"منْ أَنا لأقول لكم ما أقولُ لكم، مَنْ أنا؟ كان يمكن أن لا يحالفني الوحيُ، والوحي حظُّ الوحيدين. "إنَّ القصيدة رَمْيَةُ نَرْدٍ" على رُقْعَةٍ من ظلام،ْ تشعُّ وقد لا تشعُّ، فيهوي الكلامْ كريش على الرملِ، ليس لي أيُّ دور بما كُنْتُ أو سأكونْ...هو الحظُّ والحظ لا اسم لَهُ، قد نُسَمِّيه حدَّادَ أَقدارنا أو نُسَمِّيه ساعي بريد السماء، نُسَمِّيه نجَّارَ تَخْتِ الوليد ونعشِ الفقيد". من قصيدة لاعب النرد. كانت هذه من بين الكلمات الأخيرة شِعرا للشاعر العربي الكبير محمود درويش، الذي كرّمه العالم في الأسبوع الأول من أكتوبر بمناسبة الذكرى الأربعين لرحيله. فقدان ركن أساسي من الإبداع الإنساني صاخِبا، جاء إلى الحياة من بطن أمه حورية، على أرض قرية البروة في الجليل الفلسطيني، ملأ الدّنيا شِعرا ستة وستون عاما، ليحتلّ مكانته بين أبرز شعراء العالم، الذي أدرك بفقدان محمود درويش، أنه فقد رُكنا أساسيا من أركان الإبداع الإنساني. وأراد العالم بعد أن أفاق من ذُهولِه، ردّ، ولو رمزِيا، بعض السكر لما أعطاه للثقافة الإنسانية، ووجه المبدِعون بالعالم باسم الملتقى العالمي للأدب في برلين نداءً مشتركا إلى المؤسسات الثقافية والمحطّات الإذاعية والمدارس والمسارح وكل المهتمّين في جميع أرجاء العالم، لإقامة أمسيات شعرية عالمية تقَدَّم فيها قصائد الشاعر محمود درويش في الخامس من أكتوبر 2008، يتم من خلالها تكريم الشاعر الراحل وأعماله. وحسب ما جاء في نداء المبدعين، فإن محمود درويش "كان من أكثر الشعراء العرب المعاصرين شعبية، وواحداً من أكبر الشعراء في الأدب العالمي. أمسياته الشعرية كانت تجذب إليها الآلاف من محبّي الشعر، دواوينه نُشرت بمئات الآلاف من النُّسخ، أعماله تُرجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة وقصائده تغنّى كأغنيات شعبية وكثير من أبيات شعره تحوّلت إلى أمثال. أكثر من أربعين دولة التقطَ مُبدِعوها نِداء برلين، من جنوب إفريقيا إلى الصين وتشيلي، مرورا بدُول أوروبية وعربية، واستحضروا محمود درويش شِعرا. والرباط، العاصمة المغربية، لم تخلف ميعادها مع محمود درويش، الذي أحبها وعشق مسرحها، حيث عانقت قصائده جمهوره مرّة كل سنة على الأقل، وتبنّت جامعتها/جامعة محمد الخامس "أكدال" Agdal، احتضان النِّداء وتنظيم أمسية شعرية، يشارك بها شعراء من مختلف أنحاء العالم. "بكلامه وشعره يبقى الإنسان حيّا وتبقى الكلمة حية " الشاعر محمد بنيس، رئيس اللجنة التحضيرية لتكريم محمود درويش بالمغرب تكريم عالمي لشاعر إنساني بالنسبة لحفيظ بوطالب جوطي، رئيسة الجامعة، فإن التكريم "تعبيراً عن المكانة العالية لمحمود درويش في نفوس قرّائه ومحبِّيه في المغرب، واستحضاراً لِما يمثله من قيمة شِعرية رفيعة في الثقافة العربية والإنسانية، وتخليداً لحضوره في كلية الآداب سنة 2003، وتكريساً لاحتضان الدّرس الجامعي والبحث العِلمي في جامعة محمد الخامس - أكدال لأعماله". أما الشاعر محمد بنيس، رئيس اللجنة التحضيرية لتكريم محمود درويش بالمغرب، فاعتبر أن "إقامة اليوم العالمي التكريمي لمحمود درويش بالمغرب، لحظة نعبِّر فيها جَماعيا عن رُوح التّضامن الشعري في العالم مع شعر محمود درويش والشاعر