يكتبها: مصطفي الضمراني [/color]في سيرة سيدة الغناء العربي أم كلثوم مع شركائها عمالقة التلحين وشعراء الكلمة مواقف تختلف باختلاف كل حالة لحنية, وقد تكون ساخنة أو محرقة في بعض الأحيان, وقد تكون إنسانية لأبعد الحدود وهذه المواقف تمر منذ بداية الكلام حول أغنية بعينها مع الشاعر أو مع الملحن وتستمر مبهجة حلوة تسعد جميع الأطراف أو قاسية ربما يتعطل بسببها المشروع كله ويحدث شبه خصام ربما يطول بعض الوقت أو يقصر حسب الحالة نفسها, وهذه المواقف تعتبرها أم كلثوم من الأسرار التي لا يمكن أن تخرج خارج دائرة المؤلف أو الملحن وقد تتسرب إلي اثنين فقط من فرقتها الموسيقية الأول قائد فرقتها الموسيقار عازف القانون الأول محمد عبده صالح والثاني عازف الكمان الأول أحمد الحفناوي باعتبارهما أكثر من تثق فيهما أم كلثوم وأكثر من يكتمان أسرار العمل معها سواء داخل مصر أم البلاد العربية عندما تكون هناك ليلة من ليالي أم كلثوم.[/size] ومهما كانت سخونة هذه المواقف أو صعوبتها في بعض الأحيان لكنها في الغالب تمر بهدوء, لأن الجميع لديه الرغبة في الاستمرار مع أم كلثوم وتنفيذ تعليماتها بالحرف الواحد دون اعتراض أملا في كسب ثقتها في إقامة علاقة حميمة قد تساعد في أن يكون صاحب اللحن أو الكلمات هو الملحن أو المؤلف( الملاكي)لأم كلثوم ولو لعدة سنوات فقط يمكن من خلالها أن يجمع ثروة طائلة من حقوق الأداء العلني الذي يعود عليه من إذاعة أغانيها علي مستوي الوطن العربي, وهي ثروة قد تصل إلي آلاف الجنيهات يحصل عليها كل عام من جمعية المؤلفين والملحنين باعتبار أن أم كلثوم هي الموزع الأول للأغنية العربية حسب إحصائيات جمعية المؤلفين في باريس الساسم وهو ما يدركه كل متعامل معها ويعتبرها الكنز الذي يستطيع من خلاله أن يعيش طول حياته معززا مكرما. لكن هذه القاعدة لها استثناء واحد في حياة سيدة الغناء العربي, وهو الموسيقار الراحل رياض السنباطي صاحب أطول رحلة في مسيرتها الغنائية التي امتدت لحوالي أربعين عاما, فالسنباطي إلي جانب أنه فارس ألحانها الأول فهو أحسن من يلحن القصيدة الشعرية باعتراف جميع النقاد والمثقفين والمستمعين العرب, ولذا فقد كان له دلاله الخاص عند أم كلثوم وهو المستثني من قاعدة الطاعة الكاملة لكل ما تقوله أم كلثوم, وهو الملحن الذي يعتز بنفسه لدرجة الكبرياء والشموخ وعدم الخضوع لفكر أحد اقتناعا بنفسه كموسيقار ومبدع وفي نفس الوقت له قناعته التامة بأن الإنسان لابد أن يعيش حياته دون ضعف أو رجاء أو توسل أو تدن لأحد, لأن الرازق هو الله.. وهذه كانت طبيعة رياض السنباطي الذي يحترم نفسه لأبعد الحدود, هذا بالإضافة إلي أن أم كلثوم نفسها كانت تعتبر الأربعين عاما التي قطعها معها السنباطي شريكا في مسيرة الأغنية كانت تمثل مرحلة كفاح حقيقية من جانبه من أجل أن تبقي أم كلثوم سيدة الغناء العربي, وهو ما جعل أم كلثوم تنظر إليه بعين التقدير والاحترام وتعتبر ألحانه لها شيئا مقدسا لا يحتاج إلي تعليق أو مناقشة وكانت عندما ترغب في أن يلحن لها الجديد تتصل به تليفونيا للحضور إلي فيلتها المطلة علي نيل الزمالك وكانت من كثرة إعجابها به تخصص له عودا يبقي بانتظاره كلما تستدعيه من منزله في مصر الجديدة حتي توفر عليه مشقة حمله في سيارته والدخول به إلي