-1- لم تَكْتَهِلِ القصيدةُ العربية حين بدأ محمود درويش يكتب شعراً وينشره في فجر الستينيات من القرن الماضي. كان ما يزال لديها ما تُفشيه من أسرار الجمال الذي تختزنه اللغةُ والذاكرة والقرائحُ المصقولة؛ وكان ما يزال يَسَعُها أن تقدّمِ شهادةً على أن في مُكْن الصورة الشعرية أن تقول بلغتها الخاصة ما قد تتلعثم مفرداتُ الفكر في الإبانة عنه. كانت تمضي في رواية سيرتها كمحرابٍ تؤدي فيه الذائقةُ الجمالية طقوسَ البوْح برؤيةِ العربيِّ إلى كَوْنه. كانت تفاخرُ غيرها من قوالب الكلامِ البديع بأنها الأعْرَقُ الذي لا يَبْلَى ولا يندثر، وأنها الأجرأُ على أن تتجدَّد من دون أن تفقد نصاب السُّدَّة.. لم تكتهل. وكيف لقصيدةٍ في عهدةِ السّيّاب أن تكتهل؟ نعاها من خاف عليها من مغامرة هزيع الأربعينيات الأخير، حين أتاها من حملها على صهوة فكرة التحرُّر من قيود الوزن والإيقاع كيْ تتخفَّف من حمل الشكل وتُفْرج عن حرية الصورة في التجلّي. خسر الخائفون خوفَهُمْ وكَسِبتِ رهانَها وطمْأَنتْهم على أنّ ميراث امرئ القيس والمتنبي وأبي تمَّام وشوقي وبدوي الجبل محفوظ من التبدُّد ومصروفٌ للتجدُّد. وما إن دخل السيّاب، وبعده عبد الوهاب البياتي، في عين مغامرة التجديد في الخمسينيات وبدأ أدونيس ورفاقه ثورة الشعرِ على الشعر، حتى هدأت الأنفُس واستقر الرّوع على يقينٍ بأن القصيدة باقية على عرش الكلام. ما اكتهلت حين بدأ محمود يكتب شعراً. لكنها انتبهت إليه؛ أخذها فجأةً سِحْرٌ صوتٍ شاب ينبعث من داخل القفص المُقْفَل، يقول بمفرداتها ما كانتِ السياسةُ تحتكر قولَه منذ زمنٍ طويل. لكنه يقول الذي يقول بطريقةٍ تكتشف فيها القصيدةُ نفسَها من جديد: معناها وفائدتَها وسلطتَها. إنها هي التي تتحدث لا السياسة:المفرداتُ مفرداتُها، والصُّورُ من مخزونها، والعذوبةُ من رحيقها القديم. نبَّهها محمود إلى قارةٍ من المعاني الإنسانية بكرٍ على الشعراء. هي أكبر من مساحاتٍ تحرَّكتْ فيها القصيدةُ العربية في حقبة الوطنية والثورة فأنتجت شيئاً أبعدَ ما يكون عن القصيدة وأقربَ ما يكون من النشيد. هي قصيدةٌ أخرى جديدة: في اللغةِ والحبكة والصورة والصوت المنبعث من جنبات هيكلها جديدة. وُلدت هذه القصيدةُ في رأس السّيّاب وهدْهدها بقلمه، وافترش لها أرضَ العراق وتاريخَه، وسقاها من دِجْلَتِهِ وفُرَاتِه. ثم أتى محمود يأخذها إلى فلسطين كي تكبُر بين الصخر والجمْر، ترعى في الزعتر والكَرْم، وتشهد على القتل اليوميّ للمعنى الإنساني. منحها صوتاً فلسطينيّاً كي تصرخ وتدّوي صرختُها في الأفقيْن العربيّ والكونيّ. ومن حينها، زاحمتِ القصيدةُ السياسةَ وأخذت منها جمهورها شيئاً فشيئاً، وباتت تقول نيابةً عن السياسة ما تخفيه السياسةُ أو تعجز عن الإفصاح عنه. هل صدفةٌ، إذن، أن يصدّقها الناس ويحتشدون لها في كل مكانٍ ذهبت إليه؟ لأول مرّةٍ سيبايعُ الناسُ القصيدةَ ويمحضونها الولاء ويَعْقِدُون لها الإمامة. هي ضميرُهم يتكلم باسمهم. هي رغيفُهم يُسْكِن جُوعهم. هي ملاذُهُم من الضياع يأويهم. هي نَفِيرُهُمْ يبُثُّ العزيمة فيهم. عادت القصيدةُ مع محمود إلى أوّلها حين كانت لسانَ الجماعةِ ومدوَّنةَ يومياتها وصحيفتَها السَّيارة قبل أن يقوم سلطانٌ في العرب وثروةٌ ونعيمٌ فيرتزق بها الشعراء ويتكسَّبُون ويبتذلون معناها وعن رسالتها يُعْرِضون. وما كان محمود لسانَ قبيلةٍ بالمعنى المألوف ولا هو أراد لنفسه أن يكون كذلك. تحدَّث باسمه، بلسان المفْرَد، متأبِّياً أن تَضْوِيَ فرديَّتُه في الجماعة. لكنَ من قرأوهُ، قرأوا أنفسهم فيه، في شِعْرٍ ينضح بالقدرة على فتح الحدود المُقْفَلَة بين الخاصّ والعامّ، بين الذاتيِّ والموضوعيّ، بين الفرديّ والجماعي. فكانت القصيدة ? بذاك الاعتبار ? قصيدتهم جميعاً، مرآتهم التي يطالعون فهيا صورتهُم. ما اكْتَهَلَتِ القصيدةُ حين بدأ محمود يكتب شعراً، لكنها عثرتْ في صوته على إكسير الحياة. -2- منذ قصيدة «سجِّل أنا عربي» إلى قصيدة «عابرون في كلامٍ عابر»، دخَلَتِ الملحميةُ في نسيج التعبير الشعريّ أو استعادتْ نَفَساً ملحميّاً كان لها في الماضي. لم يفتعل محمود ملحميته لمجرَّد أنه شاعرٌ فلسطيني يعيش تحت قبضة الاغتصاب الصهيوني لوطنه. السياسةُ لا تَلِدُ قصيدةً، لكن الشرط السياسيَّ زَوَّدَهُ بمادة الكتابة. أمّا هو، فهو مَنْ صَنع لغتَهُ وقصيدتَهُ وزفَّها في لغةٍ ملحميةٍ مهذَّبة، عذْبة، تكاد تُفرِج عن نفسها في رداءٍ رومانسي، في لغةٍ زاوجت بين الرومانسية الطبيعية والتصوُّف. كانتِ الحدودُ في قصيدته تتساقط بين المرأة والأرض، بين الحبّ والثورة، كان - كبطل قصيدته «أحمد الزعتر» - يمحو «الفارق اللفظي بين الصخر والتفاح، بين البندقية والغزالة». ثم ذهب بعيداً في صَقْل ملحميته وجمالية تعبيره الشعري. ومنذ «سرحان يشرب القهوة في الكافيتريا» كان التعبير الشعري يدخل في طورِ ثورةٍ جمالية تأخذهُ إلى أخرى، وكانت الملحمية تقارِبُ البذخ. عند منتصف السبعينيات من القرن الماضي، كان محمود يرفع طوابق معماره إلى الأعلى. سامقةٌ ملحميتُه في هذه اللحظة وفارعةُ الطول. تُطِلّ على ماضي الشعر العربي لتقرأه وتعيد جمعَه في نصوصٍ تركيبية تجاوزت فيها أصواتٌ ما جَمَعَهَا قبلهُ في القصيدِ إلاّ المتنبّي: غضبَ عمرو بن كلثوم وحِلْمَ الحارث بن حلِّزة، وصعلكةَ عروة بن الورد ونبوءةَ أمية بن أبي الصلت، ورشاقةَ أبي نوّاس وسخرية بشّار بن بُرد، وسوداوية أبي العلاء وفروسية أبي تمام. وإلى جوارهم نَفَسُ كافافي وأراغون وناظم حكمت وبدر شاكر السياب يتردد في أركان القصيدة. أما المتنبّي، فَمَا فارقَ الحفيدَ لحظةً في تجربة المخاض. هي اللحظة التي وُلدت فيها، في قلب بيروت، الأهرام الملحميّة الثلاثة: «أحمد الزعتر»، و»قصيدة بيروت»، و»مديح لظل العالي». كَتبتْ هذه اللحظةُ الشعرية الدرويشية تاريخَ ملحمةٍ إنسانية بجماليةٍ باذخة. الفلسطينيُّ بطلُ الملحمة وموضوعُها؛ الاقتلاعُ، الاغتراب، المنفى الداخلي، المعاناة، الموت، الأرض، الحبّ، المقاومة... مفرداتُها وأبراجُها والنوافذ التي