يطلع علينا محمود درويش من وراء قبره بديوان جديد، لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي، ليس ليذكر بأن الشعراء لا يموتون، وإنما تحديدا لأن قصائده ترسم لنا «غداً صالحا للإقامة». 1. موت محمود درويش، وإن كان فادحا وقاسيا وماثلا أمامنا كحقيقة باردة، فإنه يأتي، بعد سنة من الغياب، ليذكرنا بأن الشعراء لا يموتون. ليس فقط لأن محمود درويش طلع علينا هذا العام، من وراء القبر، بديوان جديد، هو «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي» (رياض الريس2009)، وإنما تحديدا لأن قصائده ترسم لنا «غدا صالحا للإقامة». إنه ليس من طينة من كتبَ كلاما يستعجل ماضيه، حتى نُصدّق موتَه بسهولة، بل من طينة من كتَبَ بأحشاء نازفة من الشعراء التراجيديين، الذين سبقوا موتهم، فتفرجوا عليه من ربوة موغلة في المُستقبل. محمود درويش ابن هذا المستقبل. وهو لم يلعب أدوارا حقيقية مع الموت، منذ صباه المبكر، إلى لحظة «الجدارية» وما بعدها، إلا ليستحق صفة الشاعر التراجيدي، الذي لم يتردد في انتشال أوراق شعرية من جوف الموت، ليمدنا بها قبل أن يُسلم القياد ويستريح. والأوراق القادمة من ذلك الجوف ما تزال تسهر على خوفنا وقلقنا وهشاشتنا، على نحو يذكرنا برحلة جلجامش المُحفزة بموت الصديق . أنكيدو، في الواقع، هم نحن، ومحمود درويش هو بحث جلجامش المتجدد عن عشبة الشفاء من مرض الموت. وليستْ عشبة الخلود، في هذه الحالة، غير قصائد درويش، الحافلة بالترجيعات الميتافيزيقية البعيدة، التي هي تحديدا بلا عمر. 2. ابتدأتْ عبارة محمود درويش غنائية مُلتفتَة للخارج، معانقة للجرح العام، لكنها استوت ملحمية تؤسس لغنائية جديدة مركبة، يشُدها الإيقاع وتلحم عناصرها ثقافةٌ شعرية ودينية وفلسفية وأسطورية بلا ضفاف. وهنا سيكمنُ أكثر ديدنُ التزام محمود درويش، كشاعر أدرك خطورة السياق وهولَ المهمة، فمضى يبحث عن ذلك التركيب الخاص، الذي يسمح للموهبة بالسيطرة على عناصر اللحظة التاريخية، حتى يجعل منها ما يتجاوز الالتزام المباشر، إلى رحابة الفن، التي تُلقحُ القصيدة ضد الزمن، وإن كانتْ، في سطحها المباشر توحي بالشهادة عليه. لكن هذا السطح في القصيدة، يبقى مجرد سطح، يحتاج إلى مَن يتجاوره إلى الطبقات السفلى للقصيدة، ليكشف عن الحياة الشعرية الخلاقة المعتملة هناك. وهنا لا بد من الإعتراف بأن قصيدة درويش، بقدر ما هي ديمقراطية في سعيها إلى الأخذ بِيدِ الجمهور الواسع، بقدر ما هي أرستُقراطية، تفرض شروطا ثقافية دقيقة على قارئها المُختار بعناية، مكرِّسة عدالة الشِّعر قبل المجتمع. وفي هذا الموقع بالذات يُدبِّر محمود درويش كونِيتَه، كشاعر كبير أضاف إلى ديوان الشعر العالمي صفحاتٍ أصيلة من الفن المسبوك بمهارة عالية. 3. تجربة محمود درويش لا تنتظم على وتيرة إيقاع رتيب، وإنما تتقدم في حيزها الجمالي الخاص وفق حركة رشيقة تُشبه حركة الفرس. فما من سكون يَشلُّ أوصالَ القصيدة، وإنما حركة واثقة، تتقدم يمينا وشِمالا، مُستمِدة طاقتها من قوة دفع داخلية، مُستدعِيَة، في طريقِها نحو المجهول، تفجُّراتٍ مجازيةً عريقة، تجعل للقصيدة نسبا طرواديا أو تروبادوريا أو حتى وجوديا، يَجِدُ في تجربة الشعراء الصعاليك، أفقا للعيش على شفير الهاوية. إن تجربة الكتابة هنا، هي تجربة معايشة الخطر، واستنفاد آخر نسغ في كنز الحياة الناقص. إنها تجربة كتابة من أجل الحياة وتجربة حياة من أجل الكتابة، دون أن يكون أيٌّ منهما مفصولا عن حدِّ الخطر. لذلك نذكرُ محمود درويش مرارا عائدا من الموت، بعزيمة الشعراء الوجوديين، الذين يُصرون على استنفاذ الحياة شعراً واستنفاذ الشعر حياة. وأتصور أنَّ محمود درويش، في تجارب الموت السابقة، لم يكن يكتفي بدس قصائده الجديدة بين الضلوع، وإنما كان يحررها في ورق أبيض يخفيه بعناية تحت الملاءات البيضاء لغرفة العناية بالمُستشفى. 