-1 كان لقائي بمحمود درويش، ظهر ذلك اليوم من شهر أيلول ( شتنبر ) ملتبسا وغريبا. ذهبت إلى عمان للاشتراك في اجتماعات اللجنة التحضيرية لمؤسسة محمود درويش. مساء اليوم الذي سبقه التقيت بأحمد درويش والمحامي جواد بولص، الآتيين من الجليل، وبعلي حليلة ومارسيل خليفة، في باحة الفندق. علي الذي رافق، مع أكرم هنية، الشاعر في رحلته الأخيرة إلى هيوستن بتكساس، حيث أجريت له جراحة الشريان الأبهر التي أودت به، روى لنا الأيام الأخيرة من حياة الشاعر، وتطور الانهيار الجسدي الشامل الذي أصابه بعد الجراحة. كانت ليلة حزينة، لا أدري كيف أصفها الآن، لكنني أراها مثل منام مغطى بالبياض. لم يجعلني كلام علي حليلة اقتنع بأن محمود درويش مات، حتى عندما أضاف أكرم هنية بعض التفاصيل الصغيرة، وروى لنا أن درويش رأى في منام ليلته ما قبل الأخيرة معين بسيسو، وتساءل ماذا جاء معين يفعل هنا؟ لم أقتنع. فالموت حين يأتي يتشكل كحجاب سميك يفصل عالم الإحياء عن عالم الموتى. نتحدث عن الميت بصيغة الغائب، وننسى صوته. لكن مع درويش بدا لي الموت بعيدا. كنت استمع إلى الحكايات التي تروى، وأنا أتلفت يمينا وشمالا، كأنني انتظر وقع دعسات درويش في إي لحظة. لكنه لم يأتِ، تركنا نحكي عنه كما تشاء لنا الذاكرة أن نحكي، ولم يكسر دائرة كلامنا بمزاحه وملاحظاته اللامعة. في صبيحة اليوم التالي، عقدت اللجنة اجتماعها الأول بعدما انضم إلينا ياسر عبد ربه، وأكرم هنية، وغانم زريقات، وخالد الكركي، واحمد عبدالرحمن، وصبيح المصري. ناقشنا مطولا مسألة تشكيل المؤسسة، وتكلمنا عن الضريح، والحديقة التي ستقوم حوله، ومتحف الشاعر الذي سوف يبنى في المكان. تكلمنا في كلّ شيء، لكنني في الواقع كنت أنتظر نهاية الاجتماع بلهفة، كي نذهب مع علي حليلة إلى بيت الشاعر في عبدون. لم يدخل احد إلى المكان منذ أن غادره درويش في رحلة موته إلى أميركا. وكان على مجموعة منا أن تدخل إلى البيت بحثا عن قصائده الأخير. قال محمود لعدد من أصدقائه إنه يملك ديوانا جديدا جاهزا في غرفة مكتبه في منزله في عمان، وأكد ذلك ناشره رياض نجيب الريّس. فتح علي حليلة الباب ودخلنا. كان كل شيء على حاله. البيت يشبهه، أناقة من دون بذخ، وإيقاع هادئ تصنعه اللوحات المنتشرة، ومكتبة تضم كتّاب العرب والعالم أمواتا وإحياءً. «لسان العرب» إلى جانب ديوان المتنبي، مجموعات شعرية وروايات في كل مكان، مرتبة وتشير إلى أنها قُرئت أو في طريقها إلى ذلك. لا أدري لماذا عجزنا عن النطق، وحين تكلمنا لم تصدر عنا سوى أصوات هامسة. أحمد درويش، شقيق الشاعر، جلس على الكنبة في الصالون وانفجر بكاء. مارسيل خليفة جلس إلى جانبه مواسيا. دخلت مع جواد بولص إلى المكتب، حيث من المفترض أن نجد الديوان. كنت انتظر أن أجد المخطوط على سطح المكتب، لكنني لم أجد شيئا. كنت انتظر أن أجد رسالة تشرح لنا ماذا يجب أن نفعل