قبل تسع سنوات كتب محمود درويش قصيدة «جدارية»(1999) مستبقا موته على نحو مذهل، متقدما نحوه بأجمل أزهار الاستعارة وأكثرها رسوخا في حديقة الميتافيزيقا، وهي قصيدة كتاب، أراد لها قلب الشاعر الملتاع، الخارج لتوه من تجربة المرض والعيش على الحدود الهشة للموت أراد لها أن تكون المعلقة الحادية عشر، التي تخلد اسمه بماء الذهب إلى جانب أمراء القول الشعري العربي الأوائل. معلقة تختصر فن القول عند محمود درويش، وترفع تقنيات الكتابة لديه إلى أعلى ذراها الغنائية، المُصعَّدة بزفرات الموت وأسئلة المصير المقلقة، وطبيعة «الأبدية البيضاء» التي تزف لها الأرواح وهي تجرب مقامها هناك، بعيدا عن جاذبية الأرض وشؤون الحياة الدنيوية. تربط «جدارية» محمود درويش تجربةَ الموت بحركة التحليق وبلون البياض، وهو ما تفصح عنه الذات الملتاعة منذ بداية القصيدة: «كنتُ أعلم أنني ألقي بنفسي جانبا .../ وأطير. سوف أكون ما سأصير في الفلك الأخير. وكل شيء أبيض،/ البحر المعلق فوق سقف غمامة/ بيضاء. واللاشيء أبيض في/ سماء المطلق البيضاء. كنتُ، ولم/ أكن فأنا وحيد في نواحي هذه/ الأبدية البيضاء. جئتُ قبيل ميعادي/ فلم يظهر ملاك واحد ليقول لي: «ماذا فعلتَ، هناك، في الدنيا؟»/ ولم أسمع هُتاف الطيبين، ولا/ أنينَ الخاطئين، أنا وحيد في البياض/ أنا وحيدُ...»(الأعمال الجديدة، دار رياض الريس، الطبعة الأولى 2004، ص441/442). لم يدخل محمود درويش تجربة الموت مختارا. وهو ليس مثل الشعراء الرومانسيين الذين أضفوا عليه هالة من السحر والجاذبية المُخَلصة، التي جعلت شاعرا مثل أبي القاسم الشابي يقول مناجيا قلبه: «جفَّ سحر الحياة يا قلبي/ فهيَّا نجرب الموت هيَّا». في تجربة محمود درويش، بخلاف ذلك، حرقة تكشف عن تمسك وجودي بالحياة، وحرص على استقطار كل لحظاتها، وفيها أيضا قلق لا ينهي ألم الأسئلة بالأجوبة المطروحة في الطريق. لذلك تكبر، في جدارية درويش، لحظة تعظُم فيها الوساوس، التي تصاحب كائنا يواجه المجهول بمعرفة قليلة، قد لا تسعفه تماما في وضع شكوكه جانبا. إن الحياة ليست من قبيل تلك الأعطيات التي يمكن التفريط فيها بسهولة، لذلك، يرفع محمود درويش، في أكثر من مقطع شعري، نداء حارا للموت الذي جاء قبل الأوان، متوسلا إياه إرجاء مهمته و الانتظار قليلا، حتى يُنهي ما كان قد شرع فيه من أعمال، ويرى بأم عينيه حقيقة المآل، مقتنعا، في ذات الوقت، أن لا شيء يهدئ بداخله من روع الأسئلة: «وأريد أن أحيا.../ فلي عمل على ظهر السفينة. لا/ لأنقذ طائرا من جوعنا أومن/ دوار البحر، بل لأشاهد الطوفان عن كثب: وماذا بعد؟ ماذا/ يفعل الناجون بالأرض العتيقة؟ /هل يعيدون الحكاية؟ ما البداية؟/ ما النهاية؟ لم يعد أحد من الموتى ليخبرنا الحقيقة.../ أيها الموت انتظرني خارج الأرض،/ انتظرني في بلادك، ريثما أنهي حديثا عابرا مع ما تبقى من حياتي/ قرب خيمتك، انتظرني ريثما أنهي قراءة طرفة بن العبد. يغريني الوجوديون باستنزاف كل هنيهة/ حرية، وعدالة، ونبيذ آلهة.../ فيا موت انتظرني ريثما أنهي/ تدابير الجنازة في الربيع الهش، حيث ولدتُ...»(ص480/481). إنه ذات الرجاء الحار الذي يرفعه الشاعر للموت، في مقطع آخر، مذكرا إياه بسابق اللقاء الذي كان قد جمع بينهما، عندما صوب، هذا الأخير، نحوه، في لحظة طيش، سهما نجا منه الشاعر بمعجزة ، ليكتب جداريته، كمرثية أخيرة، يودع عبرها الحياة الدنيا، شاكرا إياها، بامتنان، على الفرصة الجديدة التي مكنته من زيارة قصيرة لأهل الأرض المريضة : «أيها الموت، انتظرني عند باب/ البحر في مقهى الرومانسيين. لم/ أرجع وقد طاشت سهامُك مرة/ إلا لأودع داخلي في خارجي،/ وأوزع القمح الذي امتلأتْ به روحي/ على الشحرور حطَّ على يدي وكاهلي، وأودع الأرض التي تمتصني ملحا، وتنثرني/ حشيشا للحصان وللغزالة. فانتظرني/ ريثما أنهي زيارتي القصيرة للمكان وللزمان،/ ولا تصدقني أعود ولا أعود/ وأقول: شكرا للحياة»(495/496). وسيمتزج، في مقطع آخر، رجاء الانتظار عند الشاعر، بالرغبة في التهيؤ لتجربة الموت كما كان يتهيأ للحياة. ولعلها فكرة وجودية، أوحى بها رعب التجربة لشاعر يريد أن يتسلح بأغراضه الصغيرة وعاداته اليومية الأثيرة، ليجعل تجربة الموت أكثر احتمالا وأقل رعبا، دون يسعفه خياله الشعري، في النهاية، بالقدرة على استشراف خصوصية الحياة في العالم الآخر. لذلك لا يبقى أمامه إلا باب السؤال الحارق مشرعا دائما، ومن جديد: « أيها الموت انتظر! حتى أعد حقيبتي: فرشاة أسناني، وصابوني/ وماكنة الحلاقة، والكولونيا، والثياب./ هل المناخ هناك معتدل؟ وهل تتبدَّل الأحوال في الأبدية البيضاء،/ أم تبقى كما هي في الخريف وفي/ الشتاء؟ وهل كتاب واحد يكفي لتسليتي مع اللاوقت، أم أحتاج/ مكتبة؟ وما لغة الحديث هناك،/ دارجة لكل الناس أم عربية/ فصحى»(482/ 483). كل هذا الرجاء، يرفعه الشاعر للموت، لأنه يخشى فعل المباغتة، والضربة غير المتوقعة، لذك يدعوه إلا أن يتحلى بالمروءة، ويكون «صيادا شريفا لا يصيد الظبي قرب النبع»(ص383)، كما يدعوه، هو القوي، إلى عدم استغلال لحظة وهن قلبه الصغير، الذي لم يعد قادرا على تغذية شرايين الشاعر بدماء الحياة: «...لا تحدق/ يا قوي إلى شراييني لترصد نقطة الضعف الأخيرة. أنتَ أقوى من نظام الطب. أقوى من جهاز/ تنفسي. أقوى من العسل القوي،/ ولستَ محتاجا لتقتلني إلى مرضي. فكن أسمى من الحشرات. كن من أنتَ، شفافا بريدا واضحا للغيب...ولا/ تجلس على العتبات كالشحاذ أو جابي الضرائب...»(ص384/385). لا تأخذ الذات الشاعرة، في قصيدة «جدارية»، الموت على وثيرة واحدة، ومن منظور واحد، وإنما تقلبه على كل وجوهه، جيئة وذهابا، مستقطرة منه أخلص الاستعارات، أصفاها وأدكنها، أجلاها وأكثرها غموضا، وليس ذلك بغريب عن شاعر خبر أسرار اللغة، وطوَّعها، على امتداد أكثر من أربعة عقود، لتواجه أقوى التجارب الوجودية. ولعل القصيدة تلج إحدى أكثر لحظاتها شفافية، عندما تصوغ ما يشبه وصية موجهة للمشرفين على جنازته: «سأقول صبوني/ بحرف النون، حيث تعُب روحي/ سورة الرحمن في القرآن. وامشوا/ صامتين معي على خطوات أجدادي/ ووقع الناي في أزلي. ولا تضعوا على قبري البنفسج، فهو زهر المُحبطين يذكر الموتى بموت/ الحُبِّ قبل أوانه. وضعوا على التابوت سبع سنابل خضراء إن/ وُجدتْ ، وبعض شقائق النعمان إنْ/ وُجدتْ. وإلا فاتركوا ورد الكنائس للكنائس والعرائس»(381/382). هكذا كان الشاعر، قبل تسع سنوات، قد استبق موته، فحاوره محاور ة الانسان الملتاع، الذي لم يشبع بعد من هواء الأرض، ومن حدائقها وغيومها وأنهارها وبحارها، بالرغم من قلبها المريض، المثخن بالجراح والمهدَّد بالصمت في أي لحظة. استبق الشاعر موته، فوقع قصيدة معلقة توقَّعها هي الأخيرة في نشيده الملحمي المرفوع لأهل الأرض. ولم يسم الشاعر نشيده الحارق بالجدارية، إلا لأنه، أراده معلقة ذهبية تُرشد الشعراء والناس إلى فنه العظيم المعجون بقلق الانسان، الشاهد على قوته وضعفه، صحته واعتلاله، ذاك القلق الميتافيزيقي ، الذي حَوَّل كلمةَ الشاعر إلى مرثية استباقية لكل فعل وابتسامة في هذه الحياة الآيلة للزوال. استبق الشاعر موته، فتمكن من توقيع أعمال أخرى، ضمها إلى نشيد الانسان الكبير، نذكر منها: «سرير الغريبة»(1999)، «حالة حصار»(2002)،»لا تعتذر عمّا فعلت»(2004)، «أثر الفراشة»(2008)...وهي كلها أعمال صادرة عن دار رياض الريس.