في زمن الحروب غير المتكافئة، لم تعد المعارك تخاض بالسلاح فحسب، بل بالصورة والرمز والخطاب. حيت أصبح الإعلام أداة حاسمة في ترجيح كفة الهيمنة، وجهازا شديد الفاعلية في صياغة الإدراك الجماهيري، والتحكم في المزاج العام، وتوجيه البوصلة الشعورية للشعوب نحو ما يخدم أجندات بعينها. ومن بين أبرز تمثلات هذا التحول، تبرز قناة "الجزيرة" القطرية كنموذج صارخ للوظيفة الناعمة للإعلام ، حين يوظف لتقويض تماسك الدول، وتفكيك سردياتها الوطنية، وتغليف هذا المشروع برداء المهنية وحرية الرأي أو الدفاع عن القضايا العادلة . ما تمارسه قناة " الجزيرة " منذ سنوات، ليس عملا إعلاميا محايدا، بل هندسة ممنهجة للوعي الجمعي، تستثمر أدوات علم النفس والسوسيولوجيا لتوجيه الرأي العام، وتكييفه وفق ما يخدم التوجهات الجيوسياسية للنظام القطري. الجزيرة، بهذا المعنى، ليست منبرا حرا، بل ذراعا رمزية لدولة تمارس نفوذها الإقليمي عبر خطاب إعلامي مزدوج ، خطاب يظهر الإنحراف لفلسطين والتعاطف مع الشعوب، ويضمر صمتا فاضحا عن القواعد العسكرية الأمريكية في قطر، وعن تحالفات تركيا مع إسرائيل، ويغلف هذا التناقض بشعارات الأخلاق والحرية. إن هذه الازدواجية لا تقتصر على انتقائية المواضيع، بل تتجلى بوضوح في إستهدافها الممنهج للمغرب،بإنخراط القناة، منذ أكثر من عقدين، في بث رسائل متكررة تتقاطع مع أطروحات خصوم الوحدة الترابية المغربية، واستهدافها المتكرر للمؤسسات السيادية المغربية، يوحي بأن ثمة مشروعا ممنهجا يعكس إزدواجية خطاب الدولة القطرية، التي ترفع شعار الدعم والمساندة للمغرب في العلن، بينما تدير عبر أدواتها الإعلامية حملات منظمة تزرع الشك في شرعية قضاياه المصيرية، وعلى رأسها قضية الصحراء المغربية. هذا التناقض لا يمكن فهمه إلا عبر عدسة علم الإجتماع السياسي الذي يربط الإعلام بوظائف الهيمنة الرمزية، حيث تتحول المنابر الإعلامية الكبرى إلى أدوات لصناعة الرأي العام وفق تصور مقصود لإعادة تشكيل الوعي الجمعي في الدول المستهدفة. فحينما تتحول قناة إعلامية ما ، إلى منصة يومية لبث التشكيك والتشويش والتفكيك، فإن الأمر يتجاوز حرية التعبير، ليصل إلى وظيفة هندسية تشتغل على اللاوعي الجماهيري، من خلال التكرار وصناعة الرموز وتوجيه العاطفة، في ما يعرف ب"الهندسة العاطفية للرسائل". ولعل الخطورة في هذا الدور تكمن في قدرته على تمرير الرسائل من تحت الجلد، عبر تراكم المعاني وتكريس الصور النمطية، حيث لا يتلقى المتابع خبرا، بل يخضع إلى عملية تكييف إدراكي تزرع الشك وتبني الإنطباعات السلبية بالتقسيط البطيء. وهو ما يجعل من الإعلام اليوم سلاحا لا يقل فتكا عن الآلة العسكرية، بل يفوقها في قدرته على الاستدامة والتأثير طويل الأمد. إن الهجمة التي تتعرض لها المملكة المغربية عبر هذا النمط الإعلامي لا تنفصل عن موقعها الصاعد في المنظومة الإقليمية والدولية، بعد أن راكمت زخما سياسيا واقتصاديا، وأضحت رقما وازنا في معادلات الطاقة والهجرة والأمن والتعاون جنوب-جنوب. وهي وضعية لا ترضي بعض القوى التي ترى في الصعود المغربي، الإقليمي والدولي، المستقل تهديدا لامتيازاتها الرمزية، فتحاول عرقلته عبر أدواتها الناعمة. من هذا المنطلق ، لا إستغراب في رفض قناة "الجزيرة" توجيه خطابها التحريضي نحو الوجود العسكري الأمريكي في قطر، أو أن تتجاهل تماما العلاقات التركية الإسرائيلية، بينما تواصل التحريض على إقتحام المؤسسات السيادية في دول عربية، في مشهد يفضح الانتقائية، ويعري ازدواجية المعايير. ختاما ياسادة ، المغرب كما سائر الدول المستهدفة، مدعو اليوم إلى التعامل مع هذا الواقع الإعلامي بمنطق الفهم والمواجهة الذكية، لا بمنطق المجاملة. فالحروب الجديدة، كما علمتنا التجارب، لا تخاض فقط في ميادين السياسة أو الاقتصاد، بل في عمق الهوية، وفي تشكيل التصورات، وفي إنتاج الرموز التي تؤسس للشرعية أو تنسفها. ولذلك، فإن الرد لا يكون فقط بإصدار البيانات، بل ببناء خطاب إعلامي سيادي، قادر على تفكيك الخطاب الموجه، وكشف خلفياته، وحماية الوعي الجمعي من مخاطر التزييف الناعم.فالجزيرة ليست مجرد قناة إعلامية ، بل مشروع كامل له أهدافه وإستراتيجياته وأدواته، وحين نقرؤها على هذا النحو، ندرك أن معارك الآلة الإعلامية أضحت من أشرس معارك هذا العصر وأخطرها. ذ/ الحسين بكار السباعي محام وباحث في الهجرة وحقوق الإنسان النائب الأول لرئيس المرصد الوطني للدراسات الإستراتيجية.