يُطلّ منها الشاعر على الشّرطِ الإنسانيِّ التراجيديّ فيُبْصِر ما لا تُبْصِرُهُ العيون: أملاً يَخْرُج من ألم، وردةً تهزم شوكة، وطناً يتخَلَّق في مخيَّم، امرأةً تحْرُس البقاء، وجزمةً تفتح أفقاً. جبلُ الكرمل، حيفا، تل الزعتر، بيروت، صبرا... أمكنةُ القصيدة وساحاتُ الملحمة، والبطلُ ? الضحية واحدٌ. هو الفلسطينيُّ، هو العربيّ، هو الكونيّ: هو أحمد، هو العبدُ والمعبودُ والمَعْبَد، هو الذي يشْهَدْ: على الجريمة يَشْهد، على غربته عن النيل وبَرَدَى والحجاز يشهد، على قبضة الفدائي تلوّح للمودِّعين في ميناء بيروت، على الرحيل في أيلولَ الجديد يشهد. ويَشْهَدُ على وطنٍ صار حقيبة. تقرأ ملامح فلسطين في القصيدة. حين تُدَقِّق أكثر، تكتشف أنها اسْمٌ مستعارٌ للمعنى الإنسانيّ الجريح في هذا العصر، وأنك قد تصادفها في كلّ مكان بالعالم حلَّت به لعنةُ القياصرةِ الجُدُد. وكلّما أَمْعَنَتِ القصيدةُ في فلسطين، باتَتْ مساحةُ الكونيّ فيها أوسع. ومن حينها، بعد «مديح الظلّ العالي» أعني، سافرتِ القصيدة في البعيد وتدثَّرتْ بالكونيِّ أكثر فأكثر. أما الملحمية، فتركتْ مكاناً فسيحاً للمناجاة والتأمُّل العميق الذي يقاربُ الوجْدَ الصوفيّ. -3- خرجت المقاومة الفلسطينية من لبنان صيف العام 1982، وخرجت قصيدةُ محمود معها من بيئة التراجيديا الجماعية نحو مساحاتٍ من الذاتِ والحياةِ مهمَلة. لم تنقطع الصلةُ بين الخاصّ والعام في شعره، لكنَّ العامَّ ما عاد يُلْحَظ إلا من خلال الخاص. كان يسيراً على المرء أن يتبيَّن الوشائج بينهما من دون كبير عناء: الذاكرةُ المُثْقَلَة بالحنينِ إلى القرية والبيت والبئر والحصان والحشائش ووصايا حوريَّة الأمّ، وأصوات الرُّعاة ورائحة قهوة الصباح وتعاليم الأب تُلْقى على الطفل، والاستعادات المتكررة لأمكنة الطفولة ومحتوياتها، وعبق التاريخ المنبعث من أركان القصيدة... الخ، كل شيء يدلّ على العامِّ في نسيج الفرديِّ ويشهد له. ولم تكن لعبةُ محمود الشعرية، في هذه اللحظة من تاريخ قصيدته، أن ينسُجَ صِلَةَ انغمارٍ وتوحُّدٍ وتَمَاهٍ بين الفرديّ والجماعيّ، بين الأنا والمْشَتَرك، كي يَبُوحَ بفلسطينيته الخاصة ويدفَعَ بها إلى حيث تصير العنوان الذي تحته يُقْرأُ النصُّ الوجوديُّ الفلسطينيّ؛ كان يريد شيئاً آخر مختلفاً: أن يقول نفسَهُ كما هو مجرَّداً من أيّ تعيينٍ فوق إنسانيته الفردية. لكنه، وهو يحاولُ ما يُشبه المستحيل، يُدْرك أن تلك الإنسانية الفردية ليستً معطىً ميتافيزيقيّاً أو ميتاتاريخيّاً، ليست ماهيةً سابقةً للكينونة الاجتماعية؛ إنها كلُّ شيءٍ فيه يحْمله ويسْكُنُه: الطفولةُ، الأرض، المنفى، الأمل، الحسرة، الحلمُ الجَهِيض، سؤالُ الوجود، الذاكرة المكتنزة بالرموز... الخ. أنَّى للفردية الموحِشَة، إذن، أن تنتزع نفسَها من جوارها التاريخي! ربّما حاولتِ القصيدة الدرويشية، في حقبتها الباريسية بعد بيروت، أن تتخفَّف من الشرطِ الفلسطينيّ فيها بالمعنى المباشر - أي كموضوع - كي تنطلق أكثر نحو الكونيِّ والإنسانيّ. نجحت أحياناً، ولكن - في أحايين أخرى - لم يبارحها ذلك الشرط، ظل يسكُنها ويتلبَّسُها ويسيطر على بُوصَلَةِ الكلام والمعنى فيها. حتى حينما حاور الموت ذلك الحوار العميق، الصوفي والاستثنائي في جماليته، في خَالِِدَتِهِ «جِداريَّة»، داهمَتْ فلسطينُ خلوتَهُ وتسرَّبتْ إلى مفردات النصّ وروحه. غير أن محمود، الذي خبر تضاريس الشعر وشعاب التعبير، كان يُتْقن كيف يجعل فرديتَه تَطْفَحُ وتَفيض عن أيّ إطارٍ يُقيّدها أو يُعيّن حدود تعبيرها عن نفسها. منذ «ورد أقل» بدأ يملك أن يسيطر على صوته فيحمله على النطق بتلك الفردية، وصولاً إلى «لا تعتذر عمّا فعلت»؛ ينجح مرَّةً في ذلك كما في «سرير الغريبة»، ويقِل منسوبُ النجاح لديه في أخرى كما في «لماذا تركت الحصان وحيداً» من دون أن يَقِلَّ نظيرُ ذلك المنسوب في جمالية التعبير الشعري التي لم تَزِد إلاّ إشعاعاً من ديوانٍ إلى آخر. -4- يَقْبَل النصّ الشعريّ الدرويشي أن يُقْرَأ بما هو سيرة، سيرة وجودية، وسياسية، وثقافية،وإنسانية. منذ دواوينه الأولى («أوراق الزيتون»، «عاشق من فلسطين»، «آخر الليل»، «العصافير تموت في الجليل») وحتى مجموعته الشعرية الأخيرة التي صدرتْ بعد رحيله تحت عنوان «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»، تقدِّم قصيدتُه نفسَها كمدوَّنةٍ تَكْتُبُ تاريخاً شخصيّاً وجماعيّاً، سياسيّاً وثقافيّاً يَصْعُب إسقاط صفة الوثيقة عنه. هو نصٌّ وثيقة بأكثر من معنى وفي أكثر من اتجاه. في مِرْآته تَمْلك أن تقرأ تفاصيل صعود فكرةٍ كبرى في تجربة شعبٍ هو شعبُه؛ تُواكِبُ يومياتها في شعره: عنفوانَها وكبوتَها؛ تَصْحَبُهَا في مساءلةِ الشرط الفلسطيني وهاجس البقاء والكينونة مساءلةً يَصِل بها محمود إلى حدود التدقيق في أبجديات المشروع الوطني. وتملك أن تقرأ في مرآته تصويراً مشهديّاً لِلَّعْنَةِ السيزيفية وهي تنتقل من ضفاف الأسطوريّ إلى الواقعيّ لتأتي بصخرتها على الهيكل وتبدِّد ما ارتوى بالدّمِ والدّمع والعرق. تكتشف، كلما اقتربْتَ من النصّ أكثر، أنك لا محالة أمام وثيقة تاريخية محبَّرة بلغةٍ خالية من مفردات التاريخ والسَّرد والتدوين المألوفة؛ هي إلى علاقة «الجاهليِّ» بزمنه وبالأيام أقرب. تقدّم عن زمنها شهادة، فيها من التأمل والرؤيويَّة ما يرفعها إلى مقام الشهادة المكتوبة برحيق العقل والقلب. حينها، تُدْرِك أنك عنها لستَ في غَناء، وأن قراءتك للتراجيديا الفلسطينية المعاصرة لا تكتمل أو تستقيم من دونها. وهي ( قصيدتُهُ) تقدِّم نفسَها كسيرةٍ ذاتية للشاعر، تَرْوي الذاكرة وترْويها بما تتذكّر فتيْنَعُ أكثر. إن تبْغي من السرة المرْويّة ترجمةً شخصيةً للراوي، وجَدْتَ فيها فيْضاً من الإفادات عمَّا كانهُ منذ البدايات في بيئته الصغيرة: الأسرة والقرية، وعمَّا شكَّل وجدانَهُ ووعْيَهُ من حوادثَ وواقعات: الاغتصاب، النفي، التشرُّد، السجن، المقاومة... الخ. تقرأ في سِفْر القصيدة وجْهَهُ عارياً من المساحيق، تقرأ ذاتاً تأْبَى حراسة