محمود درويش. ونقول في هذه اللحظة، إن محمود درويش هو وجه شعري لنا ولِغيرنا، نكتمِل فيه ونتكامَل معه، وأيضا نقول فيه إننا كمغاربة، دائما إلى جانب الشعر الفلسطيني وفي مقدِّمته شعر محمود درويش، ودائما كُنا نحس في محمود درويش الصّديق الكبير لنا فردا فردا ومغرِبا ككل". وتابع قائلا "ها نحن في هذه اللحظة حاولنا أن تكون لحظة فرح بشعر محمود وأن يكون محمود بيننا، الإنسان الذي يُحبّ الحياة ويحِب الشعر ويُحبّ الناس ويرى الحياة والموت ويجعل حياته نُقطة في هذا النّهر الأبدي. وبكلامه وشعره يبقى الإنسان حيّا وتبقى الكلمة حية". في ذلك المساء الرباطي (نسبة للعاصمة المغربية الرباط)، كان شُعراء من عالم متعدّد أحبّوا محمود درويش وقاسموه عذابات الشِّعر وعُذوبته، كان فديريكو أربوس (إسبانيا) ومحمد بنيس (المغرب) وجلال الحكماوي (المغرب) وكلاوس رايشرت (ألمانيا) وليونيل رييْ (فرنسا) ورجاء الطالبي (المغرب) ومحمود عبد الغني (المغرب) وألفريد كورن (الولاياتالمتحدةالأمريكية) وأمجد ناصر (الأردن) ومنصف الوهايبي (تونس) لكن، حين وقفوا يتلون الشِّعر، لم تكن هناك كلِمات لهم، كل الكلمات كانت لمحمود درويش، كلٌّ منهم اختار قصيدة من قصائده غطّت سنوات إبداعه وإثرائه للثقافة الإنسانية وما حملته من همِّ وطنه، فلسطين وشعبها. " محمود درويش، الذي حُرم من وطنه فلسطين، استطاع أن يبنِي لنفسه وطنا من الكلمات " الشاعر الألماني كلاوس رايشرت
"حُرم من وطنه واستطاع بناء وطن من الكلمات" الشاعر التونسي منصف الوهايبي قرأ قصيدة "الغياب"، والمستعرب الإسباني فيديريكو أربوس قرأ باللغة الإسبانية لقصيدة "سرحان يشرب القهوة في الكافتريا"، وقرأ الشاعر جلال الحكماوي مقطعا من "الجدارية"، كما قدّم الشاعر الأمريكي ألفريد كورن، ترجمة إلى اللغة الإنجليزية لإحدى قصائد درويش. أما الشاعر الأردني أمجد ناصر، فقد ألقى مطوّلة "كان ما سوف يكون"، التي أهداها محمود درويش لصديقه وأستاذه الشاعر الفلسطيني راشد حسين، بينما ألقت الأديبة رجاء الطالبي مقاطِع مُنتقاة من عددٍ من أعمال درويش، من بينها آخرها "أثر الفراشة". وألقى الشاعر الفرنسي ليونيل ريْي ترجمَة لنصٍّ بعنوان "على هذه الأرض ما يستحِق الحياة" إلى اللغة الفرنسية، وتلاه الشاعر محمود عبد الغني بقراءة مقطعٍ من ديوان "أرى ما أريد". وقال الشاعر الألماني كلاوس رايشرت، إن محمود درويش، الذي حُرم من وطنه فلسطين، "استطاع أن يبنِي لنفسه وطنا من الكلمات"، قبل أن يُلقي ترجمة لإحدى قصائد الشاعر العربي الراحل باللغة الألمانية. وتلا الشاعر محمد بنيس قصائد لدرويش، من بينها قصيدته (في الرباط): "للمغاربة أن يقولوا نحن من أوحى إليه"، وقصيدته "ليل العراق الطويل"، التي أهداها لصديقه الشاعر العراقي سعدي يوسف. واختُتمت الأمسية بقراءة شعرية مسجّلة بصوت الراحل محمود درويش لعدد من قصائده القصيرة، التي ألقاها بالمسرح الوطني محمد الخامس بالرباط، ومن بينها قصيدة "السروة انكسرت" و"الجميلات هنّ الجميلات" و"الكَمنجات". مغادَرة الجمهور الحاشد القاعة، لم يكن الحلقة الأولى في تكريم محمود درويش بالنسبة لجامعة محمد الخامس، حيث أعلن بوطالب جوطي أن الجامعة تعد لمنح محمود درويش الدكتوراه الفخرية، كما تطلق اسمه على أحد أهم مدرّجاتها. "درويش هو نوبل الحقيقي " الشاعر الإسباني المستعرب فيديريكو أربوس