بالديوان، لكن الرسالة لم تُكتب. لم يكتب محمود درويش وصية. ليلة الجراحة طلب من علي حليلة وأكرم هنية أن يبقيا معه، لأنه يريد أن يتكلم، لكنهما نصحاه بالراحة، لأن وقت الكلام سيأتي بعد نجاح العملية الجراحية! لم يكتب درويش وصية ولم يتكلم، رغم كل الأخطار التي كان يعرف أنها في انتظاره. عندما استمعت إلى علي وأكرم يرويان الوحدة التي كان يشعر بها الشاعر المستلقي على سرير المستشفى الأميركي، أصبت بالقشعريرة، وشعرت بالخوف. في هذه المجموعة من القصائد، سوف نقرأ قصيدة عن الخوف، وندخل مع الشاعر لحظات النهاية التي يرسمها الخوف من النوم الأبدي على وجوهنا وأجسادنا. وقفنا أمام المكتب الفارغ حائرين، كنت متأكدا من وجود الديوان، لأن درويش نشر منه ثلاث قصائد في الصحف هي: «على محطة قطار سقط عن الخريطة» و»لاعب النرد» و»سيناريو جاهز»، وقرأ ثلاث قصائد غير منشورة في الأمسية الأخيرة التي أقامها في رام الله، هي: «ههنا، الآن، وههنا والآن» و»عينان» و»بالزنبق امتلأ الهواء». وهو منذ أعوام توقف عن نشر قصائد متفرقة قبل أن يكون قد أنجز الديوان الشعري الذي سوف يضمها. كما أن درويش أصيب في الأعوام العشرة الأخيرة، وهي الأعوام التي أعقبت جراحة الشريان الأبهر، التي أجريت في باريس عام 1998 ، بحمّى الشعر. كتب «الجدارية»، وتوقف تقريبا عن ممارسة أي نشاط آخر، سوى كتابة الشعر. كانت هذه الأعوام، أخصب أعوامه على الإطلاق، فيها نضجت تجربته وتألقت، وارتسمت صورته كأكبر شاعر عربي حديث. لم نفهم دلالات هذه الحمّى، أو رفضنا أن نفهمها، في وصفها نسجا لعلاقة الكلمات بالموت، حيث يخاطب الشاعر الأحياء والموتى، ملخصاً كل الشعراء في صوته المتفرّد. في الأعوام العشرة الأخيرة كان محمود درويش يحوّل العلاقة بالموت قصيدة، ورؤيا النهاية مقتربا إلى البداية. «من أنا لأخيّب ظن العدم»، يسأل درويش في نهاية قصيدته «لاعب النرد». حيث يصل إلى ذروة العلاقة التراجيدية بين الكلمات التي تقاوم العدم، وتفتح أفق استمرارية الحياة وديمومتها المتجددة، وبين هشاشة الجسد الإنساني الذي يقود الأفراد إلى الاضمحلال. كنا نتعامل معه كما يحب، أي باعتبار الحياة مائدة للصداقة والمتعة والإبداع، ولم نكن نحكي عن المرض إلا نادراً. خطر في بالي أن الديوان في الدُرج، حاولت فتحه، لكن اضطرابي أوحى لي بأن الدرج مقفل بالمفتاح. أين المفتاح، سألت؟ بحثنا عن المفتاح فلم نجده. قلت يجب أن نخلع الجارور، حين امتدت يد احد الأصدقاء وفتحت الدرج، انفتح بسلاسة. أكوام من الأوراق. وقعت عيناي في البداية على قصيدة «طباق»، المهداة إلى ادوارد سعيد، المنشورة في ديوان «كزهر اللوز أو ابعد» مكتوبة بخط اليد. من المؤكد أن درويش وضعها هنا، كي يقرأها في محاضرة ادوارد سعيد التذكارية التي تنظمها جامعة كولومبيا في نيويورك في نهاية شهر أيلول، لكن الموت جاء، معلنا الوداع النهائي «لشعر الألم». بحثنا أنا والمحامي جواد بولص شبه يائسين، وفجأة رأيت دفتر «بلوك نوت» ذا غطاء ازرق وضعت فيه القصائد. أولى القصائد كانت «لاعب النرد». قلبت الصفحات فعثرت على قصيدتي «عينان»، و»بالزنبق امتلأ الهواء». بحثنا في الدرج عن قصائد أخرى، فعثرنا على مسودات قصائد قديمة منشورة، لكننا لم نعثر على قصائد جديدة. رقمنا المخطوط، وصورنا منه صورتين. أعدنا الأصل إلى الدرج في مكانه، واخذ احمد شقيق الشاعر نسخة، بينما احتفظت أنا بالنسخة الثانية. وقرّ رأي الجميع أن يُعهد لي بالقصائد، كي أعدها للنشر، واكتب حكايتها، على أن تصدر في 13 مارس 2009 ، أي في يوم عيد ميلاد الشاعر، فتكون قصائده الأخيرة هديتنا إلى من أهدى العرب والفلسطينيين أجمل القصائد. أخذت القصائد إلى غرفتي في الفندق، أقفلت الباب وقرأت، وشعرت بالحزن الممزوج بالعجز عن القراءة. في المساء سهرنا في حديقة منزل علي حليلة، وكانت القصائد معي، طلبوا مني أن اقرأ، فقرأت متلعثما. كانت تلك القراءة سيئة وعاجزة، كيف اقرأ وأنا متيقن من أن درويش سوف يفاجئنا في أي لحظة ويسخر من وجوهنا الحزينة. لم ينقذ الليلة سوى مارسيل خليفة، أمسك بعوده وغنى الشعر الذي صار أشبه بالدموع. كانت كلمات درويش وموسيقى الروح في قصائده، تلفنا وتأخذنا إليها. كان الحزن، ولا شيء آخر. بدل أن نفرح بالديوان احتلنا شبح الغياب. الحقيقة أن المشاعر اختلطت، إذ كنا، ونحن نعمل في المنزل نشعر بالحضور السري والغريب للشاعر. (...) في صباح اليوم التالي، وبينما اشرب قهوتي رن الهاتف، وسمعت صوت مارسيل خليفة يطلب مني المجيء إلى منزل درويش لأن غانم زريقات عثر على القصيدة. في المنزل أخذت قصيدة طويلة بلا عنوان، مكتوبة بخط يد درويش في خمس وعشرين صفحة. وعلى عكس الكثير من القصائد التي وجدناها، فإنها ناجزة، ولا اثر فيها للتشطيب أو اقتراحات التعديل. قرأت القصيدة التي قفز عنوانها من بين السطور من دون أي جهد: «لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي»، ووجدتني أمام عمل شعري كبير، قصيدة تصل بالمقترب الملحمي- الغنائي الذي صاغه درويش إلى الذروة. ومعها عثرنا على خمس قصائد جديدة. في تلك اللحظة اقتنعنا أننا أمام عمل شعري كبير يشكل إضافة حقيقية إلى الديوان الذي تركه الشاعر (...).. -2- وجدنا القصائد على الشكل التالي: في اليوم الأول وجدنا في درج المكتب دفتر (بلوك نوت) لون غلافه ازرق، وفي داخله وضعت اغلب قصائد هذا الديوان. لم يكن هناك ترقيم موحّد، بل رقمت صفحات كل قصيدة على حدة. يستخدم درويش في ترقيمه الأرقام الهندية، فقمت بترقيم الصفحات بالأرقام العربية، محافظا على التتابع الذي وجدته، فكان عدد الصفحات 117 صفحة. قمنا بتصوير القصائد في نسختين: احتفظت بواحدة، وأخذ احمد درويش والمحامي جواد بولص نسخة ثانية، واعدنا النسخة الأصلية إلى الدرج حيث كانت. ضمّ الدفتر 26 قصيدة هي على التوالي: - 1 لاعب النرد، - 2 على محطة قطار سقط عن الخريطة، - 3 سيناريو جاهز، - 4 بالزنبق امتلأ الهواء، - 5 هذا المساء، - 6 مسافر، - 7 عينان، 8- واقعيون، - 9 الخوف، - 10 هنا الآن وههنا والآن، - 11 من كان يحلم، ) بلا عنوان(، 12- إلى شاعر شاب، - 13 فروسية، - 14 نسيت لأنساك، )بلا عنوان( - 15 هنالك حب بلا سبب، )بلا عنوان(، - 16 إذا كان لا بد من قمر، )بلا عنوان( - 17 يأتي ويذهب، - 18 ما أسرع الليل )بلا عنوان( - 19 كأن الموت تسليتي، )بلا عنوان( - 20 لو ولدت، )بلا عنوان( 21- كلمات، - 22 لن أبدل أوتار جيتارتي، - 23 تلال مقدسة، - 24 في رام الله، - 25 محمد، 26- موعد مع إميل حبيبي. وصباح اليوم التالي، عثر غانم زريقات واحمد درويش على 6 قصائد، لم أضمها إلى الترقيم القديم وهي: - 1 في بيت نزار قباني، - 2 طللية البروة، - 3 قمر قديم، - 4 ورغبت فيك رغبت عنك - 5 ليل بلا حلم، - 6 لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي، )بلا عنوان(. من الواضح أننا لم نعثر على الديوان في نسخته النهائية، لكننا كنا على ثقة، وخصوصا بعد عثورنا على القصيدة الكبرى: «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»، أننا عثرنا على كنز ثمين. ولا بد أن أشير هنا إلى أن هذه المجموعة تضم قصائد كتبت في فترة سابقة: في بيت نزار قباني، قمر قديم، الخوف، موعد مع إميل حبيبي... قمت بتصنيف القصائد التي عثرنا عليها في أربعة أقسام: -1 القصائد الناجزة، التي نشرها الشاعر أو ألقاها في أمسية رام الله قبيل وفاته، وهي: «لاعب النرد»، «على محطة قطار سقط من الخريطة»، «سيناريو جاهز»، القصائد الثلاث نشرت في جريدتي »الأيام» في رام الله، و«القدس العربي» في لندن. إضافة إلى قصائد: «بالزنبق امتلأ الهواء» و«عينان» و«ههنا، الآن، وههنا والآن» التي ألقاها الشاعر في أمسيته الأخيرة في رام الله، وقصيدة «محمد»، التي نشرت في عدد كبير من الصحف العربية. من الواضح أن هذه القصائد وصلت إلى صيغتها النهائية، ولن يطرأ عليها أي تعديل يذكر، لأن درويش اشرف على نشرها، لذلك ننشرها كما وجدناها. مع الإشارة إلى ثلاث مسائل: أ- قصيدة سيناريو جاهز وجدت في المخطوط تحت عنوان سيناريو ناقص. ب- حين قرأ درويش قصيدة «لاعب النرد» في رام الله، استبدل كلمة «هشا» بكلمة «حيا» في احد أسطر القصيدة، فقرأه كما يلي: « ومن حسن حظي أني ما زلت حياً لأدخل في التجربة»، لكنني آثرت نشر النص مثلما نُشر في «القدس العربي» بتاريخ 3 تموز 2008 ، لأن الشاعر سبق له أن غيّر بعض الكلمات في أمسياته، من دون أن يحدث تعديلا في النص المنشور. ج- في قصيدة «عينان»، أحدث الشاعر تعديلا طفيفا عليها في أمسية رام الله، إذ حذف «ثم أعلى» بعد كلمة «أعلى»، فقرأ السطر على الشكل التالي :«ترفعان الحور والصفصاف أعلى. تهربان من المرايا فهي أضيق منهما.» كما أحدث في الأمسية نفسها تعديلا آخر على قصيدة «ههنا، الآن، وههنا والآن»، إذ استبدل كلمة «علوا» التي تتكرر بكلمة «سموا»، فقرأ السطر على الشكل التالي: «على الأشجار أن تعلو وان لا تشبه الواحدة الأخرى سموا وامتدادا». اعتمدت التعديلين لأنهما منطقيين من جهة، ولأن الشاعر لم ينشر القصيدتين، فاعتبرت إلقاءهما بمثابة النشر من جهة ثانية. 