يعتبر منجز النص الروائي عند الأديب المغربي نور الدين محقق من الكتابات السردية التي تستدعي منهجا نقديا محايتا يجمع بين أصالة النقد العربي القديم المرتكز على دراسة بنية النص الداخلية وتتبع الجوانب الفنية والجمالية فيه، وبين حداثة النقد المعاصر المعتمد على تتبع تجليات النص الروائي الدلالية و المابعد سردية، مركزا في ذلك على ما يستدعيه المتلقي من بنى فكرية ودلالات أيديولوجية، بمعنى أن يتتبع القارئ/الناقد العلاقة بين الملقي والمتلقي والتقاطعات الفنية والدلالية التي تحدث التناغم بين متعة الكتابة عند الكاتب ومتعة القراءة عند المتلقي. وحرمة النص الروائي تستدعي منا حب النص وتتبع تضاريسه اللغوية والفكرية والسوسيوروائية المتشعبة، على اعتبار أن النص الذي بين أيدينا هو نص روائي بامتياز، استطاع الأديب نور الدين محقق تكسير بنية وبناء الكتابة الروائية، وذلك عندما قسم الرواية إلى عشرة فصول كل فصل يمثل رواية قصيرة، تدخل في إطار علائقي مع باقي الفصول المشكلة للرواية،فالفصل الأول هو عبارة عن رسائل في الحب أرسلها السارد عبر نفحات الرواية إلى القارئ العزيز والحبيب والقريب والزميل....،وكانت هذه الرسائل بمثابة المدخل و المقبلات لفتح شهية القارئ لالتهام باقي الفصول والتمتع بفضاءاتها المتنوعة و المختلفة : فضاء المكتبة،فضاء الحي الجامعي الفرنسي،الفضاء العجائبي ،فضاء السينما... شعرية الغلاف و دلالة العنوان أول ما يلفت الانتباه في هذه الرواية هو العنوان»وقت الرحيل» الذي يدل شكله الأيقوني على مضمونه ،على اعتبار أن مضمون الرواية وأحداثها، تدور حول رحيل البطل نوري من المغرب إلى فرنسا من أجل الدراسة و التحصيل العلمي.والرحيل اسم مشتق من الفعل الثلاثي «رحل» هذا الفعل المتضمن للحركية و الفعل الديناميكي، وكأن السارد يريد أن يبين للقارئ أن البطل رحل من فضاء يشمله الدفء الأسري و الحنان العائلي إلى فضاء آخر مختلف له إكراهات و خصوصيات. كما أن السارد قبل أن يكتب الرواية كان في ذهنه هذا العنوان لأن مجريات الأحداث وتفاصيل الرواية تدل على ذلك،فالرحلة فيه رحلتان رحلة كبرى من المغرب إلى فرنسا ورحلات صغرى داخل فرنسا في فضاءات مختلفة: المسرح والسينما والكافتيريا والمكتبة.... وقد سبق لأدباء آخرين أن تناولوا هذا العنوان في مجالات و أجناس أدبية أخرى، ولعل الجنس الذي استوعب كثيرا هذا العنوان واستهلكه هو الشعر، ولذلك فقد كان للعنوان جرسا موسيقيا أكثر شعرية من غيره من عناوين الفصول الأخرى في الرواية. وكان للخبر»وقت» المضاف إلى المعرفة أهمية كبرى في إثارة انتباه القارئ وجلب اهتمامه إلى معرفة ساعة الصفر التي سيتم فيها الرحيل،ومكان الانطلاق،وفي الصورة تظهر علامات التفضية المكانية وكأن البحر منطلق المغاربة منذ القدم في اتجاههم إلى أوربا في وقفة بانورامية، تاركين نعالهم المهترئة التي تدل على آثارهم،فالبحر في لوحة الغلاف له دلالة عميقة فهو الفاصل بين تربة البلد باللون البني الفاتح، و بين الأفق في عمق الصورة الذي يدل على آمال وآفاق السارد وطموحاته. وكان السارد مصرا على عنونة وتجنيس العمل الإبداعي ب»رواية»وكأنه يريد أن يقول: إن سيرتي الذاتية هي تخييل ذاتي يعيشه كل أقراني في وطني ،فسيرة السارد بهذا المعنى هي سيرة كل القراء وكل المهتمين بهذا العمل الإبداعي. * شعرية اللغة الروائية: لقد تمردت رواية «وقت الرحيل» على الحكي التقليدي على مستوى اللغة التي تميزت بشكلها الانفجاري الذي يولد دلالات متعددة راسخة في ذهن المتلقي،بطريقة اعتمدت أسلوب تداخل وسائل التعبير الأدبية الشعرية والمسرحية والسينمائية....