عزيزي عدنان تحية مودة و بعد؛ منذ تعرفت عليك، قبل أيام(*) وتتبعتُ فصولا من حياتك مما رويته بصٌورٍ وتعابير كنت مضطرا للبوح بها وأنت مشدود لحسرات وانكسارات لا قبل لك بها ، هكذا خمنت وافترضت. ارتهنت علاقاتك بشجنك الذي أضحى أحد علامات حظك العاثر،وقد قرنته ببعض ما جرى لك في حاضر المغرب من أحداث تتشابك فيها خيوط الأصولية المتطرفة والانتهازية الفجة. أكتبُ إليك لأنني قدّرت جرأتك في مواجهة مصيرك وفهم ما اعتراه من تقلّبات مسّت منظومة القيم في واقع بدا لك مثقلا بالخيبة والإحباط، والوعي الشقي والرومانسية اليائسة. حين تكلّمتَ فلأنك كنت تبحث عن قوّة لمواجهة رعب الخديعة كي لا تغدو فجيعة ؛ تكلمتَ لتدفع عنك الخوف والتردّد ولتجد مكانك في العالم وأنت على يقين تامّ بصلابة الواقع المحيط بكَ وهشاشة الكينونة. انتصرتَ للرواية،أيْ للفكر والمشاعر معا. نعم،ما عشتَهُ من تجربة ليس مسألة بسيطة. لم تفتعل قضايا وهمية مجلبة للرثاء أو الشفقة. كنت فقط تودّ ألاّ تنهار أحلامك. ولأشرح لك ما فهمتُ، طرحت على نفسي هذا السؤال: لأيّ شيء تصلح الرواية ؟ ثمة العديد من الفرضيات والمداخل للإجابة على هذا السؤال بعضها أدبي تفصّله نظرية الرواية ، وبعضها الآخر فلسفي تسهم به العلوم الإنسانية.استطاعت الرواية أن تجدّد فهمها للحياة والوجود بقدرتها على التقاط الوضع المفارق لرغبات و أحلام الأفراد، من غير أن تحوّل خطابها إلى ثابت مذهبي أو إيديولوجي. ولذلك ظلّ الرومانسيك رديف الشكّ والتوهم، وموضع توليد السؤال ،والبحث عن الخلاص وتخطّي المحن. لست بحاجة لترديد مثل هذه الأفكار على مسامعك، لكنها تغزو بالي الآن وأنا أعيد قراءة سيرتك وأطوي صفحاتها الأخيرة من رواية «الخديعة» وقد أبدعها كما في علمك سعيد بنسعيد العلوي، بعد رواية سابقة له « مسك الليل» . والنصّ بالنصّ يذكر، فقد وجدتني في الآن ذاته أتصفّحُ عددا قيّمًا واستثنائيا من مجلة «العلوم الإنسانية (عدد 218 غشت /شتنبر 2010 ) حول: « الأدب نافذة على العالم» وقد اشتمل على تقرير ل Héloïse Lhérété بعنوان « لماذا نقرأ الروايات ؟ « أستسمحك في نقل فرضيته الأساس لأنني أقدّر أهميتها في سياق بعض ما أتقصّده من هذه الرسالة. لماذا نقرأ الروايات؟ لتحقيق متعة قد لا نعثر عليها في المؤلفات النظرية أو الأفلام مثلا. بيد أن المتعة ليست المبتغى الأساسي للأدب الروائي. ثمة غايات أخرى تغدو عدّة الخيال حين يوسّع نظرتنا لذواتنا وللعالم المحيط بنا. لذلك، لا تدّعي الرواية الحقيقة ولا الموضوعية، فأقصى ما نبتغيه من قراءة الرواية هو «معرفة جيدة» بالإنسان وبالعالم ؛ تغدو القراءة،إذن، تجربة فكرية تعيد فهم الأشياء والعلاقات والفضاءات. لا تبني رواية « الخديعة» التي أنت أحد أبطالها مادتها الحكائية على التلميح،بل تبْنيها على التصريح. حكايةٌ من زمننا ترويها بمعية شخصيات تحتفظ لنفسها بحدّ أدنى من الحسّ النقدي ... تحسّرا؟ مجازفة بالأحلام ؟حدْسا وتخمينا ؟ ثلاث عائلات تتقاسم البطولة في الرواية : عائلة عبد الهادي حكيم ونور الدين البوعصامي والمدني السلاسي. تبدو لي في سردكَ هادئا رقيق الرّوح، لكن بسُحنة غاضبة تظهر حينا، وتختفي أحيانا أخرى. عزيزي عدنان؛ أنتَ في الرواية محام شاب، تحضّر الدكتوراه في قانون الأعمال. والدُك عبد الهادي حكيم جشع وعاشق للنفوذ والمال، أو على الأقل هكذا يبدو لك. أختك سميرة فاجرة، فأنتَ لا تستطيع أن تُحصي عدد عشاقها. وأمك، بنت جلول عميد الشرطة السياسية سابقا، امرأة خرافية غارقة بدورها في الجهل والجشع، تقول عنها بأنها تجمع بين الأمية وسوء