4. تتقدمُ قصيدة محمود درويش بهدوء حي (حركة الفرس)، لكنها ليست من نوع الشعر المُعَذَّب بماضيه، خاصة إذا كان ذلك الماضي يُشكل مُنعََقَدا لِتطلُّعات جمعية مُلِحة، كما هي الحال بالنسبة إلى شاعرنا. لقدْ تَرك محمود لقصيدته فرصة التدفق بحرية واعية، خارج قيودها الخاصة. وإذا كان الشعب يريدُ ناطقا بوجدانه، فإن البلد، خارج حاجياته المُستعجلة، التي يُمكن أن تتكفَّل بها البندقية والسياسة، يريد شاعرا يمنح فلسطين ما يفيض عن حاجتها الآنية من القوة والمجد. هذا ما أدركه درويش، في وقت مبكر، فاستجاب له، مُلبيا، في آن واحد، شروط موهبة متطلبة، لا تقف عند حدود عقيدة فنية وإيديولوجية مكبِّلة، وإنما تسعى دائما نحو اختراقها، بما يكشف عن انصات عميق إلى صوت الوجود، ولنداء الشعر الذي لا يستقر مفهومه على حدِّ أو حال. لقد كتب محمود درويش القصيدة الغنائية، كما كتب القصيدة الملحمية المُركبة. كتبَ السُّنَيتة كما كتب الشذرة وقصيدة النثر. ولعل ما وقَّعه في كتابيه «في حضرة الغياب» (2006) أو «أثر الفراشة» (2008)، تحت تجنيس مراوغ هو «نص» «يوميات»، يستجيب لرهان شعري جوهري، يعثر على الشعر في غير أرضه القديمة، في زمن ضاقت فيه الحدود بين الأجناس الأدبية. إن حدود الشعر، إن لم تكن وهمية، فهي على الأقل غير قارة. هذا ما تُعلِّمُنا إياه قصيدة محمود درويش، وهي تُنصتُ إلى زمنها وإلى حدوس الشعر ذات الأجراس البعيدة. لقد حيّى محمود درويش، في طريقه إلى الشعر، ليس فقط الشعراء السابقين، وإنما أيضا شعراء لاحقين من أجيال جديدة. فقد أهدى سليم بركات شعرا، واستعار من باسم حجار مقطعا من قصيدة رفعه إلى مقام التصدير. هذه الحركة الرقيقة، لا تكشف فقط عن كرم وإنما كذلك عن دين. لقد استفاد محمود درويش من التجارب الشعرية الجديدة وحاورها بذكاء، فتحررتْ عبارته من وطأتها، كما اتجه الإيقاع ليقرب الشعر من النثر، مطوعا التفعيلة لتتخفف من بذخها الغنائي. وإذا كان هذا الأمر ينسحب على أعمال مثل «لماذا تركتَ الحصان وحيدا» (1995) أو «لا تعتذر عما فعلت» (2004)، فإن عملا مثل «أثر الفراشة»(2008)، يستجيبُ لذائقة كتابة قصيدة نثر شديدةِ الأصالة، من حيث رهانُها على تحويل اليومي النافل إلى ذهبٍ شعري خالص. إن رهان تجديد الشكل لم يستكن يوما في تجربة محمود درويش، التي دخلت التجريب بحذر، ولكن أيضا باستعداد وثقة في المجهول. 5. لا ينبغي أن نُصدِّق موت محمود درويش. وهو إذا كان قد استراح في سريره الأبدي، فإن المجهول لم يكف أبدا عن النبض في شرايين قصيدته، منذ بدأتْ تتنفس الهواء. لذلك فنحن مدعوون، في الواقع، إلى القطع مع كل ممارسة نقدية، تزج بتجربة الشاعر في الماضي، وتنظر إليها كأرض مستكشَفة. إنَّ مثل هذه الأفعال التي يُحَرِّضُ عليها الموت، والمُناسبات العامة، هي التي كان سيحتجُّ عليها الشاعر، لو قُدِّر له التكلم من وراء القبر، بعد أن تدمرَ، في حياته، من ذلك الحب القاسي الذي طوَّقناه به. تجربة محمود درويش ما تزال حية، والمجهول فيها قادر على مخاطبتنا من شرفات الزمن القادم.