،لغة روائية تستلهم المعرفة بكل أشكالها وتحطم الزمن المسقيم ، وتبعثر الأشياء وتمازج الكائنات الحقيقية والفانتازية ،وتفاعل المقاطع والمشاهد الصائتة بالمشاهد الصامتة وجماليات الصور و الأخيلة، وتداخل أصوات الرواة وتعدد الروايات وحركية الأحداث في الماضي والآن وما يمكن أن يحدث. إنها باختصار لغة مشحونة منزاحة عن الأنماط المألوفة ،لغة قائمة على كثير من المجازات والتشبيهات والاستعارات،لغة فيها حركية الأفعال المتحركة من اللفظة إلى التركيب إلى التعبير لتستقر في النهاية في المضامين و الدلالات. بمعنى أن الأديب نور الدين محقق استطاع في هذه الرواية منح اللغة الروائية سلطة الاحتواء ، احتواء الأجناس الأدبية التي تسبح في فلك الرواية، التي تعتبر بحق ملحمة البورجوازية ، بتعبير جورج لوكاش، و تعبر عن رؤية إلى العالم ،بتعبير لوسيان غولدمان،إضافة إلى كونها رؤية تعبر عن أصوات فئات اجتماعية مختلفة بتعبير ميخائيل باختين، ،حيث نجد في الفصل الواحد كلا من المقطع الشعري والمشهد المسرحي والسيناريو السنيمائي واللوحة الفنية و الجمالية. (- نوري ...يا لك من مخلف للوعود... - مخلف للوعد ؟ - نعم لأنك لم تأت للموعد الذي حددناه... - آه يعلم الله أن ذلك قد حصل رغما عني.... - أعلم أنك إنسان مشاغب) (وقت الرحيل ص 89). وتتجلى شعرية اللغة الروائية في قدرة الروائي على بعث الحياة في اللغة من خلال الحركة السردية المتحكمة و الدينامية في منظومة الأفعال المتباينة والأحداث المختلفة ، وكذلك بواسطة اختباء السارد المضمر الذي يطور الأحداث ويفرعها، بإثارة قضايا أساسية وأخرى ثانوية تزيد من تعقيد الرواية . فالرواية تجمع بين لغة الشعر وسرد الرواية، وبين الحب والحزن والغربة، شعرية الرسائل الغرامية التي تخللت الرواية: ( عزيزي نوري. تحياتي القلبية إليك، إليك أنت أيها العربي الأسمر القادم من أرض الليالي...) .(الرواية ص 133 ). وكذلك من خلال بعض المقاطع الشعرية التي تتخلل الرواية بين الفينة و الأخرى: وارحما للغريب في البلد الناز *** ح ماذا بنفسه صنعا فارق أوطانه فما انتفعت *** ببعده عنها ولا انتفعا.( الرواية ص71) لقد استطاع الأديب نور الدين محقق بناء رواية «وقت الرحيل» بناءً معماريا مختلفا عن البناء الكلاسيكي الذي يعتمد السرد التقليدي، الذي ينطلق من المقدمة إلى الموضوع لينتهي بالخاتمة بنوعيها الكوميدي أو التراجيدي. لقد جاءت على شكل مقاطع وفصول سردية معنونة (وهج الظهيرة. سطوة الأحلام. ترويض الأفعى....) تبدو للوهلة الأولى أنها مستقلة الفصول و المشاهد لكن سرعان ما يلمح القارئ مدى الترابط الذي يجمع بينها وكأن اللغة و الزمان و المكان شئ واحد. إنه لا يكتب الرواية ليخبر القارئ عن حقائق لا يعرفها ،وإنما يكتب الرواية ليعري له الواقع ويملأه بما يناسب من الحقائق.إن الروائي و القارئ يكتبان معا هذا الواقع و يملآن بياض هذا الواقع من خلال عملية التلقي و التأويل، ومن خلال احتمال القارئ الممكن الذي يقرأ هذا الواقع، ويدفعه إلى فهم العالم وما يحدث فيه من تغيرات ، معتمدا في ذلك على تقنية الوصف الحي وليس على نقل الوقائع الآلية و الحرفية الخاضعة لقوالبَ التفسير النمطية الجاهزة. وتظهر شعرية الرواية في المزج بين خصائص الشعر وخصائص النثر .