خبيئتِها؛ ذاتاً روَّضت نفسها على الاعتراف. يذهب الاعتراف إلى تفاصيل كثيرة لا يخشاها الشاعر ولا يعتذر عنها. وإن تَبْغي من السيرةِ روايةً عن ينابيع وعيه وروافد شعره، تكفيك القصيدةُ نفسُها لتُبْصِر كيف قطع وعيُهُ الشوطَ الطويل، ومن أيّ شعاب مَرَّ، وأيّ القُطوف قطف من شجر المعرفة، ومَنْ صادف من الشعراء والكتاب والأنبياء على الطريق. ففي القصيدة ما تنبِئ به: الرؤيةُ وتحوّلاتُها، الأسئلةُ وهواجسُها، الحساسيةُ الجمالية وتجريبيَّتُها، الشغف العنيف بالتمرُّد على نُظُم التعبير المُقْفَلة. تجد نفسك ، في النهاية، في غنًى عن أن تعرف عنه شيئاً خارج شعره، فهو والقصيدةُ واحد: يقولُها وتقُولُهُ ويتواطآن على كينونةٍ عصيَّةٍ على القسمةِ والتمييز. ثم إنها تقدِّمُ نفسها كسيرةٍ للثقافة العربية، وللقصيدة العربية، الحديثة. شعره يؤرّخ لمسيرة أفكار كبرى في كوننا الثقافي وجدتْ لنفسها صُوَراً من البَوْح بها في قصيدته: فكرة الالتزام، فكرة الثورة، الفكرة الوجودية، اليقين، اللاَّيقين. وقصيدتُهُ جرَّبتْ أن تناجيَ التاريخ وتستثمره، وأن تهجس بالسؤال الفلسفي وتُدمنَهُ، وأن تُفْرِدَ للسياسة شرفةً تُطِلُّ منها على الخيال وتُلْهِبُهُ. وقصيدتُه مَعْمَلٌ لتصنيع خامات القول الشعريّ العربي، ومصْهَرٌ لمدارسه. تَجُول بين جنباتها لِتَعْثُرَ على مَن تَعْرفهم: من «الجاهليِّ» إلى المتنبيّ إلى السيّاب إلى سعدي يوسف. وقد تجد أدونيس في مكانٍ ما من القصيدة تاركاً ما يَدُلُّ عليه في مقطع أو صورةٍ أو جُملةٍ. ولقد صَنَعَ محمود صوتَهُ الشعريَّ المتفرِّد من كيمياء ذابت فيها موادّ وخواصّ استقاها من ينابيع شعرية متعددة ظلت فيها رائحةُ المتنبيّ أَفْوَح وإنْ هو جَرَّب في العشرين عاماً الأخيرةَ أن يفتح النوافذ على قصيدته أكثر كي تنال من التَّهْوية نصيباً أوفر. - 5 - تاريخُ قصيدةِ محمود هو، من وجْهٍ آخر، تاريخ أمكنتها. وُلِدَتِ القصيدةُ في مكانٍ، ونَمَتْ في مكان، وأينعتْ في أمكنة. لم يكنِ المكان محايداً أمام تجربة القصيدة. لم يمنحها جغرافيا ترابية كي تقيم فيها كما يقيم العابرون. كان المكانُ لها رَحِماً، تربةً ازْدُرِعتْ فيها. كان ماءَها وشمسَها وهواءَها. ولقد حملتْ خواصَّهُ. وكلما تغيَّر المكانُ أو تعدَّد، أضافت إلى الخواص الموروثة أخرى مكتسبة. ظلتِ القصيدةُ تقولُ مكانَها بطريقتها، تَسْتَعْذِبُهُ وتذيقُكَ طَعمَهُ. وكان على كل مكانٍ أن يكون لحظةً في سيرةِ القصيدة، زمناً من أزمنتها. في حيفا، نضجت صُورةُ المكان الأول ( قرية البروة في الجليل المحتل)، واغتنتِ الصورة بفضاءٍ جديد قدَّم للشاعر ملاذاً جديداً لتهريب المعنى المحاصَر. حيفا رَحمُ القصيدة الأوّل. مساحةٌ للوعي والُّرشد والخروج إلى تجربة الالتزام: في الشعر والحزب والحركة الوطنية. بيئةُ الممانعة الوطنية والثقافية في حيفا وفلسطين أنتجتْ قصيدةً حملتْ معاني الممانعة كافة: التمسُّك بالأرض والهوية والتاريخ والذاكرة والقبض على اللغة: معدن الكينونة النفيس، بالنواجذ. تدفقت هذه المعاني جميعاً في دواوينه الأولى («أوراق الزيتون»، «عاشق من فلسطين»، «آخر الليل»، «العصافير تموت في الجليل»، «حبيبتي تنهض من يومها»، «محاولة رقم 7»...) حتى لا تكاد تُبْصر الفارقَ بين الشاعر والمكان. وكان على قصيدةٍ جَرُؤَتْ على السجَّان أن تدفعَ الثمن من حريتها، فَسَاقَها الحاكم العسكري إلى السجن مرات عديدة. وكلما سيقَ محمود إلى سجْنٍ، أفرجَتِ القصيدةُ عن مفاتنها أكثر. كأنها لا تُزَفُّ بهيَّة إلا كلّما ذكَّرها السّجّانُ بوجوده. كأنها قُدَّتْ من الإصرار والتحدي. ولقد ظلت قصائد محمود، من مكانه الحيفاوي، نافذةً أطل منها العربيُّ على الفلسطينيّ داخل القَفَص. بل لعلها كادت تكون النافدة الأشرع ( دون أن ننسى روايات إميل حبيبي) التي أوسَعَتْ مساحةً لمعرفة ما يجري في الداخل الفلسطيني - سياسياً وثقافياً - في سنوات الستينيات حيث كان الوعيُ العربيّ ما يزال بارد الصلة بمن بقي على أرضه من فلسطينيِّي الجليل والمثلّث والنقب! ولا أراني أتزيَّد حين أقول إن قصيدةً واحدةً مثل «سجِّلْ أنا عربيّ» كانت وحدها تكفي كي تمسح الغشاوة عن ملايين العرب فتُعْلِمُهُم بمَنْ هُمْ أولئك الذين ما فارقوا أرضَهم وإن أُجبروا على حمل بطاقة «هويةٍ» تزوِّر هويتهم، ومن أيّ معدنٍ نفيسٍ هُم. قرَّر محمود أن يغادر حيفا وفلسطين إلى جوارهما العربي. قضى فترةً في القاهرة ثم شدَّ الرحيل إلى بيروت: المكان الثاني الذي تفتقت فيه عبقريةُ الشعر. وُلِدَت القصيدةُ ولادتَها الثانية في هذا المكان الفذّ. كان عليها أن تَمْتَحَ من معينِهِ وتغتني أكثر. كان عليها أيضاً أن تستحق حقَّ الإقامةِ في مدينةٍ غيرِ عاديةٍ ولا شبيهَ لها في الدور والمكانة. عاصمةُ المقاومة والثقافة والحرية كانت بيروتُ حينَها (وما زالت). ولأن الشاعر أتى المدينةَ في لحظةِ عنفوانٍ ثقافي، وحيث صخبُ التجديد والتجريب والثورة في التعبير يَعْلُو، كان على قصيدته أن تتمرّن على التفاعل مع حساسيات جمالية جديدة من دون أن تفقد نكهتها التي حملتْها بعيداً إلى الآفاق. في هذا المكان العذب، تدفَّقَ شَهْدُ القصيدة وأَفْرَجَ محمود عن طاقةٍ في التعبير مذهلة. كأنه كان ينتظر بيروت كي يفجّر تلك الطاقة المخزونة؛ كي يشارك الثورةَ ثورتَها بثورته الخاصة: ثورة الشعر على الشعر. ولقد نجح محمود في أن يصنع لغةً في التعبير الشعري لم يُشْبِهْهُ فيها أحدٌ ولا ضارعَهُ. مفرداتُها مصقولة بعناية وذات خصوصية حادة؛ وصُورُهَا مزيجٌ من التشكيل التجريدي والسَّرد الواقعي والفانتازيا. أَنْجبتْ لغتُهُ بعضاً من أرفع الملاحم في تاريخ الشعر العربي سنوات السبعينيات ومطالع الثمانينيات مثل «أحمد الزعتر»، و «قصيدة الأرض» و «قصيدة بيروت»، و «مديح الظل العالي». وما ساوم على إيقاعيةِ القصيدة حتى وهو يأخذها إلى الثورة على المألوف في الكتابة الشعرية. باريس كانت مكان القصيدة الثالث. أقام فيها عشراً من السنين (1985 - 1995). ارتفع شعورُهُ بالمنفى أكثر، وبفرديته أكثر، لكن منسوب