الفيلا, وكان السنباطي يضبط أوتار العود في كل مرة حتي يكون جاهزا للتلحين إذا جاءه الخاطر وهو في فيلتها يتأمل صفحة النيل من الشرفة مع فنجان الشاي بالنعناع أو قهوته المفضلة وكان هذا العود معروفا لجميع الملحنين بأنه عود السنباطي الذي لا يستطيع أحد الاقتراب منه حتي ولو كان هذا الأحد من كبار الملحنين أيضا, لأن السنباطي معروف بأنه عنيف وصعب خصوصا عندما يكتشف أن أحدا أمسك بهذا العود والسنباطي يكتشف ذلك بسهولة لأنه عندما يغادر فيلا أم كلثوم يضبط أوتار العود علي نغمة معينة قد تكون الصبا أو البياتي أو النهاوند, ويأتي إليها وفي عقله مقطع جديد للأغنية المتفق عليها أي دخول أحد الكوبليهات مثلا أو خاتمة اللحن التي نسجها مع نغمة معينة كان قد جهز لها العود وضبطه عليها قبل مغادرة الفيلا, وعند العودة يمسك بالعود وقد تكون الكارثة لو اكتشف أن تغييرا قد حدث في ضبط العود, فهنا يصل الأمر به إلي ترك المكان فورا, وكانت قد حدثت واقعة من هذا النوع وثار بعدها السنباطي ومن وقتها ظل العود في مكانه لا يقترب منه أحد. وقد تعودت أم كلثوم أن تستمع في كل مرة إلي السنباطي وفي كل ألحانه ولا تملك سوي أن تقول الله الله يا رياض إيه الجمال ده وتتدفق مشاعر السنباطي حبا وإبداعا وعشقا لسيدة الغناء العربي ويستمر في العزف أمامها يغني الأغنية الجديدة بصوته الذي كان من أحلي الأصوات المحببة لأم كلثوم من بين كل الملحنين الذين تعاملت معهم, كما كانت تعشق كلمات شريك مشوارها الثاني وعاشق صوتها شاعر الشباب كما كان يطلقون عليه أحمد رامي وكانت تستقبل كل لحن للسنباطي مع كلمات رامي وكأنها اكتشفت كنزا جديدا من الماس أو الذهب, ولذا فقط فازت كلمات رامي وألحان السنباطي بنصيب الأسد من صوت أم كلثوم التي غنت لهما أكثر من عشرين أغنية ناجحة منها حيرت قلبي معاك وأنا بداري وخبي, وعودت عيني علي رؤياك, ويا ظالمني, وهجرتك يمكن أنسي هواك وودع قلبك القاسي, ورباعيات الخيام, وجددت حبك ليه, ودليلي احتار وحيرني, وسهران لوحدي وياللي كان يشجيك أنيني وغيرها من الأغنيات التي مازالت ترن في آذان كل عشاق فن أم كلثوم علي امتداد الوطن العربي كله. ولكن يبدو أن الحال علي هذا الرضا التام بين أم كلثوم والسنباطي قد أراد الله أن تصيبه أعين الحاسدين, وكانت المناسبة قصيدة الأطلال للشاعر الكبير إبراهيم ناجي, حيث بدأت أم كلثوم مع رياض في الحديث عن هذه القصيدة عام1962 حين أعجبتها الأطلال, وطلبت منه أن يشاركها في اختيار الأبيات المناسبة للغناء من بين هذه القصيدة المطولة وعقدت أم كلثوم عدة جلسات مع رياض تم خلالها انتقاء أحلي ما يمكن أن تشدو به, وتركت أم كلثوم لرياض السنباطي الذي كان متحمسا للقصيدة أكثر منها أن يبدأ فورا في التلحين, ودخل السنباطي صومعته وبعد غياب استمر شهرين جاءت الفرصة لأم كلثوم لتسأل رياض عن أخبار الأطلال فكانت المفاجأة أن انتهي السنباطي بالفعل من تلحين نصف القصيدة وطلب منها الانتظار شهرا آخر حتي يكتمل اللحن بالصورة التي يتمناها, وانتظرت أم كلثوم شهرا آخر ثم طلبت السنباطي بعد ما نشرت الصحف أنباء القصيدة الجديدة وأبياتها التي لقيت استحسانا كبيرا لدي عشاق ناجي وصوت أم كلثوم وألحان السنباطي, وسارعت الوفود العربية التي كانت تحجز أماكنها مسبقا