في مصر، على سبيل المثال، لوجبة عشاء أو لجلسة خاصة، تجده يشترط على مُضيفه أن يوجه الدعوة إلى أصدقائه من المغاربة، كذلك، ممن برفقته، قبل أن يستجيب لها هو؛ إذ سرعان ما يجعلك، ذلك السلوك، تحس بذاته، هو، منتشية ومنصهرة في باقي الذوات الأخرى المحيطة به، خلافا لبعض مثقفينا وكتابنا، ممن ينسلون خلسة، فتجدهم فقط ذاهبين إلى ملاقاة الشيطان… كما أن من عادة بهاء الطود، رحمه الله، أن يبادر إلى السؤال عنك وعن مشاريعك، سواء وهو داخل المغرب أو خارجه، يتلفن لك من هنا وهناك، ويشاركك متعه الخاصة، وهو إلى جانب ذلك، ظل، بشكل دائم، إنسانا حريصا على حضور الصوت الثقافي المغربي في الملتقيات الخارجية، فكان، رحمه الله، كلما توصل بدعوة لحضور لقاء أو مؤتمر ثقافي في الخارج، تجده يكثف الاتصال بأصدقائه ببلده، يستفسرهم عن مدى توصلهم، هم أيضا، بدعوات في الموضوع، بحيث كان يغمره فوران وحماس من نوع خاص، بكل ما تنضح به شخصيته من نبل وصدق وغيرة على البعد الثقافي والأدبي والفني المغربي… ويكفي، هنا، أن نطلع على حوار منشور، أجراه الأستاذ إبراهيم السملالي مع بهاء الطود، لكي نكتشف مفهوما جديدا ونبيلا للصداقة، كما كان يرتضيه بهاء ويؤمن به، في بحثه الدائم عن المؤانسة، وعن الأصدقاء القدامى، وعن حبه القديم، من موقع وفاء مشتهى لهم جميعا. وهنا، أستحضر، على سبيل المثال، قصة بحث بهاء الطود عن أستاذه المصري، الروائي جميل عطية إبراهيم، الذي كان يدرس بهاء في أصيلة، وكتب رواية عن هذه المدينة، بعنوان "أصيلا"، حيث ظل بهاء يسأل عن أستاذه إلى أن جمعهما القدر في مؤتمر الرواية العربية في القاهرة، فكنت شاهدا على هذا اللقاء الوجداني الصادق، أقول كان بحثه عنه بمثل بحث بهاء النوستالجي الدفين عن عشيقته الإسبانية القديمة "بيلار"، في أحياء مدريد ودروبها… ها أنا أتحدث مرة أخرى عن الصداقة، مستحضرا ما كتبه أبو حيان التوحيدي عن "الصداقة والصديق"، وعن "الإمتاع والمؤانسة"، يتماهى الرجلان، بهاء وأبو حيان، إلى حد فرض فيه فيلسوف الأدباء، أبو حيان، صوته وسيرته على كاتبنا بهاء، فاستوحى منهما موضوع روايته الثانية "أبو حيان في طنجة"، بفكرتها الطريفة، وبمستواها التخييلي والدلالي الرفيع، بما أضفاه الكاتب على هذه الشخصية الفكرية والأدبية التي ظلمها الزمن، وعلى من يجاورها من شخوص روائية أخرى، استحضرها الكاتب من زمنها ومن غير زمنها، من امتدادات في الزمن والنوستالجيا والذوات، كما هو الحال، بالنسبة لاستحضاره، في روايته بشكل مباشر أو ضمني، على سبيل المثال، ل "محمد شكري" باسمه الشخصي، حتى لا أذكر، هنا، باقي الشخوص الأخرى التي تنتمي إلى عالم الكتابة والأدب، والمرموز لها في الرواية بأسماء مستعارة. يستحضر بهاء شخصية "أبو حيان التوحيدي" شاهدا على تحولات مجتمعية وعلى تحولات قيم. من ثم، تختلف هذه الرواية عن غيرها من الروايات العربية التاريخية التي اتخذت من شخصيات تاريخية وفكرية، ومن أزمنتها التاريخية، ومن حيواتها وبطولاتها، موضوعا لها، من قبيل تلك الشخصيات التاريخية التي استعادتها تخييليا مجموعة من نصوص الرواية العربية الحديثة، وذلك في كون رواية "أبو حيان في طنجة" تقوم على خلخلة الزمن، وتكسير الحدود بين ماضيه وحاضره. فأبو حيان، القادم إلينا من القرن الرابع الهجري، سيصبح، مع بهاء، في قرننا هذا، شخصية حية في طنجة، تتجول في أزقتها وبين حاناتها، مقيمة في فنادقها، ومكتشفة لأسرارها وشخوصها، ومقارنة بين ما كان عليه عهدها وما أصبحت عليه الأوضاع اليوم، بعد سلسلة التغييرات والهزات التي شهدها العالم.
وفي اعتقادي، أنه قد ظهرت في المغرب حركة روائية مثيرة، منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، من بين أسبابها الإسهام الاستثنائي لكتاب روائيين، يزاوجون بين اهتماماتهم الإبداعية وانشغالاتهم الخارج – أدبية، وخصوصا ما يتصل منها بمهن المحاماة والطب والإعلام..، ويعتبر بهاء الطود أحد كتابنا الذين توفقوا، بشكل لافت، في المزاوجة بين الكتابة الأدبية ومهنة المحاماة، قبل أن يوقف الاشتغال بمهنته، بعد أن تفاقمت متاعبه الصحية، وإن كان بهاء يواجهها بكل ما أوتي من مرح وفرح ودعابة، فبقيت عوالم الكتابة والأدب أنيسه، وهي العوالم التي كانت، في حقيقة الأمر، قد أدركته قبل حرفة المحاماة، حيث عرف عن بهاء عشقه، في مرحلة مبكرة، للمسرح، كما عرف بمحاولاته الأولى في عالم التمثيل فوق الخشبة، سواء وهو في القصر الكبير أو في أصيلة أو في العرائش، هو الذي يقول عن حكايته مع المسرح إنها "استغرقت طفولتي ومراهقتي، من المدرسة الابتدائية إلى نهاية الدراسة الثانوية، فقد كان مسيطرا على عقلي ووجداني، فرجة وممارسة جسدية"، عدا قراءاته العديدة في هذا المجال، وحضوره أشهر الأعمال المسرحية العالمية، سواء وقت تواجده في باريس، أو إبان إقامته في لندن، بمثل ما عرف عن بهاء كتابته القبلية للقصة القصيرة والخاطرة والمقالة، ودراسته للصحافة في إسبانيا… وبهاء الطود، فضلا عن ذلك كله، هو صديق كبير وحميم للأدباء وللمثقفين العرب، فكان بيته مفتوحا دائما على مصراعيه ومن بابيه معا، الأمامي والخلفي، لاستقبال الأصدقاء والضيوف والزوار، من البلد ومن عديد من الجغرافيات، هؤلاء الذين قد يطول، في مقام كهذا، استحضار أسمائهم ووجوههم، في امتداداتها الزمنية وفي تنوع اهتماماتها الثقافية والإبداعية. وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن واقعة نادرة، من بين وقائع كثيرة، تبرز مدى ما ظل يعرف به بهاء من سخاء وكرم كبيرين، مفادها أنه كان قد تكرم، رحمه الله، فحجز غرفة خاصة مجهزة، ببيته الأول الكبير، فكانت تلك هي "غرفة العلام"، كلما زرت طنجة الساحرة. كما يعرف بهاء بعشقه الكبير للأدب والشعر العربي والأوربي