الجمال في القصيدة بات أعلى. أغْرَتْهُ باريس بالخلوة، أطلقت في دمه مِلْحَ التأمُّل. عاد إلى الماضي البعيد: إلى طفولته، إلى الأرض، إلى شغفٍ خرافيٍّ بالطبيعة كشف عن موسوعيةٍ مذهلة في معرفة أسماء النباتات والأشجار والحشائش والطير والورود. كل شيء حيٍّ فيه وفي القصيدة كان يتفتّق. حتى القلب الذي مزقتْهُ أدوات الجراحة في المستشفى اتَّسَع لمزيدٍ من الحبّ، لنساءٍ رسمتِ القصيدةُ ملامحهن وقسماتهن فبدَوْنَ وقد خرجْن من الأسطورة يهزمْنَ الرجولة ويطلقن ضحكات العبث الحُرّ. قَالَ الحبَّ بطريقةٍ تَقْطُرُ سحراً وعذوبة وأنتج أشهى قصائده في تاريخ الشعر العربي: «شتاء ريتا الطويل» مثالاً وقصائد أخرى من «سرير الغريبة». وفي باريس قالتِ القصيدةُ أسرارَها. رام الله - عمّان كانتَا مكان القصيدة الرابع: أولاهُما أكثر. لم يكن محمود ينتظر عودةً منقوصةً إلى الوطن؛ لكنه عاد ولم يَعُد. عَادَ لأن نداء العودة حاصَرَهُ وحاصَرَ احتجاجه على «اتفاق أوسلو»، ولم يكن يَسْطِعُ أن يقاوم إغراء فلسطين بعد تجربة جارحةٍ مع المنفى. ولم يَعُدْ لأن فلسطينَهُ كانت ما تزال بعيدة: فلسطينَهُ التي عاش فيها وفلسطينَهُ التي صَنعَها في شعره. وهل كان يَسْطِعُ أن يَرْدم الفرق بين الاثنتيْن؟ غير أن البعض القليل من فلسطين الذي بقيَ له - ولشعبه - مكاناً يقيم فيه كان أفضل عنده من مكابدة الشعور الدائم بالاقتلاع والمنفى. لعلّ تلك القطعة الصغيرة من الأرض ترفع عنه قليلاً عبئ الشعور بالغربة بعيداً عن الوطن. سألتُهُ مرةً: «كيف وجدْتَ فلسطين يا محمود بعد العودة إليها؟» أجابني على الفور: «فلسطينُ من بعيد أبْهى». إذن، هو المنفى من جديدٍ يداخِلُهُ ويسكُنُه وهو هناك في بعض الوطن. حين كان يضيق بهذا الشعور المفاجئ، يهرُب إلى عمّان، ومنها إلى أقاصي الدنيا. لا فرق، إذن، بين المنفيَيْن: المنفى عن الوطن والمنفى في الوطن! في فلسطين مرةً أخرى انتكست حالةُ القلب. لم تكن قد مرت على العملية الجراحية الأولى أكثر من أربعة عشر عاماً. كان على قلبه أن يُفْتَح مرةً أخرى في غرفة جراحية بباريس. توقّف القلب أثناء الجراحة وأُعلنت الوفاة. مات الشاعر لدقائق ثم عاد إلى الحياة. وخرج من تجربة الموت، في الهزيع الأخير من القرن الماضي، مسكوناً بسؤال الوجود. خاضَ أعمق حوارٍ فلسفي مع الموت في «جدارية». لو لم يكن محمود قد كتب في حياته سوى هذه القصيدة/الديوان، فقد كَتَبَ كل شيء وأوصل الشعر إلى الذروة. ومن حينها (سنة 2000)، دخل الشاعر في سباق محموم مع الموت. كان يريد أن يقول كل شيء قبل أن يزورَهُ ثانية ويصطحبه معه إلى البعيد. وبين رام الله وعمّان كانتِ الاعتكافةُ الشعرية (والنثرية) تأخذهُ إلى إنتاج غزير. كرَّتْ سبحة أعماله ? دواوين ونصوص نثرية ? بإيقاعٍ استثنائي: «حالة حصار»، «لا تعتذر عمّا فعلت»، «كزهر اللوز أو أبعد»، «في حضرة الغياب»، «أثر الفراشة»، «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي» (وقد صدر الأخير بعد رحيله). وفي كل نصٍّ، كان محمود يعلن ميلاد قصيدةٍ مختلفة، بنكهة جديدة. ظل وفياً لطريقةٍ لم يَحِدْ عنها: الثورةُ الدائمة على المألوف في التعبير الشعري. لا، ظل وفياً لمعنى الخَلْق والإبداع: مَنْ لَمْ يسْطِع أن يقدّم جديداً، من الأفضل أن يخلد إلى الصمت. ومحمود من طينة الشعراء الكبار، لا يعرف غير أن يتدفَّق. خرجتِ القصيدةُ من فلسطين وعادتْ إلى فلسطين. وفي رحلةِ العودة، تألقتْ أكثر في المكان الذي يقولُها وتقولُهُ. - 6 - لم يشغف محمود بالكتابة النثرية متأخراً، كانت شهوتَه منذ البدايات وقدَّم فيها سبائِكَ من نصوصٍ لَفَتَتِ الانتباهَ مبكراً إلى نَفَسِه السرديّ وجمالياتِ التعبير المُرسل. أغْرَتْهُ النثريةُ الخصبة بإخراجها من الحيّز الأدبي وتجريبها في كتابة النصّ السياسي في سنوات السبعينيات والثمانينيات حين أشرف على إدارة بعض أكثر المجلات السياسية والثقافية رصانةً («شؤون فلسطينية»، «الكرمل»). ومحمود - الذي حرَّر خطاب ياسر عرفات في الأممالمتحدة (1974) ونصّ «إعلان الاستقلال» في المجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر (1988) - يُتقن جيداً سبْك النصّ السياسيّ على ما نقرأ ونلمس في افتتاحيات مجلة «الكرمل». لكنه فوق الإتقان يُضفي عليه نكهة خاصة: يحرّرُهُ من جفافه الإصلاحي وتقريريَّته ويضُخُّ فيه جماليات التعبير الغنيّ، يُضَمّخُهُ بلغةِ التخييل، فيقدِّم قطعاً من الأدب السياسي الرفيع تخْتال رشاقةً وجمالاً حتى لكأنك تنسى أن النصّ سياسيٌّ، وإن تذكّرْتَ ذلك خِلْتَ كما لو أن لغةَ السياسةِ بهذا القدرِ من البهاء الذي لم نتوقّع. كان شاعراً وأديباً ولم يكن سياسياً بالمعنى الاحترافي (ولو أن وعيَهُ السياسي من الرّفعةِ والعمقِ والرقيّ بحيث يعلو على وعي السياسيين). ولأنه كذلك، يَتْرك بصمة الشاعر والأديب على النصّ السياسي. وكم ارتفع مقامُ هذا النصّ في التداوُل، فلقد خرج من مفردات شاعر، ومن حساسية مُبْدع كانت كنوز اللسان العربي تنقاد لهُ انقياداَ. سَيِّدُ القصيدةِ العربية كتب نثراً منذ البدايات، لكنه نثرٌ لا يُشْبهُ النثرَ: نَفَخَ فيه روحَ الشعر وأعاد تأسيس معناه. لم يسْلك في ذلك طريقة البيانيين الكبار (ابن قتيبة، الجاحظ، أبو حيان التوحيدي)، ولا أغرتْهُ مُنَمْنماتُ اللفظ عن عبد الحميد الكاتب وعبد الله بن المقفع، وقطعاً لم تُغْرِهِ بدائِعُ السَّبْكِ في مقامات الحريري وبديع الزمان الهمذاني. شقَّ لنثرهِ سبيلاً ما سَلَكهُ غيرُه: أدخل الصورة الشعرية في البناء النثري المُرسل فأنتج نمطاً جديداً من الكتابة. في مرحلةٍ ثانية - وكان ذلك بدءاً من ديوان «أحد عشر كوكباً » (1992) وخاصة في ديوان «لماذا تركت الحصان وحيداً» (1995) ? زجَّ بالنثر في الشعر، ورَّطَهُ في نسيج القصيدة، وباتت هذه أكثر انسيابيةً وأرحبَ في البناء السَّرديّ. لكن محموداً ما سَقَطَ في ما أَبَى تجربتهُ يوماً: قصيدة النثر؛ فهذه ما اعترفَ بها لا ارتضى أن يجد لها مَحَلاً في مملكة الشعر وظلَّت تُحْفِظُ حفيظَته. كان يجاهر