هل حقا رحل محمود درويش؟ نحتاج لوقت طويل كي نصدق الخبر الذي سمعناه. هل توقف قلبه كما تتوقف قلوب باقي البشر؟ لقد قال بعد عملية القلب الأولى التي أجريت له عام 1984 (لقد توقف قلبي لدقيقتين، لقد رأيت نفسي أصبح فوق غيوم بيضاء، تذكرت طفولتي كلها، استسلمت للموت، وشعرت بالألم فقط عندما عدت للحياة). وبعد العملية الثانية عام 1998 قال: (أنا لا أخشى الموت الآن، اكتشفت أمرا أصعب من الموت وهو فكرة الخلود.. أن تكون خالدا، هو العذاب الحقيقي). لكن لم نقرأ ما كان سيقوله بعد العملية الثالثة. لقد جاهد حتى يؤخر موعده مع الموت: أريد أن أحيا فلي عمل على ظهر السفينة على هذه الأرض ما يستحق الحياة. ولكنه كان يرى النهاية قادمة من داخله، من شرايينه التي غدرت به وهو في قمة عطائه، فلذلك قال للشاعر المتوكل طه عندما أبلغه أن السلطة الوطنية الفلسطينية أصدرت طابعا بريديا عليه صورته، قال له (لماذا هذا التأبين المبكر؟). وعندما كرمته بلدية رام الله بإطلاق اسمه على أحد أهم ميادينها قبل أشهر قال: (أود أن أشكر بأعمق المشاعر والعواطف مبادرة بلدية رام الله، ولكن مكاني ليس هنا، لأن الموتى لا يحضرون حفل تأبينهم. وما استمعت إليه اليوم هو أفضل تأبين أود أن أسمعه فيما بعد).لقد كان يرى الموت قادما، ففتح حوارا معه: أيها الموت انتظر حتى أعد فرشاة أسناني وصابوني وماكنة الحلاقة والكولونيا والثياب وياموت انتظر حتى أستعيد صفاء ذهني في الربيع وصحتي.. وحتى عندما مارس الرهان مع الموت وتقمص شخصية لاعب النرد قائلا: أعتمد ريشتي بغيم البحيرة ثم أطيل سلامي على الناصري الذي لا يموت لأنه به نفس الله والله حظ النبي ومن حسن حظي أني جار الألوهة ثم أرتد مستسلما، مقرا بهزيمته أمام الموت قائلا: من سوء حظي أن الصليب هو السلم الأزلي الى غدنا ولكنه بالقطع لم يكن يخاف الموت، بل وكان يتهيأ له قائلا: أعدوا ليب القبر أوسع من هذه الارض أقوى من الارض قصرا يلخص بحرا بنافذة من سحاب على فرس الغيم والغيم أبيض يهتز حولي ويرسم لاسمي تاجا وقوس قباب أعدوا لي العرش من رئيش مليون نسر.. اسمحوا لي أن أقرأ بعض ما كتبه صديقه الشاعر غسان زقطان عن أيامه الاخيرة في رام الله: (في الشهور الاخيرة كان منهمكا تماما للإعداد لموته وترتيب رحيله. هاتف معظم أصدقائه، وتذكرهم واحداه واحدا. ذهب الى قصر الثقافة وأحيا خر أمسية شعرية له في بلاده، وقف أمام جمهوره ليقدم اعتراف الشاعر وحكمته، وكان أوصى المنظمين بتوزيع بطاقات الدخول على الناس وليس على الخاص، والتقليل قدر الإمكان من الرسميين وساكني الصفوف الأمامية. ذهب الى بيت العائلة في الجديدة نام في المنزل، وحلق ذقنه على مرأى من اخوته. كان يرتب ذكرياته بدأب الذاهب، تاركا إشاراته في المكان، معنيا بأن لا ينسى).يرحل محمود درويش، يرحل شاعر الارض الذي مزج الحب بالوطن، والثورة بالإنسان، والقضية بالأدب، والذي علمنا كيف نرافق الموت ونتغلب عليه، وكيف نتحول من ضحايا الى حراب تخترق صدور العابثين بنا. يرحل محمود الذي انتظرناه ألف عام بعد رحيل المتنبي، فهل علينا أن ننتظر ظهور المتنبي الجديد بقدر ما انتظرنا خلافة محمود للمتنبي. يرحل محمود الذي كان منذ البدء شاعرا حقيقا، وبدفعة واحدة نقل الشعر من مجاله النخبوي الى مجاله الشعبي، ودون