والأمريكولاتيني، وإدمانه على قراءة كتب التراث والحداثة والتاريخ والعلوم الإنسانية، والقانون طبعا، وحبه الكبير للسينما، والتشكيل، والتصوير، والموسيقى، والنكتة، والغناء بمختلف تلويناتهما وإيقاعاتهما الكونية؛ هو الذي عرف بصولاته وجولاته الغنائية، مع رواد الغناء العربي، فكان يبدع، مثلا، حين يقلد المطرب عبد الحليم حافظ في أغنيته الشهيرة "جبار"، صعبة الأداء، لكن بهاء، وهو في قمة انتشائه، كان يروض تلك الأغنية، ممددا حباله ومن خلاله كلمة "جباااااار"، بطريقته الخاصة، مقلدا عبد الحليم حافظ، الذي كان سيروقه أداء بهاء لأغنيته، تم ذلك، في زمن كانت تسود فيه الطمأنينة والصفاء، قبل أن تتلوث الأجواء… فضلا عن عشق بهاء للرسم والفن عموما، بمختلف مدارسهما، وخصوصا تاريخ الفن الإسباني، الذي خبره كاتبنا إبان إقامته في إسبانيا، وقال عنه "إن حكايتي معه تستوجب كتابة نص خاص عن تلك العلاقة" (من حواره مع إبراهيم السملالي). وقد شكل كل ذلك رافدا نظريا وجماليا أساسيا للكاتب في كتابة الرواية. كما يعرف عن بهاء قراءته لأمهات الروايات العالمية، وتأثره بها وبطرائق كتابتها. ويكفي أن نشير إلى روايات بلزاك وبروست ودوستويفسكي ودي جردان وجويس وولف وروب غرييه وساروت ودورا وحسنين هيكل وحافظ إبراهيم ونجيب محفوظ والطيب صالح والغيطاني والقعيد ومنيف وعبده جبير وأصلان وحنا مينة وبهاء طاهر وإميل حبيبي وصنع الله إبراهيم.. ومن المغاربة، محمد شكري وعمران المليح ومحمد زفزاف وأحمد التوفيق، وغيرهم كثير، ما حدا ببهاء إلى القول مجيبا عن سؤالي حول مرجعيته الروائية في كتابته لرواية "البعيدون"، ومعلقا على عرضه لمختلف تلك الأسماء وغيرها: "ولعلك لاحظت أن مرجعية روايتي ضخمة وغنية ومتنوعة، أثرت تأثيرا لافتا دون شك في كتابتي ل "البعيدون" (من حواري مع الكاتب). هكذا، إذن، وبعد أن كان كاتبنا يجذبه سحر مقاهي مدريد لمجرد انتساب روادها إلى عالم المسرح والثقافة، نجد أن سحر الشرق قد ظل، بدوره، يراوده ويفتنه، إلى أن رحل عن عالمنا، مأسوفا على رحيله. ويكفي أن نطلع على حواراته الصحفية، وعلى ألبومات صوره النادرة والكثيرة، لنكتشف مدى الثراء الذي تميزت به حياة الرجل، كما عاشها طولا وعرضا، ومدى اتساع شبكة علاقاته، وتعدد صداقاته ومغامراته ورحلاته في الأمكنة، وفي الأزمنة، وفي عوالم الفن والثقافة والأدب والقانون، الشيء الذي خلق لدى بهاء الإحساس بانتماء كوني: "صرت إنسانا كونيا من غير أن أكون مدركا لمعنى الإنسان الكوني…" (من حواره مع إبراهيم السملالي). لقد ظل بهاء، رغم متاعبه الصحية، مواصلا حضوره الأدبي، عاشقا لعوالم الحكي، مفتتنا بها، حريصا على كتابة نصوصه السردية ونشرها، منذ روايته الأولى "البعيدون"، التي حظِيتْ بحظ نشرها في إحدى أهم السلسلات الروائية وأعرقها في العالم العربي، أقصد، هنا، سلسلة "روايات