الأخلاق؛ وغاليا ما تدّعي أن أباها هو من صنع عبد الهادي ، والدَك، الذي تراه اليوم محاميا كبيرا، شهيرا وغنيا جدا. أحلام المال والنفوذ تستغرقه، أحلام النفوذ طريق إلى المال وإلى المزيد من المال ... والحزب طريق ٌإليهما معا. بينما جَلال أخُوك الذي ذهب إلى فرنسا لدراسة إدارة المقاولات وفشل، ثم حاول دراسة البيولوجيا وفشل كذلك، ثم ما لبث إنْ عاد من فرنسا حاملا لدبلوم الهندسة الإلكترونية، وفي الآن ذاته عاد بلحية وسُبحة وطريقة ينتمي إليها. عاد من فرنسا متصوّفا. وأنتَ ، عدنان حكيم، تبدو في الرواية كمَنْ أضاع الهدف وتاه في الطريق. حين عُدْتَ إلى بيتك ذلك المساء بعد انقضاء الحضرة وجدْتَ والدك بالبيت يحضّر في اجتماع تمهيدي لتأسيس حزب سياسي سيختار له مجلس الأعيان اسم: حزب القرش. وتأتيك دعوة من أبيك لمشاركة الجماعة همومَ الوطن وقد أتيت للتوّ من جماعة أخرى كنت تبحث فيها عن كينونتك. أفهم الآن لماذا لعَنْت في سِرّك والدك والسياسة؛ يريدك أن تكون مستقبَلهُ. تتذكر ما قاله لك : « لا تخيّب فيك ظني. أريد أن أرى فيك ما خيب فيه جلال ظني وما لم أقدر على تحقيقه في شبابي. نعم أبوك غني... لكن ثروتي لا تساوي شيئا أمام ما فشلت في الوصول إليه... أنت الأمل يا عدنان. اسمع يا عدنان،هي كلمة واحدة: أنت اليوم،بعد المؤتمر،عضو المكتب السياسي وأنت في مستقبل لا أراه بعيدا وزيرٌ للشباب أو البيئة أو كاتب الدولة في الشؤون الاجتماعية (الرواية ص 23-24)». لا شكّ أنك متيقن معي أن كلام أبيك هو صورة أولى من صور الخديعة، في الحضرة كما في السياسة، وفي الوجد كما في الأمل والغضب. ثمّ إني أفهم أيضا لماذا يجعلك الشعور بالخيبة مشدودا ومتعلقا بليْلى، ابنة المدني السلاسي، وفي الآن ذاته تجعلك الخيبة مثل ورقة في مهبّ الريح. عائلة المدني السلاسي الذي يرأس شركته وجمعيات مِهنيّي التصدير والاستيراد والصداقة المغربية النمساوية و مُحبي الموسيقى الأندلسية، هل هي حبل هداية وخلاص حين تُقارنها بعائلتك؟ زوجة المدني عكس والدتك يجللها الحياء. حليمة مثل ُأمها قليلة الكلام كثيرة التديّن؛ وفؤاد قويّ الذاكرة يشتغل بذكاء، حسّ الأعمال لديه على قدر هائل من الارتفاع « فؤاد آلة حسابية جبارة حية ومتحركة»؛ بينما ليلى رقيقة وعذبة وقلب من البِلور الخالص،شاعرة. ليلى « نعمة من الله»- يقول المدني دوْما. حُنُوّ ودِفء يُكسب الوجود معنى جميلا (الرواية ص 47). ليلى بالنسبة إليك ملاذ، حديثك معها يحرّرك من قوقعتك ويخفف عنك حالات توتر الأعصاب، هي مرآة تتشابك فيها عوالم الخيبة والإحباط وشعور مزيج من وعي شقي ورومانسية يائسة. لا تضحكُ يا عدنان كثيرا في الرواية، لكن حين قالت لك ليلى بأنك شاعر بطريقتك من حيث إنك تَمْلك حسّا مُرهفا. تنفعل لألمِ الآخر،يحزنك منظر هرّة تموء وهي ترتعش تحت المطر.. الغضب يكون شعرا في بعض الأحيان يا عدنان (ص 52)؛ عَلقْت ضاحكا: كذلك هي الحياة. البعض يَغرِق في الشعر،والبعض يغرق في القلق (ص53). مع ليلى تتجلّى لك صورة أخرى من صور الخديعة : الحزن والكآبة والشرود والهروب، وقد قلتها لليلى: « أما أنا فلست سوى فشل (ص55)». عزيزي عدنان؛ ها أنت ترى معي كيف حدّد لك سعيد بنسعيد العلوي وضعا إشكاليا ، فغدوْت بطلا يبحث عن قيم أصيلة في مجتمع يفتقدها. تبدو في بحثك هذا حائرا وحزينا مؤمنا بأن الفرح سيأتي ذات يوم وربما يُجنبنا الإحساس بالسأم والملل. مع نور الدين البوعصامي، صديق العائلة، السفير السابق ورجل الأعمال نفهم معنى أن نحاول استعادة ما ضاع ونتأكد من أن ما فات لن يعود كما كان. نتعرّف على نور الدين بعدما توفيت زوجته منذ سنين، ينتظر حفيده بشير البقالي بباب المدرسة؛ وبالصدفة يلتقي بصفية الهواري وهي تنتظر بدورها حفيدتها سُكيْنة. يتولّد من هذا اللقاء حنين مشحوذ بالشوق وحتى بالنجوى. في بدء علاقة نور الدين بصفية حكاية غرام قديمة قبل أن يختطفها ثريّ قادم من آسفي ؛ وهاهما يلتقيان اليوم بعد أكثر من أربعين سنة؛ مثلما اختفت دون سابق إنذار عادت إلى الظهور دون إشعار.