ذهب محمود درويش إلى أمريكا لتلبية نداء الموت، وترك بأدراج بيته بعمان حزمة قصائد، تشكل كلمته الأخيرة لنا نحن أبناء الحياة. لا يلتفتُ إلينا الآن محمود درويش إلا عبر هذه القصائد التي تؤنس وحشتنا الوجودية، وتملأ حياتنا بكثير من الزنبق، الذي بذره الشاعر من حبات قلبه. قصائد درويش الأخيرة، أصبح بالإمكان الاطلاع عليها، من خلال ديوان «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»، الصادر حديثا عن رياض الريس(مارس2009)، بفضل جهود الروائي اللبناني إلياس خوري، التي أثارت، مؤخرا، سجالا في الصحافة الثقافية العربية، حول بعض الهنات العروضية، التي علقت بقصائد درويش، المعروف بحساسيته الإيقاعية المفرطة. ينقسم هذا الإصدار الأخير إلى ثلاثة أبواب: «لاعب النرد»، «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي» و«ليس هذا الورق الذابل إلا كلمات». وبينها ينتشر متن من أكثر من ثلاثين قصيدة، مختلفة الطول والبناء، تتأرجح بين التوليف الشذري والجنوح الغنائي والملحمي، الذي أصبح من علامات البرهة الشعرية الدرويشية، التي ولجتْ منطقة شائكة من الأسئلة الوجودية، المقترنة أساسا بتجربة مواجهة الموت، مواجهة استعارية خرج منها محمود درويش بكثير من الدفق الابداعي الخاص والمميز، الذي جعل قصائده تنتسب، عن جدارة، إلى سلالة شعرية قوية، يعود نسبها البعيد إلى ملحمة جلجامش. ينشد الشاعر، في أطول قصائد المجموعة «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»، حياة شعرية لا حدود لاجتراحاتها وقلقها واختلافها ودفقها، حياة تراهن على مزيد من الزمن لتوريط الشعر أكثر في ما يتجاوز حدوده، وفيما يجعل القصيدة تنتصب ضد تاريخها، إيقاعها، لغتها، بل وحتى ضد حركتها الخاصة في الانفلات من وطأة الزمن ذاته، وهو ما يجعل منها صدى لهواجس تُخرج الشعر عن الانتباه للأساسي في الحياة والفن: «لا أريدُ لهذي القصيدة أن تنتهي أبدا/ لا أريد لها هدفا واضحا/ لا أريد لها أن تكون خريطة منفى/ ولا بلدا/ لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي/ بالختام السعيد ولا بالردى/ أريد لها أن تكون كما تشتهي أن تكون: قصيدة غيري. قصيدة ضدي. قصيدة ندِّي../ أريد لها أن تكون صلاة أخي وعدوي./ كأن المخاطب فيها أنا الغائب المتكلم فيها/ كأنَّ الصدى جسدي. وكأني أنا/ أنتِ، أو غيرنا. وكأني أنا آخري!» (ص74/75). إن الشاعر لا يلتمس طريقه إلى القصيدة، إلا وهو يكابد نار مواجهة جماليات الشعر السابق عليه، وجماليات تاريخ قصيدته الخاصة التي أصبح لها سطوة، لأجل مواجهة الموت بإيقاع ولغة متجددين، صاعدين من الأحشاء، ومن معرفة خصّها الشاعرُ بحياته كاملة، مستنفرا في طريقه إلى القصيدة المغايرة كل قواه الإبداعية الخلاقة. وقد كان الحوار أحد أدوات إضفاء الطابع الدرامي على شعرية آلمها الموتُ، فلم تنقطع عن كتابته، مستحضرة مخاطبا أنثى لها تظهر له هيئة مخصوصة في القصيدة: «يقول لها، وهما ينظران إلى وردة/ تجرحُ الحائط: اقتربَ الموتُ منّي قليلا/ فقلتُ له: كان ليلي طويلا/ فلا تحجب الشمسَ عنّي!