برأيه فيها في السابق، وحين لم يعد يَسْطِعُ المجاهرةَ - رحمةً بحساسية كتّاب قصيدة النثر - أصبح يُعفي نفسَه من الحديث فيها إنْ طُلب رأيُه. في مرحلةٍ ثالثة، استدرجَهُ النثرُ إليه ثانية فاستجاب؛ لعلّه عثر فيه على مساحاتٍ من الحرية أوسع. وهو قطعاً ذهب في حريته في الكتابة النثرية إلى أبعد أفقٍ ممكن، وقدّم له النثر إمكانات للتعبير لا تَهْبِط معدَّلاً عن الإمكان الشعري. حافظ على شعرية الكتابة النثرية دافعاً بالنّفَس السرديّ بعيداً: إلى الحدود التي تحرِّرُ اللغة من مرجعية الصورة الشعرية والبناء الإيقاعي، لكنه ? في الوقتِ عينِه ? حَطََم الحدود الفاصلة بين الجنسيْن لِيُنْتِجَ نوعاً من الكتابة عصيّاً على التصنيف بحيث يَصْعُبُ العثورُ على نَسَبِهِ في جينيالوجيا الشعر أو النثر. ولقد تحرَّى محمود الدقّة وأصابَ التعيين حين سمَّى «في حضرة الغياب» نصّاً. فهو كذلك نصٌّ بلا زيادةٍ ولا نقصان، نهْرٌ صبَّت فيه روافدُ الشعر والنثر فجرى في مجراهُ الجديد حاملاً معه الخصائصَ كلَّها بعد أن انصهرتْ في تركيبةٍ أعلى. لقد أوصل محمود الكتابة المفتوحة إلى ذروتها في هذا العمل («في حضرة الغياب» (2006)) ورَمَى بالتحدي في وجه الثقافة العربية. لم تكتهل القصيدةُ العربية حين بدأ محمود يكتب شعراً؛ لكن الخشيةَ من أنها قد تكتهل بعد أن توقف عن كتابته. *** من باب تَعْزية النفس أن يقول المرء، في مثل هذه الحال، إنَّ محموداً لم يَرْحل لأن تراثَهُ باقٍ فينا وفي الثقافة العربية؛ فلقد كان رحيلُهُ فاجعةً للثقافة والقصيدة لا توصَف. وهي (فاجعة) مضاعَفَة لأن رحيلَهُ حَصل في لحظ التألُّق الاستثنائي، وحيث كان يقود ثورةً في التعبير الشعري غير مسبوقة منذ ثور بدر شاكر السياب قبل خمسين عاماً وأدونيس منذ أربعين عاماً. وبرحيل حفيد المتنبي، تدخل القصيدة العربية فترةً من الحِداد - كما كتبْتُ يوماً - ليس يُعْلَم متى تنتهي. فالرجل ما كان شاعراً كبيراً فحسب، كان الشاعر الذي زوَّجَ المستحيل بالممكن في الشعر فأنجب لغةً شعريةً ممكنةً لكنها تقارب المستحيل. لغة البساطة المستحيلة هي؛ تمرّ بحَدَاءِ اليوميّ وتَمْتح من مفرداته ثم ترتفع إلى المجرّد فتعلو على الإمكان. عذبة كعذوبة صوتِهِ في الإلقاء، وحارَّة كحرارة الأرض في صدره. كان يعتقد أن وجودَهُ، حياتَهُ، محضُ حادثة سيْرٍ في تاريخ العدم. لكنه أحبَّ الحياة وبَادَلَها هديَّتَها له بأجمل باقةِ شعر. وكان يعتقد أن الصدفةَ وحدها قرّرتْ مصيره: بالصدفةِ جاء إلى العالم؛ بالصدفة عاش؛ بالصدفة كان شاعراً. إنها الوجه الآخر لحادثة السير الوجودية في ملكوت العدم. لكن محمود لم يُدرك أن موتَهُ لم يكن حادثة سيْرٍ مؤسِفة لقصيدته فحسب. لقد قضى فيها كثيرون، وقضتْ فيها أشياءٌ كثيرة، وقال فيها العدمُ ما قال... ويا محمود، «على هذه الأرضِ ما يستحق الحياة»: أن نقرأَ شِعْرَك. كَتبتْ هذه اللحظةُ الشعرية الدرويشية تاريخَ ملحمةٍ إنسانية بجماليةٍ باذخة. الفلسطينيُّ بطلُ الملحمة وموضوعُها؛ الاقتلاعُ، الاغتراب، المنفى الداخلي، المعاناة، الموت، الأرض، الحبّ، المقاومة... مفرداتُها وأبراجُها والنوافذ التي يُطلّ منها الشاعر على الشّرطِ الإنسانيِّ التراجيديّ فيُبْصِر ما لا تُبْصِرُهُ العيون: أملاً يَخْرُج من ألم، وردةً تهزم شوكة، وطناً يتخَلَّق في مخيَّم، امرأةً تحْرُس البقاء، وجزمةً تفتح أفقاً. جبلُ الكرمل، حيفا، تل الزعتر، بيروت، صبرا... أمكنةُ القصيدة وساحاتُ الملحمة، والبطلُ ? الضحية واحدٌ. هو الفلسطينيُّ، هو العربيّ، هو الكونيّ: هو أحمد، هو العبدُ والمعبودُ والمَعْبَد، هو الذي يشْهَدْ: على الجريمة يَشْهد، على غربته عن النيل وبَرَدَى والحجاز يشهد، على قبضة الفدائي تلوّح للمودِّعين في ميناء بيروت، على الرحيل في أيلولَ الجديد يشهد. ويَشْهَدُ على وطنٍ صار حقيبة. تقرأ ملامح فلسطين في القصيدة. حين تُدَقِّق أكثر، تكتشف أنها اسْمٌ مستعارٌ للمعنى الإنسانيّ الجريح في هذا العصر، وأنك قد تصادفها في كلّ مكان بالعالم حلَّت به لعنةُ القياصرةِ الجُدُد. وكلّما أَمْعَنَتِ القصيدةُ في فلسطين، باتَتْ مساحةُ الكونيّ فيها أوسع. ومن حينها، بعد «مديح الظلّ العالي» أعني، سافرتِ القصيدة في البعيد وتدثَّرتْ بالكونيِّ أكثر فأكثر. أما الملحمية، فتركتْ مكاناً فسيحاً للمناجاة والتأمُّل العميق الذي يقاربُ الوجْدَ الصوفيّ. -3- خرجت المقاومة الفلسطينية من لبنان صيف العام 1982، وخرجت قصيدةُ محمود معها من بيئة التراجيديا الجماعية نحو مساحاتٍ من الذاتِ والحياةِ مهمَلة. لم تنقطع الصلةُ بين الخاصّ والعام في شعره، لكنَّ العامَّ ما عاد يُلْحَظ إلا من خلال الخاص. كان يسيراً على المرء أن يتبيَّن الوشائج بينهما من دون كبير عناء: الذاكرةُ المُثْقَلَة بالحنينِ إلى القرية والبيت والبئر والحصان والحشائش ووصايا حوريَّة الأمّ، وأصوات الرُّعاة ورائحة قهوة الصباح وتعاليم الأب تُلْقى على الطفل، والاستعادات المتكررة لأمكنة الطفولة ومحتوياتها، وعبق التاريخ المنبعث من أركان القصيدة... الخ، كل شيء يدلّ على العامِّ في نسيج الفرديِّ ويشهد له. ولم تكن لعبةُ محمود الشعرية، في هذه اللحظة من تاريخ قصيدته، أن ينسُجَ صِلَةَ انغمارٍ وتوحُّدٍ وتَمَاهٍ بين الفرديّ والجماعيّ، بين الأنا والمْشَتَرك، كي يَبُوحَ بفلسطينيته الخاصة ويدفَعَ بها إلى حيث تصير العنوان الذي تحته يُقْرأُ النصُّ الوجوديُّ الفلسطينيّ؛ كان يريد شيئاً آخر مختلفاً: أن يقول نفسَهُ كما هو مجرَّداً من أيّ تعيينٍ فوق إنسانيته الفردية. لكنه، وهو يحاولُ ما يُشبه المستحيل، يُدْرك أن تلك الإنسانية الفردية ليستً معطىً ميتافيزيقيّاً أو ميتاتاريخيّاً، ليست ماهيةً سابقةً للكينونة الاجتماعية؛ إنها كلُّ شيءٍ فيه يحْمله ويسْكُنُه: الطفولةُ، الأرض، المنفى، الأمل، الحسرة، الحلمُ الجَهِيض، سؤالُ الوجود، الذاكرة المكتنزة بالرموز... الخ. أنَّى للفردية الموحِشَة، إذن، أن تنتزع نفسَها من جوارها التاريخي! ربّما حاولتِ القصيدة الدرويشية، في حقبتها