أن يسقط في الشعبوية.. كان الشاعر الذي لم تتسع القاعات لمحبيه فأنشد في الساحات وملاعب كرة القدم. يرحل محمود الذي كان واحدا من أكبر شعراء الإنسانية، وكانت أعماله منحازة للحرية والمحبة في مواجهة الظلم والكره. فقد كنت التصديق لمقولة أن لحظة ميلاد الشاعر هي لحظة ميلاد موقف معارض للسلطة. غاص في مأساة شعبه، وجعل منها مأساة إنسانية تلامس وجدان كل محبي العدل والحق. فاختلطت نهنهات الفلسطينيين مع عذابات الفيتناميين في دلتا الميكونغ، والعراقيين في الفلوجة وأبو غريب، مع أنات قبائل المايا والأنكا والبوشمن في براري الانديز والروكي واستراليا. يرحل محمود بعد أن ألقى ظلالا وارفة على أدبنا العربي الحديث، واحتل صدارة الذاكرة العربية الجماعية عندما استطاع بسخريته اللاذعة أن يجسد واقع ووقائع الحاكم العربي في (خطب الدكتاتور)، وأن يجسد للإنسان العربي خصمه ببساطة قوله: (أمريكا هي الطاعون والطاعون أمريكا)، وأن يفتح عين الانسان العربي على بشاعة واوقعه وهو يدلي بشهادته (بيان في وصف حالتنا). يرحل محمود الذي كان يمقت الشفقة، ويرفض محاباته كفلسطيني قائلا: (ارحمونا من هذ الحب القاسي) ويقبل النقد حتى لو كان جارحا، ويقول: (طبعا أنا فلسطيني وشاعر فلسطيني، ولكن لا أستطيع أن أقبل بأن أعرف بأنني شاعر القضية الفلسطينية فقط، وبأن يدرج شعري في سياق الكلام عن القضية فقط، وكأنني مؤرخ بالشعر لهذه القضية). وكان بحق رائد المشروع الثقافي الفلسطيني. يرحل محمود الذي استطاع القول بحكم مصاحبتي واقترابي منه منذ دجنبر 1972، إنني نادرا ما وجدت من يسعى لتثقيف نفسه مثله، دائم القلق إزاء كتابته الشعرية، ولعل هذا هو سر توهج كتاباته، وظل يقول: (مازلت أشعر بأن الشعر لم يؤد دوره بعد، وهذا ما يجعلني أجرب وأطور وأجدد باستمرار). لقد فتح نوافذ جديدة للقول الشعري، فنمت على صوته أجيال من الشعر على اتساع رقعة وطننا العربي. وأشهد أن محمود لم يكن يحب البقاء كثيرا تحت الاضواء، وكان يفضل على ذلك الاختلاء بذاته. من هنا لم يكن قادرا أو راغبا في خلق صداقات كثيرة مع محبيه وعارفيه. كان يمقت الاغبياء وثقيلي الظل الذين يستثيرون حدة مزاجه وسرعة غضبه. لم يكن يحب الإطراء والثناء، وخاصة بحضوره، وكان خجولا الى حد احمرار الوجه عند أي لحظة إثارة. فيا أخانا الحاضر الغائب كل الكلمات لا تكفي للتعبير عن جلاء الرزء. وهل تركت لنا شيءا من الكلمات لنرثيك بها؟ وهل أبقيت لنا من الصور لنستخدمها عند وصف فجيعتنا برحيلك. مثلما يحدث عند نضوج الثمار تسقط، سقطت. وأنت في عز توهجك. سقطت وأنت تصعد من سماء لأخرى، ونحن نصعد معك، فعرفنا العالم بشعرك وكوفية ياسر عرفات. فلماذا تبقى منا بعدكما؟ وماذا تبقى لنا؟! فترانا نبكيك مولولين: يا وحدنا، صارخين مع أخيك الذي لم تلده أمك سميح القاسم: لماذا تموت إذن؟ ولماذا نعيش إذن؟! يا أجمل أصواتنا وأغانينا، يا أجمل قصائدنا، يا أجمد أحلامنا، ويا أعلى قاماتنا وأسطع أقمارنا، لا يمكن أن نرثيك أو نبكيك، فنحن من يستحق الرثاء بعدك. هل نقول ما قلته وأنت تؤبن صديقه إميل حبيبي (إغفر لنا أننا سنعود بعد قليل الى أنفسنا ناقصين). أم نقول ما قلته في أربعين صديقك محمد الماغوط (أنت الآن في غيابك أقل موتا منا، وأكثر حياة منا). لقد أكدت بموتك التراجيديا الفلسطينية التي قلت عنها ذات مرة.. لا يصل الحبيب الى الحبيب، إلا شريدا أو شهيدا. لقد تفتحت جراحنا حين سمعنا نعيك، وهرع كل واحد منا الى ذاكرته ليستعيد صورة لك. فلماذا تركتنا وحيدين كحصان أبيك. وتذكرت شخصيا أنني عندما قدمتك في مسرح محمد الخامس بالرباط في دجنبر 1986 قلت عنك (فأنت قطعة أرض فزت وانتفضت واتخذت هيئة شاعر). لقد استقريت في قلب كل فلسطيني وكل ع ربي، حتى صار كل واحد يعتبرك جزءا من قلبه، فاعتبر كل واحد منا فقدانك مصابا شخصيا له. لقد كان حضورك في حياتنا يتجلى كدرة فريدة قدمها الرب لهذا الشعب المشرد. لذلك ولمجرد أن شعرت بأن الفلسطينيين لم يعودووا استثناء بعدما حصل في غزة، لم تعد لديك قدرة على المقاومة فمت، لا لم تمت، ماتت همومك وآلامك من جراء ما حدث. فهل اخترت الموت أم أنه هو الذي اختارت؟ لا، ليس هذا ولا ذاك، بل نحن الذين ضغطنا على شرايينك حتي انفجرت، لأننا لم نسمعك وأنت تدمدم. لولا الحياء والظلام لزرت غزة دون أن أعرف الطريق الى بيت أبي سفيان الجديد ولا رسم النبي الجديد ولولا أن محمدا هو خاتم الأنبياء لصار لكل عصابة نبي ولكل صحابي ميليشيا.. فيا محمود، يا من كنت الاسم الحركي لفلسطين، يا من قال عنك القائد الشهيد ياسر عرفات: إذا كان لفلسطين قائد عام اسمه ياسر عرفات، فإن لها شاعر عام اسمه محمود درويش. يا محمود، يا أمير الشعر وأمر الشعب.. يحزننا أنك وإن كنت كتبت قصائد الخلود، رحلت قبل أن تكتب قصيدة الانتصار التي حلمنا أن نسمعها بصوتك أو على الأقل أن نقرأها لك. لقد توحدنا جميعا وراءك.. توحدنا في السير وراءك منذ أن صرخت سجل أنا عربي الى أن صرخت أيها المارون بين الكلمات العابرة... آن أن تنصرفوا.. وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا». توحدنا وراء كلماتك التي وجهها الشهيد ياسر عرفات للمجتمع الدولي في نيويورك عام 1974 (جئتكم بغصن الزيتون بيد وببندقية الثائر في الأخرى، فلا تسقطوا الغصن الاخضر من يدي).. تماما كما وحدتنا كلماتك الواردة في (وثيقة الاستقلال) التي أعلنها المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1988. توحدنا في الحداد عليك، فلسطين كلها.. حجرا وشجرا وبشرا توشحت السواد حدادا عليك. فأنت من أعطى للكفاح المسلح الفلسطيني خلفيته الانسانية البديعة، بل وكنت ترسم للفدائيين مسارب ودروب العودة، وتحثهم على السير فوق الاشواك لتحقيق الحلم الذي كان أكبر من الواقع.. ما أكبر الفكرة، ما أصغر الدولة. فكنت رئيسا مدى الحياة لدولة فلسطين. خسارتنا يا محمود ليس أننا فقدنا فيك الشاعر الذي أعطى كل هذا الإبداع وإنما لأنه ذهب وهو في أوج توجهه، ولن يعطينا إبداعا جديدا، وظلت قصيدته مفتوحة على اللانهائي. أخي محمود.. نعم على هذه الارض ما يستحق الحياة، فهي كما قلت سيدة الارض، أم البدايات وأم النهايات.. ولكن سببا آخر أضيف قبل بضعة أسابيع، إنها احتضنتك في قلبها. سلام عليك يا محمود، فمن حسن حظنا أننا رافقناك أو عايشناك أو عاصرناك، أو على الاقل قرأنا قصائدك طازجة. ويا موت توقف.. حط ما اختلست. ففي جرابك أحلى ما لدينا، في جرابك أغلى ما لدينا، في جرابك ما يمكن أن نرد به على ما يسألنا بازدراء: ماذا قدمتم للحضارة والإنسانية؟ قدمنا هذا.. قدمنا محمود درويش.