2 - اثنا عشر قصيدة بدت وكأنها قد وصلت إلى نسختها النهائية، إذ لا اثر فيها للتشطيب أو التعديل أو اقتراح التعديلات هي : بالزنبق امتلأ الهواء، عينان، ههنا الآن وهنا والآن، هذا المساء، يأتي ويذهب، في رام الله، موعد مع إميل حبيبي، طللية البروة، قمر قديم، ورغبت فيك رغبت عنك، ليل بلا حلم، لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي. هنا يجب التوقف عند قصيدتين: «طللية البروة» و»ورغبت فيك رغبت عنك». في القصيدة الأولى وضع درويش خطا تحت كلمة «الأولى»، في جملة: «أنا ابن حكايتي الأولى»، كما وضع خطا تحت كلمة «إلى المنفى»، في جملة: «لم اكبر فلم اذهب إلى المنفى». ووضع علامة استفهام على هامش كلمة «وبالرحيل»، في المقطع الذي يقول: «قفا... لكي ازِن المكان وقفره بمعلقات الجاهليين الغنية بالخيول وبالرحيل». من الواضح أن الشاعر كان مترددا حيال هذه الكلمات، لكنه لم يقترح بدائل لها، فبقيت على حالها في النص النهائي الذي أعددناه للنشر. أما القصيدة الثانية، فقد وجدنا نسختين منها، الأولى مسودة ومليئة بالتشطيب واقتراحات التعديل، والثانية نهائية لا اثر للتشطيب فيها، وهي المنشورة في هذا الكتاب. قصيدة «في رام الله»، المهداة إلى سليمان النجّاب، تحمل في مقطعين منها تضمينا من قصيدة سابقة لدرويش تحمل عنوان: «رجل وخشف في الحديقة»، من ديوان «لا تعتذر عما فعلت». وقد وضع الشاعر المقطعين ضمن مزدوجين، وهذا يدلّ على أن قصيدة «في رام الله»، كتبت بعد قصيدة «رجل وخشف في الحديقة». وهي القصيدة الوحيدة التي كتبها درويش عن المدينة التي سيُدفن فيها. -3 قصيدة «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»، هي عمل كبير بكل المقاييس، بل استطيع القول إنها الكلمة الأخيرة التي قالها درويش. فيها يصل التألق الشعري إلى ذروته، حيث يمزج الشاعر السرد بالغنائية والملحمية، في خلاصة مدهشة لعلاقة الشاعر بذاته وأرضه وحكاياته وموته. لذا آثرنا نشر هذه القصيدة المتفردة في قسم خاص بها، في هذا الديوان. قد تكون قصيدة غير منتهية، وهي كذلك، لأن الشاعر أراد لها ألا تنتهي، كأنه كان يحاول أن يشتري بها الحياة. نجد في هذه القصيدة تضمينين من قصيدتين منشورتين، وتضميناً من قصيدة غير منشورة. التضمينان الأولان مأخوذان من قصيدتين نشرتا في مجموعة «كزهر اللوز أو ابعد». التضمين الأول هو المقطع التالي: «عصافير زرقاء، حمراء، صفراء، ترتشف الماء من غيمة تتباطأ حين تطل على كتفيك»، وهو مأخوذ من قصيدة «نسيت غيمة في السرير»، لكن الشاعر استخدم هنا صيغة المخاطب في «كتفيك»، بدل صيغة الغائب في القصيدة المنشورة. اللافت أن الشاعر وضع المقطع في «نسيت غيمة في السرير»، بين هلالين. فهل كان يشير هنا إلى قصيدة طويلة بدأ في كتابتها؟ لا ادري. أما المقطع الثاني فيقول: «وأما الربيع، فما يكتب الشعراء، إذا نجحوا في التقاط المكان السريع بصنّارة الكلمات». وهو مأخوذ من قصيدة «وأما الربيع»، لكنه حذف هنا صفة السكارى عن الشعراء، التي جاءت في القصيدة المنشورة. تنتهي القصيدة بمقطع غنائي يبدأ بعبارة « لن أبدل أوتار جيتارتي/ لن أبدلها». لكننا عثرنا في المخطوط على قصيدة تحمل عنوان «لن أبدل أوتار جيتارتي». ترددت طويلا أمام نشرها، لكن احد مقاطعها حسم الأمر وقرر ضرورة أن يضمها هذا الديوان: «المكانُ على أرضه، هل أسأت إلى الشجرة حين شبَّهتها بفتاة )وبالعكس( هل اطلب المغفرة من مقابر أهلي، لأنيَ متُّ بعيداً عن النائمين وأنقصتها شاهدة؟» -4 بقية قصائد الديوان، وجدت كمخطوطات كتب عليها الشاعر تعديلات، وشطب منها بعض العبارات. ونحن نعلم، أن هذا يعني في القاموس الدرويشي، أننا أمام أعمال غير منتهية.(...) هل يجوز نشرها؟ وإذا لم ننشرها فماذا نفعل بها؟ لكن سؤالا آخر طرح نفسه بقوة، هل يحق لنا عدم نشرها؟ وتركها تاليا في أرشيف الشاعر حيث يمكن أن تنشر مبعثرة أو مجتزأة من قبل الدارسين الذي سيوضع ما وجدناه من أرشيف درويش في تصرفهم؟ بالطبع لا يحق لأحد إتلاف أي ورقة، وحده الشاعر كان يملك هذا الحق. لذا استقر الرأي على نشرها كلها من دون استثناء. لم احدث أي تعديلات على هذه القصائد، قرأتها بدقة، نفذت اقتراحات الشاعر بتغيير كلمة هنا أو هناك، طبعتها على الكومبيوتر وأرسلتها للنشر. لكن يجب أن نتوقف هنا عند ثلاث قصائد. القصيدة الأولى: «في بيت نزار قباني». وضع درويش عنوانا أول لهذه القصيدة هو:«منازل الشعراء»، لكنه شطبه واستبدله بالعنوان الحالي. تبدأ القصيدة كما وجدت في المخطوط بالمقطع الصغير التالي: «أثاث من الصين ازرقُ، صالونهُ أزرقُ، والستائرُ زرقاءُ، عيناهُ، ألفاظه، والدفاترُ زرقاءُ» وضع الشاعر على هامش هذا المقطع خطا وإشارة X وهي إشارة تدل على نية الحذف. ومن خلال قراءة القصيدة وجدنا أن مضامين هذا المقطع وصوره دخلت في نسيجها الداخلي، لذا حذفناه. السطر الأخير من المقطع الثالث كان على الشكل التالي: «صورتي كتبت سيرتي ونفتني إلى الضوء». رسم الشاعر خطا تحت كلمة «الضوء» لأنها خروج على القافية، وكتب تحتها كلمة الأبدية، ثم أشار إلى احتمالين آخرين كتبهما في أعلى الصفحة هما: الغرف الداخلية أو الغرف الساحلية. هنا كان علينا أن نختار، فاخترنا الغرف الساحلية لأنها اقرب إلى المعنى المائي الذي يشير في بداية المقطع إلى بردى. القصيدة الثانية: «نسيت لأنساك»، كان