مع كل أغنية جديدة قبل موعد الحفل بشهرين أو ثلاثة, وبدأت الاتصالات تتدفق لكي تستمع من أم كلثوم موعد غناء القصيدة التي كان من المقرر أن تغنيها أم كلثوم في أكتوبر.1963 وجاء موعد لقائها مع السنباطي لكي تستمع إلي اللحن كعادتها واستدعت السنباطي الذي كان قد انتهي بالفعل من تلحين القصيدة كاملة وجلس إلي جوار أم كلثوم يغنيها بصوته وقد أخذته الحماسة والاقتناع بأن الأطلال ستكون أحسن ما لحن لأم كلثوم والتي ظلت تغني معه دخول المذهب وتطلب منه أن يعيد العزف مرات ومرات وهي تغني وتغني فرحة باللحن ثم طال الوقت وانتقل السنباطي إلي الكوبليهات التي أبهرت أم كلثوم وظلت تشدو معه كل كوبليه علي حده والسعادة تشع من عينيها والسنباطي أكثر وأكثر, وطلبت أم كلثوم الاستراحة بعض الوقت لتناول فنجان الشاي أو قهوة السنباطي ولكن السنباطي لم يستطع التوقف حتي أثناء الشاي والقهوة واستمرت أم كلثوم تردد الكوبليهات مرة ومرتين وثلاث مرات وأصبح الاثنان في ملكوت آخر من الاندماج في اللحن وحلاوة كلمات الأطلال, وكانت المفاجأة عندما اقترب السنباطي من أبيات القصيدة في المقطع قبل الأخير الذي أعجب أم كلثوم إعجابا لا نظير له وهو المقطع الذي يقول: هل رأي الحب سكاري مثلنا كم بنينا من خيال... حولنا ومشينا في طريق مقمر تثب الفرحة فيه قبلنا وضحكنا ضحك طفلين معا وغدونا فسبقنا... ظلنا ولكن عندما جاءت الشطرات الأخيرة في الكوبليه الأخير تغير الحال وتبدلت الأحوال وأصبحت المخاوف تتسرب إلي قلب أم كلثوم في قفلة الكوبليه الأخير. يا حبيبي كل شيء بقضاء ما بأيدينا خلقنا تعساء ربما تجمعنا... أقدارنا ذات يوم.. بعدما عز اللقاء فإذا ما أنكر خل.. خله وتلاقينا.. لقاء الغرباء لا تقل شئنا.. فإن الحظ شاء وهنا انتفضت أم كلثوم قائلة: لا يا رياض القفلة عالية قوي لا.. لا وهاج السنباطي قائلا إنت عايزه إيه يا أم كلثوم قالت: عايزة أغير القفلة.. يعني إيه.. يعني تكون من الطبقة الواطية فوقف السنباطي والغضب يملأ عينيه ليقول: أنت المطربة وأنا الملحن.. وترك العود علي الكنبة التي كان يجلس عليها وغادر فيلا أم كلثوم في حالة غضب شديد واستمر الوضع أسبوعا واتصلت أم كلثوم بالسنباطي ولكن دون رد وفات الشهر تلو الشهر والسنباطي في صومعته ممتنعا عن الكلام مع أم كلثوم, وتدخل الموسيقار محمد عبده صالح طالبا زيارة السنباطي في بيته وبعد عدة اتصالات استقبله السنباطي وقال له: في البداية أهلا بك يا صالح بس إوعي تفتح معي موضوع أم كلثوم وحاول عبده صالح تهدئة السنباطي موضحا له أن موعد الحفل اقترب والناس بتسأل إمتي يسمعوا الأطلال ورد السنباطي أنا معتذر عن التلحين خليها تدي القصيدة لملحن ثان وهز صالح رأسه وقال للسنباطي اهدأ يا رياض كل شيء يتحل بالهداوه.. وبعد أخذ ورد قال له السنباطي أنا الملحن يا صالح لأم كلثوم وإحنا لينا30 سنة يعني جاية النهاردة تقول لي تغير القفلة أنا ما باغيرش جملة واحدة ده إحساسي وأنا أفهم صوت أم كلثوم جيدا وأعرف مساحة صوتها وديه هي القفلة اللي تناسب صوتها وهي قادرة علي أداء أصعب من كدة.. واستأذن صالح السنباطي عائدا لأم كلثوم لينقل إليها ما دار بينهما من حديث, وبعد أسبوع حاول الحفناوي نفس المحاولة مع السنباطي وعلمت أم كلثوم إصرار السنباطي علي القفلة