الباريسية بعد بيروت، أن تتخفَّف من الشرطِ الفلسطينيّ فيها بالمعنى المباشر - أي كموضوع - كي تنطلق أكثر نحو الكونيِّ والإنسانيّ. نجحت أحياناً، ولكن - في أحايين أخرى - لم يبارحها ذلك الشرط، ظل يسكُنها ويتلبَّسُها ويسيطر على بُوصَلَةِ الكلام والمعنى فيها. حتى حينما حاور الموت ذلك الحوار العميق، الصوفي والاستثنائي في جماليته، في خَالِِدَتِهِ «جِداريَّة»، داهمَتْ فلسطينُ خلوتَهُ وتسرَّبتْ إلى مفردات النصّ وروحه. غير أن محمود، الذي خبر تضاريس الشعر وشعاب التعبير، كان يُتْقن كيف يجعل فرديتَه تَطْفَحُ وتَفيض عن أيّ إطارٍ يُقيّدها أو يُعيّن حدود تعبيرها عن نفسها. منذ «ورد أقل» بدأ يملك أن يسيطر على صوته فيحمله على النطق بتلك الفردية، وصولاً إلى «لا تعتذر عمّا فعلت»؛ ينجح مرَّةً في ذلك كما في «سرير الغريبة»، ويقِل منسوبُ النجاح لديه في أخرى كما في «لماذا تركت الحصان وحيداً» من دون أن يَقِلَّ نظيرُ ذلك المنسوب في جمالية التعبير الشعري التي لم تَزِد إلاّ إشعاعاً من ديوانٍ إلى آخر. -4- يَقْبَل النصّ الشعريّ الدرويشي أن يُقْرَأ بما هو سيرة، سيرة وجودية، وسياسية، وثقافية،وإنسانية. منذ دواوينه الأولى («أوراق الزيتون»، «عاشق من فلسطين»، «آخر الليل»، «العصافير تموت في الجليل») وحتى مجموعته الشعرية الأخيرة التي صدرتْ بعد رحيله تحت عنوان «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»، تقدِّم قصيدتُه نفسَها كمدوَّنةٍ تَكْتُبُ تاريخاً شخصيّاً وجماعيّاً، سياسيّاً وثقافيّاً يَصْعُب إسقاط صفة الوثيقة عنه. هو نصٌّ وثيقة بأكثر من معنى وفي أكثر من اتجاه. في مِرْآته تَمْلك أن تقرأ تفاصيل صعود فكرةٍ كبرى في تجربة شعبٍ هو شعبُه؛ تُواكِبُ يومياتها في شعره: عنفوانَها وكبوتَها؛ تَصْحَبُهَا في مساءلةِ الشرط الفلسطيني وهاجس البقاء والكينونة مساءلةً يَصِل بها محمود إلى حدود التدقيق في أبجديات المشروع الوطني. وتملك أن تقرأ في مرآته تصويراً مشهديّاً لِلَّعْنَةِ السيزيفية وهي تنتقل من ضفاف الأسطوريّ إلى الواقعيّ لتأتي بصخرتها على الهيكل وتبدِّد ما ارتوى بالدّمِ والدّمع والعرق. تكتشف، كلما اقتربْتَ من النصّ أكثر، أنك لا محالة أمام وثيقة تاريخية محبَّرة بلغةٍ خالية من مفردات التاريخ والسَّرد والتدوين المألوفة؛ هي إلى علاقة «الجاهليِّ» بزمنه وبالأيام أقرب. تقدّم عن زمنها شهادة، فيها من التأمل والرؤيويَّة ما يرفعها إلى مقام الشهادة المكتوبة برحيق العقل والقلب. حينها، تُدْرِك أنك عنها لستَ في غَناء، وأن قراءتك للتراجيديا الفلسطينية المعاصرة لا تكتمل أو تستقيم من دونها. وهي ( قصيدتُهُ) تقدِّم نفسَها كسيرةٍ ذاتية للشاعر، تَرْوي الذاكرة وترْويها بما تتذكّر فتيْنَعُ أكثر. إن تبْغي من السرة المرْويّة ترجمةً شخصيةً للراوي، وجَدْتَ فيها فيْضاً من الإفادات عمَّا كانهُ منذ البدايات في بيئته الصغيرة: الأسرة والقرية، وعمَّا شكَّل وجدانَهُ ووعْيَهُ من حوادثَ وواقعات: الاغتصاب، النفي، التشرُّد، السجن، المقاومة... الخ. تقرأ في سِفْر القصيدة وجْهَهُ عارياً من المساحيق، تقرأ ذاتاً تأْبَى حراسة خبيئتِها؛ ذاتاً روَّضت نفسها على الاعتراف. يذهب الاعتراف إلى تفاصيل كثيرة لا يخشاها الشاعر ولا يعتذر عنها. وإن تَبْغي من السيرةِ روايةً عن ينابيع وعيه وروافد شعره، تكفيك القصيدةُ نفسُها لتُبْصِر كيف قطع وعيُهُ الشوطَ الطويل، ومن أيّ شعاب مَرَّ، وأيّ القُطوف قطف من شجر المعرفة، ومَنْ صادف من الشعراء والكتاب والأنبياء على الطريق. ففي القصيدة ما تنبِئ به: الرؤيةُ وتحوّلاتُها، الأسئلةُ وهواجسُها، الحساسيةُ الجمالية وتجريبيَّتُها، الشغف العنيف بالتمرُّد على نُظُم التعبير المُقْفَلة. تجد نفسك ، في النهاية، في غنًى عن أن تعرف عنه شيئاً خارج شعره، فهو والقصيدةُ واحد: يقولُها وتقُولُهُ ويتواطآن على كينونةٍ عصيَّةٍ على القسمةِ والتمييز. ثم إنها تقدِّمُ نفسها كسيرةٍ للثقافة العربية، وللقصيدة العربية، الحديثة. شعره يؤرّخ لمسيرة أفكار كبرى في كوننا الثقافي وجدتْ لنفسها صُوَراً من البَوْح بها في قصيدته: فكرة الالتزام، فكرة الثورة، الفكرة الوجودية، اليقين، اللاَّيقين. وقصيدتُهُ جرَّبتْ أن تناجيَ التاريخ وتستثمره، وأن تهجس بالسؤال الفلسفي وتُدمنَهُ، وأن تُفْرِدَ للسياسة شرفةً تُطِلُّ منها على الخيال وتُلْهِبُهُ. وقصيدتُه مَعْمَلٌ لتصنيع خامات القول الشعريّ العربي، ومصْهَرٌ لمدارسه. تَجُول بين جنباتها لِتَعْثُرَ على مَن تَعْرفهم: من «الجاهليِّ» إلى المتنبيّ إلى السيّاب إلى سعدي يوسف. وقد تجد أدونيس في مكانٍ ما من القصيدة تاركاً ما يَدُلُّ عليه في مقطع أو صورةٍ أو جُملةٍ. ولقد صَنَعَ محمود صوتَهُ الشعريَّ المتفرِّد من كيمياء ذابت فيها موادّ وخواصّ استقاها من ينابيع شعرية متعددة ظلت فيها رائحةُ المتنبيّ أَفْوَح وإنْ هو جَرَّب في العشرين عاماً الأخيرةَ أن يفتح النوافذ على قصيدته أكثر كي تنال من التَّهْوية نصيباً أوفر. - 5 - تاريخُ قصيدةِ محمود هو، من وجْهٍ آخر، تاريخ أمكنتها. وُلِدَتِ القصيدةُ في مكانٍ، ونَمَتْ في مكان، وأينعتْ في أمكنة. لم يكنِ المكان محايداً أمام تجربة القصيدة. لم يمنحها جغرافيا ترابية كي تقيم فيها كما يقيم العابرون. كان المكانُ لها رَحِماً، تربةً ازْدُرِعتْ فيها. كان ماءَها وشمسَها وهواءَها. ولقد حملتْ خواصَّهُ. وكلما تغيَّر المكانُ أو تعدَّد، أضافت إلى الخواص الموروثة أخرى مكتسبة. ظلتِ القصيدةُ تقولُ مكانَها بطريقتها، تَسْتَعْذِبُهُ وتذيقُكَ طَعمَهُ. وكان على كل مكانٍ أن يكون لحظةً في سيرةِ القصيدة، زمناً من أزمنتها. في حيفا، نضجت صُورةُ المكان الأول ( قرية البروة في الجليل المحتل)، واغتنتِ الصورة بفضاءٍ جديد قدَّم للشاعر ملاذاً جديداً لتهريب المعنى المحاصَر. حيفا رَحمُ القصيدة الأوّل. مساحةٌ للوعي والُّرشد والخروج إلى تجربة الالتزام: في الشعر والحزب والحركة الوطنية. بيئةُ الممانعة الوطنية والثقافية في حيفا وفلسطين أنتجتْ قصيدةً