الشاعر مترددا أمام السطر الأخير من القصيدة، شطب اقتراحه الأول واستبدله بهذا السطر: «حاضري غيمة... وغدي مطر». من الواضح أن درويش كان لا يزال في طور البحث عن الكلمة الأخيرة الملائمة كي يحافظ على القافية، فمات قبل أن ينجز ذلك. كما نجد في هذه القصيدة تضمينا من قصيدة: «لن أبدل أوتار قيتارتي»، على الشكل التالي: «قلت: ولكنني لن أبدل أوتار جيتارتي لن أبدلها/ لن احمّلها فوق طاقتها: نغما يابسا مقفرا». اترك تفسير دلالة هذا التكرار للنقاد، لكنني لا استطيع أن لا أرى فيه إيقاعا وداعيا حزينا. القصيدة الثالثة: «الخوف». عكس جميع القصائد فان درويش رغم ترقيمه لقصيدته في طرف الصفحة الشمالي الأعلى، فانه وضع رقم 6 في وسط الصفحة فوق العنوان مباشرة. هل يدل هذا على أن الشاعر كان في صدد ترقيم ديوانه + أم على شيء آخر» لا ادري لأنني لم استطع حلّ هذا اللغز. القصيدة مكتملة، احدث عليها الشاعر العديد من التعديلات، لكنها تعديلات واضحة لا تحتمل أي تأويل. 5 - هناك العديد من القصائد التي تركت بلا عنوان، فأخذت سطرها الأول كعنوان، وهذا ما سبق للشاعر أن اعتمده في الكثير من الحالات. لكنني خرقت هذه القاعدة في قصيدة «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»، لأن عنوانها أشبه بالبديهة. كما جعلت من عنوان هذه القصيدة عنوانا للديوان، لما يحمله من دلالات. أما عنوان قصيدة «كأن الموت تسليتي»، فمأخوذ من عجز البيت الأول فيها. -6 قسمت الديوان إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول بعنوان: «لاعب النرد»، وهو يبدأ بالقصيدة التي استهل بها أمسيته في رام الله، ثم حافظنا في القصائد الثلاث التي نشرت في الصحف، على ترتيبها الزمني. القسم الثاني: خصصناه لقصيدة واحدة هي «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي». أما القسم الثالث: ليس هذا الورق الذابل إلا كلمات، فقد حاولنا فيه إيجاد نوع من التناغم ألموضوعاتي. حاولت أن يكون ترتيب القصائد منطقيا إلى ابعد الحدود، ولا ادّعي على الإطلاق أن هذا الترتيب قد يكون هو الترتيب الذي كان سيختاره الشاعر. فدرويش يضع عناوين للأقسام، ويهندسها، في شكل متسق. للأسف تفتقد هذه المجموعة الهندسة الدرويشية الصارمة، التي جعلت من دواوينه الأخيرة، أشبه بمقاطع من قصيدة واحدة أو عدة قصائد طويلة، متعددة الصوت والإيقاع. 7 - ترددت طويلا أمام قصيدتي: »تلال مقدسة « و »لو ولدت «. من الواضح أن القصيدة الأولى لا تزال في طورها الأول، وهذا واضح من التشطيبات الكثيرة في المخطوط. لكنها تحمل رؤيا شعرية هامة في المسار الدرويشي. أما القصيدة الثانية فهي صرخة وفكاهة سوداء عن الواقع الفلسطيني اليوم، وهي كالقصيدة الأولى لا تزال في مراحلها الأولى. لكن في النهاية هما نصان كتبهما الشاعر، ويجب أن ينشرا. -3- المفاجأة التي صعقتنا حين دخلنا منزل درويش