واقتناعه الكامل بها وراهن علي نجاحها. وبعد محاولات استمرت طويلا اتصلت أم كلثوم ببعض أصدقائها من الشعراء العرب الذين يعرفون السنباطي وكذلك بعض كبار الصحفيين والأدباء لكي يتم الصلح بينهما.. وكان رد السنباطي للجميع أنا أعلم ما ستحققه هذه القفلة من نجاح عند الجمهور وأراهن علي ذلك. واستمر الحال أكثر من عامين ومع منتصف العام الثالث وبعد أن استمعت الجماهير العربية إلي ألحان أخري لغير رياض السنباطي تساءل الناس في الصحف العربية متي يستمعون إلي أطلال السنباطي وأم كلثوم؟ وتدخل الأصدقاء للصلح ووافقت أم كلثوم ووافق السنباطي, بشرط عدم تعديل القفلة وتم الصلح بين أم كلثوم والسنباطي وبشروط السنباطي وجاء موعد الأطلال في الخميس الأول من أكتوبر66 وغنت أم كلثوم الأطلال في سينما قصر النيل, حيث لا مكان لقدم والإذاعات العربية تذيع القصيدة علي الهواء مباشرة وانتشي الحاضرون مع كوبليه هل رأي الحب سكاري ثم انتقلت أم كلثوم إلي المقطع الذي يقول يا حبيبي كل شيء بقضاء ما بأيدينا خلقنا تعساء.. ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم.. بعدما عز اللقاء.. فإذا ما أنكر خل خله.. وتلاقينا لقاء الغرباء لا تقل شئنا فإن الحظ شاء, وهنا تحول المسرح إلي شبه مظاهرة عارمة وتصفيق لا ينقطع مع صياح وتهليل وتصفيق بلا انقطاع وتهليل أعد أعد تاني يا ست لا تقل شئنا يا ست إن الحظ شاء يا ست وأعادت الفرقة هذا المقطع مرة ومرتين واندفعت الجماهير بعدها إلي المسرح تحيط بسيدة الغناء في ابتهاج شديد بعظمة ألحان رياض وكلمات ناجي وصوت أم كلثوم ولم تستطع مغادرة المكان إلا بصعوبة بالغة ووسط حماية الشرطة من تدفق الجماهير علي سيارتها من الباب الخلفي بسينما قصر النيل, وما إن صعدت إلي السيارة وسط هذا الزحام الغفير والدموع تنهمر من عينيها لهذا النجاح المظفر نظرت بسرعة إلي السائق الذي اتجه في طريقه العادي للعودة بها إلي فيلتها كالمعتاد في الزمالك ولكن أم كلثوم قالت له لا يا أسطي اطلع من شارع رمسيس ورد السائق حنروح فين يا ست قالت له: علي بيت السنباطي وهي المرة الأولي التي تذهب فيها أم كلثوم إليه في منزله, حيث كان مستغرقا مع أسرته في الاستماع للأغنية التي سجلها علي الريكوردر وأثناء استغراقه الشديد في السماع دق جرس الباب وكانت الساعة قد اقتربت من الفجر, ونادي السنباطي علي زوجته وأولاده شوفوا مين اللي جاي دلوقتي وفتحت زوجة السنباطي الباب, فوجدت أم كلثوم التي اندفعت مسرعة من مدخل الباب وارتمت في أحضان السنباطي والدموع تنهمر من عينيها وتقول له: أنا آسفة يا رياض علي ثلاث سنوات ضاعت من عمري أنت كنت فهمني أكثر من نفسي ست!! وأحضرت زوجة السنباطي الشاي بالنعناع والمثلجات والفرحة تغمر الجميع لوجود أم كلثوم في بيت السنباطي لتكون هذه الليلة من أجمل ليالي العمر يستمع فيها الكل من جهاز الريكوردر إلي تصفيق الجماهير الملتهب في المقطع الأخير للقفلة التي رفض السنباطي تغييرها وأعادتها أم كلثوم أكثر من مرة بناء علي رغبة الجماهير.. ليودعها في النهاية السنباطي وجميع أسرته عائدة إلي فيلتها في الزمالك مع نسائم صباح يوم جديد* ******************************************** هدية محمدية بريس / ام كلثوم - الاطلال حفلة المغرب وتفاعل الجمهور 1968