حملتْ معاني الممانعة كافة: التمسُّك بالأرض والهوية والتاريخ والذاكرة والقبض على اللغة: معدن الكينونة النفيس، بالنواجذ. تدفقت هذه المعاني جميعاً في دواوينه الأولى («أوراق الزيتون»، «عاشق من فلسطين»، «آخر الليل»، «العصافير تموت في الجليل»، «حبيبتي تنهض من يومها»، «محاولة رقم 7»...) حتى لا تكاد تُبْصر الفارقَ بين الشاعر والمكان. وكان على قصيدةٍ جَرُؤَتْ على السجَّان أن تدفعَ الثمن من حريتها، فَسَاقَها الحاكم العسكري إلى السجن مرات عديدة. وكلما سيقَ محمود إلى سجْنٍ، أفرجَتِ القصيدةُ عن مفاتنها أكثر. كأنها لا تُزَفُّ بهيَّة إلا كلّما ذكَّرها السّجّانُ بوجوده. كأنها قُدَّتْ من الإصرار والتحدي. ولقد ظلت قصائد محمود، من مكانه الحيفاوي، نافذةً أطل منها العربيُّ على الفلسطينيّ داخل القَفَص. بل لعلها كادت تكون النافدة الأشرع ( دون أن ننسى روايات إميل حبيبي) التي أوسَعَتْ مساحةً لمعرفة ما يجري في الداخل الفلسطيني - سياسياً وثقافياً - في سنوات الستينيات حيث كان الوعيُ العربيّ ما يزال بارد الصلة بمن بقي على أرضه من فلسطينيِّي الجليل والمثلّث والنقب! ولا أراني أتزيَّد حين أقول إن قصيدةً واحدةً مثل «سجِّلْ أنا عربيّ» كانت وحدها تكفي كي تمسح الغشاوة عن ملايين العرب فتُعْلِمُهُم بمَنْ هُمْ أولئك الذين ما فارقوا أرضَهم وإن أُجبروا على حمل بطاقة «هويةٍ» تزوِّر هويتهم، ومن أيّ معدنٍ نفيسٍ هُم. قرَّر محمود أن يغادر حيفا وفلسطين إلى جوارهما العربي. قضى فترةً في القاهرة ثم شدَّ الرحيل إلى بيروت: المكان الثاني الذي تفتقت فيه عبقريةُ الشعر. وُلِدَت القصيدةُ ولادتَها الثانية في هذا المكان الفذّ. كان عليها أن تَمْتَحَ من معينِهِ وتغتني أكثر. كان عليها أيضاً أن تستحق حقَّ الإقامةِ في مدينةٍ غيرِ عاديةٍ ولا شبيهَ لها في الدور والمكانة. عاصمةُ المقاومة والثقافة والحرية كانت بيروتُ حينَها (وما زالت). ولأن الشاعر أتى المدينةَ في لحظةِ عنفوانٍ ثقافي، وحيث صخبُ التجديد والتجريب والثورة في التعبير يَعْلُو، كان على قصيدته أن تتمرّن على التفاعل مع حساسيات جمالية جديدة من دون أن تفقد نكهتها التي حملتْها بعيداً إلى الآفاق. في هذا المكان العذب، تدفَّقَ شَهْدُ القصيدة وأَفْرَجَ محمود عن طاقةٍ في التعبير مذهلة. كأنه كان ينتظر بيروت كي يفجّر تلك الطاقة المخزونة؛ كي يشارك الثورةَ ثورتَها بثورته الخاصة: ثورة الشعر على الشعر. ولقد نجح محمود في أن يصنع لغةً في التعبير الشعري لم يُشْبِهْهُ فيها أحدٌ ولا ضارعَهُ. مفرداتُها مصقولة بعناية وذات خصوصية حادة؛ وصُورُهَا مزيجٌ من التشكيل التجريدي والسَّرد الواقعي والفانتازيا. أَنْجبتْ لغتُهُ بعضاً من أرفع الملاحم في تاريخ الشعر العربي سنوات السبعينيات ومطالع الثمانينيات مثل «أحمد الزعتر»، و «قصيدة الأرض» و «قصيدة بيروت»، و «مديح الظل العالي». وما ساوم على إيقاعيةِ القصيدة حتى وهو يأخذها إلى الثورة على المألوف في الكتابة الشعرية. باريس كانت مكان القصيدة الثالث. أقام فيها عشراً من السنين (1985 - 1995). ارتفع شعورُهُ بالمنفى أكثر، وبفرديته أكثر، لكن منسوب الجمال في القصيدة بات أعلى. أغْرَتْهُ باريس بالخلوة، أطلقت في دمه مِلْحَ التأمُّل. عاد إلى الماضي البعيد: إلى طفولته، إلى الأرض، إلى شغفٍ خرافيٍّ بالطبيعة كشف عن موسوعيةٍ مذهلة في معرفة أسماء النباتات والأشجار والحشائش والطير والورود. كل شيء حيٍّ فيه وفي القصيدة كان يتفتّق. حتى القلب الذي مزقتْهُ أدوات الجراحة في المستشفى اتَّسَع لمزيدٍ من الحبّ، لنساءٍ رسمتِ القصيدةُ ملامحهن وقسماتهن فبدَوْنَ وقد خرجْن من الأسطورة يهزمْنَ الرجولة ويطلقن ضحكات العبث الحُرّ. قَالَ الحبَّ بطريقةٍ تَقْطُرُ سحراً وعذوبة وأنتج أشهى قصائده في تاريخ الشعر العربي: «شتاء ريتا الطويل» مثالاً وقصائد أخرى من «سرير الغريبة». وفي باريس قالتِ القصيدةُ أسرارَها. رام الله - عمّان كانتَا مكان القصيدة الرابع: أولاهُما أكثر. لم يكن محمود ينتظر عودةً منقوصةً إلى الوطن؛ لكنه عاد ولم يَعُد. عَادَ لأن نداء العودة حاصَرَهُ وحاصَرَ احتجاجه على «اتفاق أوسلو»، ولم يكن يَسْطِعُ أن يقاوم إغراء فلسطين بعد تجربة جارحةٍ مع المنفى. ولم يَعُدْ لأن فلسطينَهُ كانت ما تزال بعيدة: فلسطينَهُ التي عاش فيها وفلسطينَهُ التي صَنعَها في شعره. وهل كان يَسْطِعُ أن يَرْدم الفرق بين الاثنتيْن؟ غير أن البعض القليل من فلسطين الذي بقيَ له - ولشعبه - مكاناً يقيم فيه كان أفضل عنده من مكابدة الشعور الدائم بالاقتلاع والمنفى. لعلّ تلك القطعة الصغيرة من الأرض ترفع عنه قليلاً عبئ الشعور بالغربة بعيداً عن الوطن. سألتُهُ مرةً: «كيف وجدْتَ فلسطين يا محمود بعد العودة إليها؟» أجابني على الفور: «فلسطينُ من بعيد أبْهى». إذن، هو المنفى من جديدٍ يداخِلُهُ ويسكُنُه وهو هناك في بعض الوطن. حين كان يضيق بهذا الشعور المفاجئ، يهرُب إلى عمّان، ومنها إلى أقاصي الدنيا. لا فرق، إذن، بين المنفيَيْن: المنفى عن الوطن والمنفى في الوطن! في فلسطين مرةً أخرى انتكست حالةُ القلب. لم تكن قد مرت على العملية الجراحية الأولى أكثر من أربعة عشر عاماً. كان على قلبه أن يُفْتَح مرةً أخرى في غرفة جراحية بباريس. توقّف القلب أثناء الجراحة وأُعلنت الوفاة. مات الشاعر لدقائق ثم عاد إلى الحياة. وخرج من تجربة الموت، في الهزيع الأخير من القرن الماضي، مسكوناً بسؤال الوجود. خاضَ أعمق حوارٍ فلسفي مع الموت في «جدارية». لو لم يكن محمود قد كتب في حياته سوى هذه القصيدة/الديوان، فقد كَتَبَ كل شيء وأوصل الشعر إلى الذروة. ومن حينها (سنة 2000)، دخل الشاعر في سباق محموم مع الموت. كان يريد أن يقول كل شيء قبل أن يزورَهُ ثانية ويصطحبه معه إلى البعيد. وبين رام الله وعمّان كانتِ الاعتكافةُ الشعرية (والنثرية) تأخذهُ إلى إنتاج غزير. كرَّتْ سبحة أعماله ? دواوين ونصوص نثرية ? بإيقاعٍ استثنائي: «حالة حصار»، «لا تعتذر عمّا فعلت»، «كزهر اللوز أو أبعد»، «في حضرة