ظهرت بعد طول تربص وتقلّب بين الخوف والرجاء (ص 103). مثقلا بكثافة الذكرى، يسعى نور الدين الإنصات إلى خفقان قلبه بعدما أضحى بغير غرام. صفية جمر مندس في الرماد (ص 113)، أليست هي أيضا صورة من صور الخديعة ؟ بهذا المعنى، يتلوّن السرد في الرواية بالعديد من التفاصيل تلملمها الشخصيات من أجواء اليومي والذاتي والمحادثات العابرة، تستعيدها عبر الإحساس الخفي ّ أو حالة الشرود،عبر المواجهة والخنوع،الرفض أو التمرّد.ألا تعيش الشخصية تمزّق أناها أو يقودها القدر إلى أفق مسدود جرّاء تدهور في القيم أو السلوك؟ عزيزي عدنان؛ ليست «الخديعة «رواية للعائلة فقط على نحو ما بيّنت،بل إنها متضمّنة أيضا لحبكة متخفية لكنها ذات حضور لافت ومتناسل : التطرف في الدين والإرهاب. تستدعي الرواية في فصلها الأوّل أجواء الحضرة وجسلة للذكر تشارك فيها ياعدنان لأنك تبحث عن حبل للهداية، ولأن نفسك مريضة ومثقلة بالصدأ كما تقول، وليس يجلوها إلا الذكر . وتنتهي أحداثها في فصل مستقل ودقيق الأوصاف لعملية إرهابية هزت مطعم الكاسا اسبانيولا بالدار البيضاء. تتأثث هذه الحبكة بأحاديث نو الدين البوعصامي مع حفيده رشيد حول أحداث 11 من شتنبر واستدعاء أطروحة كتاب « الخديعة العظمى»؛ وإقدام ليلى على إنجاز بحث ميداني جامعي للتخرج من معهد الصحافة حول علاقة الشباب بالعمل الديني ولقائها لشباب من حي سيدي مومن؛وحوارك يا عدنان مع أخيك جلال حول معنى الجهاد أهو جهاد النفس أم الإخلاص فيه بدوام النظر إلى الخالق أم هو طاعة القائد بدون تفكير أم هو الاستشهاد على نحو ما انتهى إليه كلام جلال لما فاجأك بما قاله:» الاستشهاد يا عدنان ليس حادثة دموية.الاستشهاد اختيار واع.اسأل مجاهدي فندهار ( ص 91)»؛ بموازاة مع ما سلف،تعتني الرواية بتوظيف أجواء التواصل الإلكتروني السريع والمخيف في آن، بصوره اللغوية الراصدة لعوالم التصوّف عبر الأنترنيت وهي تروم الكشف عن المجهول والغامض في العلاقة بالذات وبالآخرين. عزيزي عدنان، حاولتُ أن أسترجعَ صوتكَ وأسمّي أحوالك وقد تبيّن لي أن عالمك لا يختلف كثيرا عن عالمنا: نفس الحيرة والغبن والغمّة، نفس الفرح المؤجل ، نفس السّهو والزمن الهارب بنا إلى الخلف.وصلتنا كلماتك من غير مكبرات صوت صادقة وصانعة للمعاني، كأنها تستردّ كرامة مفتقدة وقد بِتْنا محاطين بأنصاف الحقائق وأنصاف الأوهام . جاءتني نبوءتكَ : هل نحن اليوم أبناء اليأس والغضب وقد أضحى بيننا وبينهما تآلف وتساكن ؟ وجدتَ، يا عدنان، الصور والعبارات المناسبة لقول ذلك. قلّتْ أحلامنا وأصبحنا رهائن قدَرٍ لم نصنعه.ما يجري الآن من حولنا من توجّع وتفجّع هو مبعث رَيْبة بعد فساد الأمكنة وتلف العقول. كأنك تقول:خذوا العبرة الآن مما جرى ويجري قبل أن نَمْضي إلى النفق مُفْلسين وخائبين؛وبعد سقوط الروحانيات والإيديولوجيات، ماذا يتبقّى للإنسان ؟ حياةٌ مُختلّة وكئيبة ورتيبة وطافحة بالخدائع لا بخديعة واحدة. عزيزي عدنان؛ لأنني بعدما سعدتُ بالتعرّف إليكَ ... سأحاول أن أكون َ مثْلكَ ... سأحاول أن أفرح. تقبّل وافر محبّتي (*) سعيد بنسعيد العلوي:الخديعة، رواية، منشورات جداول،بيروت نونبر2011