/ وأهديتُه وردةً مثل تلك.../ فأدّى تحيته العسكرية للغيب،/ ثم استدار وقال: إذا ما أردتُك يوما وجدتُك/ فاذهبْ»(ص65). يذكر محمود درويش زيارته للموت في تجربة سابقة. زيارة ألهمته خطابا شعريا حارا، مشتْ في القصائد على صفيح ساخن، لتتعمق أكثر جراح الشاعر الوجودية، فلم يعد يغني فقط طردا ومنفى جعل منه الشاعر، في تجارب سابقة، منعقدا لتوشجات شعرية أسطورية ودينية، وإنما ذهبتْ رأسا إلى «الموت» منبع كل الجراح، التي نحمل بذرتها بداخلنا: «أنا قادمٌ من هناك/ سمعتُ هسيسَ القيامةِ، لكنني/ لم أكن جاهزا لطقوس التناسخ بعد،/ فقد يُنشد الذئبُ أغنيتي شامخا، وأنا واقف، قرب نفسي، على أربع/ هل يُصدّقني أحد إن صرختُ هناك: أنا لا أنا/ وأنا لا هو؟/ لم تلدني الذئاب ولا الخيل...إني خلقتُ على صورة الله/ ثم مُسختُ إلى كائن لغوي»(ص66). في الواقع، لم يكف محمود درويش، منذ ال «جدارية»(2000) عن محاورة الموت ومساجلته، مناجاته والهزء منه، التودد إليه والسخرية منه، الانتصار عليه والاستسلام لسطوته، تمجيده والتقليل من شأنه. بين هذين الحدين، كان محمود يُطلق العنان لقصيدته، لتجوب أراضي وسماوات وعرة، لا يحلق فيها إلا الشعراء المنتَسبون إلى نسب إيكاري، يقترن لديه التحقق بتراجيديا السقوط. غير أنه سقوط لا يأتي إلا بعد أن يكون الشاعر قد استبق موته، وهيأ مرثيته الخاصة: «ولنعتنِ الآن بالوردة الليلكية/ ولتُكمل الأبدية أشغالنا دوننا،/ إن أطلنا الوقوف على النهر أو/ لم نُطل. سوف نحيا بقية هذا/ النهار. سنحيا ونحيا. وفي الليل،/ إن هبط الليل، حين تنامين فيّ/ كروحي، سأصحو بطيئا على وقع/ حلم قديم، سأصحو وأكتب مرثيتي./ هادئا هادئا. وأرى كيف عشتُ/ طويلا على الجسر قرب القيامة، وحدي/ وحرا. فإن أعجبتنيَ مرثيتي دون/ وزن وقافية نمت فيها ومتُّ وإلا تقمصتُ شخصية الغجري المهاجر: قيتارتي فرسي»(ص80/81). في قصيدة «لاعب النرد»، تأخذ مواجهة الموت مسلكا آخر، يبدأ بالارتياب، والصدور عن نزعة قدرية، تكون معها المصائر مرسومة سلفا، فتتجه القصيدة نحو استحضار محطات من الحياة، تُفصح عن هشاشة لا يد للإنسان في تقويمها أو دفع الأذى عنها. إن الحقيقة الكبرى التي أدركها الشاعر، بعد كل هذه المنازعات الوجودية، هي أنه مجرد لاعب نرد: «أنا لاعب النرد،/ أربحُ حينا وأخسر حينا/ أنا مثلكمْ/ أو أقل قليلا.../ وُلدتُ إلى جانب البئرٍ/ والشجرات الثلاث الوحيدات كالراهباتْ/ وُلدتُ بلا زفّة وبلا قابلةْ/ وسُميتُ باسمي مصادفةً/ وانتميتُ إلى عائلةْ/ مصادفة وورثتُ ملامحها والصفات»(ص35/36). لا شيء يخرج بالنسبة إلى الشاعر عن قانون الصدفة. من المجيء إلى الحياة إلى الذهاب إلى الموت، بعد تجارب من اختبار الأهوال لا دخل لأيدينا في اختيارها: «كان يمكن أن لا أكونْ/ كان يُمكن أن لا يكون أبي/ قد تزوج أمِّي مصادفةً/ أو أكونْ / مثل أختي التي صرختْ وماتتْ/ ولم تنتبه أنها وُلدتْ ساعة واحدةْ/ ولم تعرفْ الوالدة»(ص37). يذكر الشاعر حادثة نجاته من الغرق، فيقول: «لا دور لي في المزاح مع البحر/ لكنني ولدٌ طائش/ من هواة التسكع في جاذبية ماءٍ/ ينادي: تعال إليّْ!/ ولا دور لي في النجاة من البحر/ أنقذني نورسٌ آدمي، رأى الموجَ يصطادني ويشلُّ يديّْ»(ص39). يعرج الشاعر في «لاعب النرد» على حوادث عديدة، كاشفا عن إزميل القدر الذي نحت شخصيته بدقة، وعن رياح الغيب التي دفعت بشراع حياته في اتجاهات بعينها، يستحضرها الشاعر في هذه اللحظة من حياته، التي ربما حدس أنها كانت موشكة على الانطفاء. لذلك حيَّا في الطريق فنانين شعراء وكتابا يعزهم، فشمل كلا من سليمان النجاب، وإميل حبيبي ونزار قباني، والشعراء الشبان، بعطفه ومحبته، ومضى مسرعا لكي يلبي نداء الموت: «إذا أردتُك يوما وجدتُك».