الغياب»، «أثر الفراشة»، «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي» (وقد صدر الأخير بعد رحيله). وفي كل نصٍّ، كان محمود يعلن ميلاد قصيدةٍ مختلفة، بنكهة جديدة. ظل وفياً لطريقةٍ لم يَحِدْ عنها: الثورةُ الدائمة على المألوف في التعبير الشعري. لا، ظل وفياً لمعنى الخَلْق والإبداع: مَنْ لَمْ يسْطِع أن يقدّم جديداً، من الأفضل أن يخلد إلى الصمت. ومحمود من طينة الشعراء الكبار، لا يعرف غير أن يتدفَّق. خرجتِ القصيدةُ من فلسطين وعادتْ إلى فلسطين. وفي رحلةِ العودة، تألقتْ أكثر في المكان الذي يقولُها وتقولُهُ. - 6 - لم يشغف محمود بالكتابة النثرية متأخراً، كانت شهوتَه منذ البدايات وقدَّم فيها سبائِكَ من نصوصٍ لَفَتَتِ الانتباهَ مبكراً إلى نَفَسِه السرديّ وجمالياتِ التعبير المُرسل. أغْرَتْهُ النثريةُ الخصبة بإخراجها من الحيّز الأدبي وتجريبها في كتابة النصّ السياسي في سنوات السبعينيات والثمانينيات حين أشرف على إدارة بعض أكثر المجلات السياسية والثقافية رصانةً («شؤون فلسطينية»، «الكرمل»). ومحمود - الذي حرَّر خطاب ياسر عرفات في الأممالمتحدة (1974) ونصّ «إعلان الاستقلال» في المجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر (1988) - يُتقن جيداً سبْك النصّ السياسيّ على ما نقرأ ونلمس في افتتاحيات مجلة «الكرمل». لكنه فوق الإتقان يُضفي عليه نكهة خاصة: يحرّرُهُ من جفافه الإصلاحي وتقريريَّته ويضُخُّ فيه جماليات التعبير الغنيّ، يُضَمّخُهُ بلغةِ التخييل، فيقدِّم قطعاً من الأدب السياسي الرفيع تخْتال رشاقةً وجمالاً حتى لكأنك تنسى أن النصّ سياسيٌّ، وإن تذكّرْتَ ذلك خِلْتَ كما لو أن لغةَ السياسةِ بهذا القدرِ من البهاء الذي لم نتوقّع. كان شاعراً وأديباً ولم يكن سياسياً بالمعنى الاحترافي (ولو أن وعيَهُ السياسي من الرّفعةِ والعمقِ والرقيّ بحيث يعلو على وعي السياسيين). ولأنه كذلك، يَتْرك بصمة الشاعر والأديب على النصّ السياسي. وكم ارتفع مقامُ هذا النصّ في التداوُل، فلقد خرج من مفردات شاعر، ومن حساسية مُبْدع كانت كنوز اللسان العربي تنقاد لهُ انقياداَ. سَيِّدُ القصيدةِ العربية كتب نثراً منذ البدايات، لكنه نثرٌ لا يُشْبهُ النثرَ: نَفَخَ فيه روحَ الشعر وأعاد تأسيس معناه. لم يسْلك في ذلك طريقة البيانيين الكبار (ابن قتيبة، الجاحظ، أبو حيان التوحيدي)، ولا أغرتْهُ مُنَمْنماتُ اللفظ عن عبد الحميد الكاتب وعبد الله بن المقفع، وقطعاً لم تُغْرِهِ بدائِعُ السَّبْكِ في مقامات الحريري وبديع الزمان الهمذاني. شقَّ لنثرهِ سبيلاً ما سَلَكهُ غيرُه: أدخل الصورة الشعرية في البناء النثري المُرسل فأنتج نمطاً جديداً من الكتابة. في مرحلةٍ ثانية - وكان ذلك بدءاً من ديوان «أحد عشر كوكباً » (1992) وخاصة في ديوان «لماذا تركت الحصان وحيداً» (1995) ? زجَّ بالنثر في الشعر، ورَّطَهُ في نسيج القصيدة، وباتت هذه أكثر انسيابيةً وأرحبَ في البناء السَّرديّ. لكن محموداً ما سَقَطَ في ما أَبَى تجربتهُ يوماً: قصيدة النثر؛ فهذه ما اعترفَ بها لا ارتضى أن يجد لها مَحَلاً في مملكة الشعر وظلَّت تُحْفِظُ حفيظَته. كان يجاهر برأيه فيها في السابق، وحين لم يعد يَسْطِعُ المجاهرةَ - رحمةً بحساسية كتّاب قصيدة النثر - أصبح يُعفي نفسَه من الحديث فيها إنْ طُلب رأيُه. في مرحلةٍ ثالثة، استدرجَهُ النثرُ إليه ثانية فاستجاب؛ لعلّه عثر فيه على مساحاتٍ من الحرية أوسع. وهو قطعاً ذهب في حريته في الكتابة النثرية إلى أبعد أفقٍ ممكن، وقدّم له النثر إمكانات للتعبير لا تَهْبِط معدَّلاً عن الإمكان الشعري. حافظ على شعرية الكتابة النثرية دافعاً بالنّفَس السرديّ بعيداً: إلى الحدود التي تحرِّرُ اللغة من مرجعية الصورة الشعرية والبناء الإيقاعي، لكنه ? في الوقتِ عينِه ? حَطََم الحدود الفاصلة بين الجنسيْن لِيُنْتِجَ نوعاً من الكتابة عصيّاً على التصنيف بحيث يَصْعُبُ العثورُ على نَسَبِهِ في جينيالوجيا الشعر أو النثر. ولقد تحرَّى محمود الدقّة وأصابَ التعيين حين سمَّى «في حضرة الغياب» نصّاً. فهو كذلك نصٌّ بلا زيادةٍ ولا نقصان، نهْرٌ صبَّت فيه روافدُ الشعر والنثر فجرى في مجراهُ الجديد حاملاً معه الخصائصَ كلَّها بعد أن انصهرتْ في تركيبةٍ أعلى. لقد أوصل محمود الكتابة المفتوحة إلى ذروتها في هذا العمل («في حضرة الغياب» (2006)) ورَمَى بالتحدي في وجه الثقافة العربية. لم تكتهل القصيدةُ العربية حين بدأ محمود يكتب شعراً؛ لكن الخشيةَ من أنها قد تكتهل بعد أن توقف عن كتابته. *** من باب تَعْزية النفس أن يقول المرء، في مثل هذه الحال، إنَّ محموداً لم يَرْحل لأن تراثَهُ باقٍ فينا وفي الثقافة العربية؛ فلقد كان رحيلُهُ فاجعةً للثقافة والقصيدة لا توصَف. وهي (فاجعة) مضاعَفَة لأن رحيلَهُ حَصل في لحظ التألُّق الاستثنائي، وحيث كان يقود ثورةً في التعبير الشعري غير مسبوقة منذ ثور بدر شاكر السياب قبل خمسين عاماً وأدونيس منذ أربعين عاماً. وبرحيل حفيد المتنبي، تدخل القصيدة العربية فترةً من الحِداد - كما كتبْتُ يوماً - ليس يُعْلَم متى تنتهي. فالرجل ما كان شاعراً كبيراً فحسب، كان الشاعر الذي زوَّجَ المستحيل بالممكن في الشعر فأنجب لغةً شعريةً ممكنةً لكنها تقارب المستحيل. لغة البساطة المستحيلة هي؛ تمرّ بحَدَاءِ اليوميّ وتَمْتح من مفرداته ثم ترتفع إلى المجرّد فتعلو على الإمكان. عذبة كعذوبة صوتِهِ في الإلقاء، وحارَّة كحرارة الأرض في صدره. كان يعتقد أن وجودَهُ، حياتَهُ، محضُ حادثة سيْرٍ في تاريخ العدم. لكنه أحبَّ الحياة وبَادَلَها هديَّتَها له بأجمل باقةِ شعر. وكان يعتقد أن الصدفةَ وحدها قرّرتْ مصيره: بالصدفةِ جاء إلى العالم؛ بالصدفة عاش؛ بالصدفة كان شاعراً. إنها الوجه الآخر لحادثة السير الوجودية في ملكوت العدم. لكن محمود لم يُدرك أن موتَهُ لم يكن حادثة سيْرٍ مؤسِفة لقصيدته فحسب. لقد قضى فيها كثيرون، وقضتْ فيها أشياءٌ كثيرة، وقال فيها العدمُ ما قال... ويا محمود، «على هذه الأرضِ ما يستحق الحياة»: أن نقرأَ شِعْرَك.