الهلال" المصرية، حيث اعتبرت رواية "البعيدون" ثالث رواية مغربية تحظى، وقتئذ، بنشرها ضمن هذه السلسة الشهيرة، بعد روايتين مغربيتين سابقتين، صدرتا منذ فترة زمنية طويلة، هما: "جيل الظمأ" للمفكر الراحل محمد عزيز الحبابي، و"سبعة أبواب" للأستاذ الراحل عبد الكريم غلاب، قبل أن يتوالى نشر نصوص الرواية المغربية، رغم قلتها، في إطار هذه السلسلة نفسها… ولا بد أيضا من التنويه، في هذا الإطار، بالجهد الكبير الذي بذله بهاء الطود، لما كان على رأس فرع اتحاد كتاب المغرب في طنجة، حيث تزايد انفتاح فرع الاتحاد، خلال فترة لا تتجاوز ثلاث سنوات، على مجالات وجغرافيات وأسماء جديدة، وعلى أنشطة ثقافية وأدبية وفنية، أضفت نشاطا نوعيا جديدا على الفرع، وعلى علاقاته الداخلية والخارجية، وهو مكسب ما كان ليتحقق، لولا ما كان يتمتع به بهاء وباقي أعضاء الفرع، من أريحية ومصداقية، ولولا ما نسجوه جميعا من علاقات شخصية واسعة ومؤثرة، ما أثر إيجابا على تدبير شؤون فرع نشيط، بإرثه التاريخي والثقافي والرمزي، وبالحضور الوازن لأعضائه وجمهوره، في تعدد اهتماماتهم الثقافية والأدبية… وهنا، كان من اللازم، كذلك، التذكير بذلك الأفق الإنساني والثقافي والأدبي الرحب الذي جمع بهاء الطود بمحمد شكري، سواء وشكري على قيد الحياة أو حتى بعد رحيله المأسوف عليه، هو أيضا، حيث بقي بهاء وفيا لصداقة كاتب كبير، ولذكرى رحيله، بما لعبه بهاء من دور خاص في حماية الإرث الثقافي والأدبي للكاتب الراحل، قبل أن تمتد إليه أيدي العبث، فكان جشع القبيلة أسرع من صوت القانون… هكذا، إذن، ظل بهاء الطود رجلا جنتلمانا، مقبلا على الحياة، محبا لها، حتى آخر أيامه، قبل أن يغادرها في غفلة منا جميعا، مخلفا لنا درسا كبيرا في الحياة والصداقة والكرم، وكتبا منشورة، وأخرى كان الفقيد ينوي استكمال توضيبها ونشرها، لولا هذا الموت القاسي. حصل أن زرته في الفترة الأخيرة ببيته الجديد، فبدا فرحا ومنتشيا، كعادته مع زواره وأصدقائه، استحضرنا كثيرا من الذكريات والوقائع والأشخاص، من الأحياء وممن قضوا، وكثيرا من تعابيرنا الجاهزة التي كانت تضحكنا وتنعشنا وتحفز ذاكرتنا، فيما تواعدنا على تجديد حركتنا في الأمكنة والجغرافيات، غير أنه لم يتأت له أن يستجيب لدعوتي لمرافقتي في رحلتي إلى مارسيليا وباريس؛ إذ سرعان ما وصلني خبر رحيله، من زوجته السيدة رجاء، فيما كنت لحظتها بمحطة القطار بمارسيليا، أتأهب لمغادرتها نحو باريس، فبقيت هذه المحطة شاهدة على وداع مُر لم يكن في الحسبان … وإذا كان أول دور أسند للطفل بهاء، خلال أول عرض مسرحي شارك فيه، في المرحلة الابتدائية بمدينة القصر الكبير، قد ردد فيه ذلك الطفل الذي كانه بهاء، رحمه الله، جملة واحدة فقط، هي "سمعا وطاعة يا مولاي"، فإن بهاء الرجل وقد استجاب لنداء ربه، ظل وفيا وسميعا وطيعا لصوت وطنه الذي أحبه وعشقه…