في عمان، أن الشاعر لم ينظّم أوراقه قبل الرحيل. يبدو أن الرجل صدّق الأطباء وكذّب حدس الشاعر، الذي جعل الموت يتسلل إلى جميع قصائده الأخيرة. وجدنا أوراقه الشعرية غير منظمة، وكان علينا أن نعيد ترتيبها، من دون أن نمسها تقريبا. كُلفت بمهمة إعدادها للنشر، وافقت من دون تردد، وبشكل يشبه النزق. لكنني، في الليلة نفسها، شعرت بصعوبة المهمة. اعتقدت وأنا اقلّب الأوراق، أن عملا كثيرا ينتظرني. وكان اعتقادي صائبا، عملت كثيرا وطويلا، واستشرت عددا محدودا من الأصدقاء، وكنت مرتبكا. لكنني اكتشف الآن، وأنا اكتب هذا النص، أنني لم افعل شيئا تقريبا، وان درويش كان صادقا، حين روى لنا، انه ترك مخطوط عمل شعري جديد في عمان، وانه شبه جاهز. لكنني خلال الأشهر الثلاثة التي قضيتها في رفقة هذا الشعر في تفاصيله، تسنى لي أن أتعرف إلى درويش أكثر، وفهمت لماذا أصاب موته منا هذا المقتل الحزين. فالرجل ليس شاعرا فقط، انه يتنفس الكلمات، جاعلا من الإيقاع جزءا من دورته الدموية. قلبه ينبض بالصور، فكأنه يرسم بالإيقاع، ويحيا في ثنايا الدوائر التي اكتشفها الخليل. لم استطع أن افهم اضطرابي أمام موته إلا حين صرت صديقا حميما لكلماته. درويش لم يتفجع أمام الموت، بل دخل في ثناياه وتفاصيله، بحيث جعلنا نقترب من الموت في شكل لا سابق له، ودخلنا مع درويش الإنسان في الخوف الذي كتبه درويش الشاعر. عندما روى لنا أكرم هنية وعلي حليلة أن جميع أعضاء الشاعر توقفت عن العمل ما عدا قلبه، تذكرت الحادثة التي رواها لنا بعد نجاته من جراحة الشريان الأبهر في باريس منذ عشر سنين، قال انه عندما بدأ يستعيد وعيه، وكان عاجزا عن النطق بسبب آلة التنفس الاصطناعي، طلب ورقة وقلما، وكتب انه خائف من أن يكون قد فقد لغته ونسيها. في مستشفى هيوستن فقد درويش اللغة، ولم يفق من الجراحة. لكن قلبه المريض قاوم حين انهارت كل الأعضاء، وهذا ما آثار عجب الأطباء، لأن لا مكان في طبهم للشعر الذي استوطن القلب، وأعاد صوغ إيقاع نبضاته. (...) -4- أود في النهاية أن أوجه شكري إلى الأصدقاء الذين ساهموا معي في الوصول إلى هذه النسخة النهائية من قصائد درويش الأخيرة: علي حليلة واحمد درويش وغانم زريقات وأكرم هنية ومارسيل خليفة وياسر عبد ربه، وجواد بولص، الذين دخلوا إلى بيت درويش، وساعدوني في العثور على قصائده، وكان دعمهم المعنوي في عماّن، حافزا لي للعمل. كما أوجه الشكر إلى ليلى شهيد، التي كانت كعهدها دائما، محبة ومشجعة من خلال طاقتها المعنوية التي لا تنضب. والى فاروق مردم بك، الذي تحمّل معي أعباء المراحل الأولى من قراءة هذا المخطوط. والى مجموعة محدودة من الأصدقاء قرأت لهم بعض قصائد الديوان طالبا منهم النصح. بفضل دعم هؤلاء تم انجاز العمل، غير أنني أتحمل وحدي المسؤولية عنه وعن أخطائه. كانت صحبتي لهذه القصائد تحية حب وصداقة لم يزدها الموت إلا عمقا.