"أبرز ممثلي اللحظة الثالثة للشعر الحديث" ومغربيا، قبل تلك الأمسية، احتضنت العديد من مدن المملكة نشاطات تكريمية لمحمود درويش، وسيكون لمحمود درويش يوم 24 أكتوبر الجاري موعد آخر في مسرح محمد الخامس بالرباط، في احتفال منحه جائزة "أركانة" للشعر، التي أعلن عنها في مايو الماضي، وكان درويش يُعِدّ نفسه للحضور، لو أن الموت لم يهزِمه هذه المرة. وفي هذا الاحتفال، الذي يحضره الرئيس الفلسطيني محمود عباس، يتسلم أحمد، الشقيق الأكبر لمحمود درويش الجائزة، كما يقدّم الفنان مارسيل خليفة بعضاً من قصائِد محمود درويش المغنّاة. ويبقى في إطار التكريم العالمي للشاعر العربي الكبير محمود درويش، سؤال جائزة نوبل للآداب، الممزوج بالأمل بتجنيب هذه الجائزة التسييس ورُؤية شِعره من زاوية الإبداع، وتحميل شِعره همّا إنسانيا، كثّفه بهمّ شعبه وما لحِقه من اضطِّهاد وظُلم. ويقول فدريكو أربوس (مستعرب إسباني) لسويس انفو، "إن محمود درويش، عُرف بالتِزامه العميق بالقضِية الفلسطينية، وهو التِزام يتعارَض مع الخطّ السياسي للأكاديمية السويدية، المتمثل في عدم الانحياز لأي طرف، ومِن ثمّ، يصعُب القول أن درويش كان يُمكن ان يفوز بجائزة نوبل، رغم كونه من أحسن شُعراء العالم ومن بين أشهرِهم في كافة الدّول"، مضيفا "إن درويش هو نوبل الحقيقي". واعتبر أربوس أن "درويش إلى جانب سميح القاسم اعتُبر أكبر مجَسِّد لشعر المقاومة الفلسطينية، فضلا عن كونه من أبرز ممثِّلي اللحظة الثالثة في تطوّر الشِّعر العربي الحديث، بعدما اقترنت اللحظة الأولى بميلاد حركة الشِّعر الحُرّ مع نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وغيرهم، في حين تمثّلت اللحظة الثالثة في مجلة "شِعر" ورُوادها أدونيس ويوسف الخال وخليل الحاوي... "أكبر تكريم" ..و"أثر عظيم" ويعتقد الشاعر المغربي محمد بنيس أن "هذا الحدث الثقافي الذي يشهده العالم هذه الأيام حول محمود درويش، يُعدّ أكبر من أية جائزة، فأنْ يقوم العديد من الأُدَباء والمثقّفين والفنانين، ينتمون لحوالي أربعين دولة بتخصيص يوم عالمي لهذا الشاعر، فهذا في حدّ ذاته، أكبر تكريم". ويتساءل: "كم من شاعِر نال جائزة نوبل للآداب ونسِيَه الناس مُباشرة بعدَ حفل التّكريم، بينما اسم محمود درويش، كان وسيبقى راسخا في ذاكرة محبّي الشعر إلى الأبد". وقال الشاعر التونسي منصف الوهايبي، "إن اسم محمود درويش، كان مطروحا منذ سنوات للترشيح لنيل جائزة نوبل للآداب، وقد أتِيح لي شخصيا أن اعرف ذلك عام 1984 بجامعة "لوند" بالسويد، خلال مُلتقى للشِّعر العربي والسويدي، وسمِعت باسم درويش من شاعِر سويدي يعد عضو لجنة نوبل، وإسمه "سوشتراند" (وهو شاعر تُرجم له مع محمد الغزي، كتاب بعنوان "برج الدلو"(. ويضيف، "درويش صاحب تجربة غنية أعادت الاعتبار، لا للشِّعر العربي فحسب، بل للشعر عامة، من حيث هو فن كَوني بامتياز، كل ثقافة تضَع لبنة فيه، وأقدّر أنّ أثر محمود درويش في لغتِنا العربية وفي الشِّعر باعتباره لغتنا الأم أعني لغة الجنس البشري هو أثر عظيم جدا". عن سويس أنفو