فإذا كان الشعر يشتغل على تذويت الذات فلا يخرج عن دائرة الذات الكاتبة ، بكافة همومها و انشغالاتها، وسؤالها عن مكانتها في العالم ، بينما الرواية تهتم بالموضوع جاعلة بينه وبين الذات مسافة بعيدة، فإن الروائي نور الدين محقق استطاع مزج الذاتي بالموضوعي،حيث كان السارد بضمير المتكلم والسارد بضمير الغائب،مرة يعتمد على التلميح ومرات يلجأ إلى التصريح ، ولو بتحريف قليل على مستوى الألفاظ و التسميات حيث نور الدين الروائي هو نوري البطل الرئيسي في الرواية ، الطالب الذي انتقل من المغرب إلى فرنسا من أجل متابعة الدراسة،لقد كسر الروائي هذه الحواجز الوهمية بين الأجناس الأدبية دون أن يفجر جنس الرواية محطما هويتها أو ماهيتها. وقد لجأ الروائي إلى اللغة الشعرية بهدف التأثير في المتلقي، من خلال السحر الذي تمارسه هذه اللغة على نفسيته، ومن خلال استخدام سحرها وجمالياتها، والرغبة في إخفاء البعد الأيديولوجي والتمويه على هذا البعد في الرواية. وخروج الذات الساردة للتعبير عن نفسها وعن المحيط الخارجي، من أجل تحريك الشخصيات وفاقا لرؤيتها الواثقة ، لتعثر في ما تكتبه عما فقدته في الواقع ، فأصبحنا نلاحظ بأن الروائي يكتب نَصا قوامه السؤال و البحث عن أجوبة صادرة عن تعدد القراءات. لقد عبر الروائي نور الدين محقق من خلال السرد الحداثي عن رؤية مختلفة تساير العصر وتعبر عن طموح القارئ ورؤيته إلى العالم. إن المتتبع لأحداث الرواية يشعر بأنها أحداث مستقلة ومتقطعة لكنها في الحقيقة أحداث متماسكة ومرتبطة تجمعها وحدة الموقف و بعد الرؤية التي يريد الروائي تمريرها إلى ذهن القارئ عبر مجموعة من البوابات. الأبعاد الفنتازية و العجائبية في فضاء ملئ بالعبثية والعجائبية، استطاع الأديب نور الدين محقق بناء فضاء روايته بمجموعة من الحكايات التي استقاها من الموروث الثقافي الشعبي الذي يلتقط مادته من ذاكرة الماضي. يغوص السارد في ذاكرة الماضي ليستحضر المحكي العجائبي من خلال عملية التخييل التي تحيلنا إلى عالم «ألف ليلة وليلة»، وعالم الطير والحيوانات والحكي الخرافي، وكأن الروائي يتقمص شخصية الحكواتي في أحد فصول الرواية ( احك لي حكاية إن كنت تريد أن تلمسني ....أبت أن تنصاع لرغبتي إلا بعد أن أحكي لها حكاية تروقها) (وقت الرحيل ص144 ) ، بل يتحول في أحد فصولها ( الفصل الثالث) إلى طائر أزرق ليقطع سبعة بحور لمعانقة حبيبته . يقول السارد هنا : (- حدث هذا في النوم لقد رأى نفسه وقد تحول إلى عصفور صغير ، عصفور أزرق، لم يسبق له أن رأى من قبل عصفورا أجمل و أبهى منه. عصفور يحسن الطيران والتحليق في الأعالي، يحسن التغريد كأروع ما يكون التغريد.عصفور صغير في السماء يطير، كما يقول أحد الأناشيد التي حفظها في المدرسة الابتدائية، أيام كان تلميذا بها ). ( الرواية، ص 44 ). في هذه الحكاية العجائبية نوع من الإدهاش والمباغتة، ولا سيما فى نهاية الحكاية التى تأتى على غير العادة وعكس ما هو منتظر و متوقع، فالعصفور الأزرق هيئ للقارئ وكأنه كاد أن يقع ويغرق في عرض البحر لكنه في النهاية استطاع استرجاع أنفاسه والتقاط الزمردة و العودة مرة أخرى إلى اليابسة والفوز بالرهان. والقفلة في الحكاية العجائبية بقدر ما فيها من شعرية ولغة انفجارية، بقدر ما تفتح أمام القارئ /المتلقي عوالم مدهشة من التساؤلات والاحتمالات الممكنة, وحينها ينتهي دور الكاتب ليبدأ دور المتلقى في اقتراح إمكانات وحلول متنوعة بتنوع القراءات. حلول تساعد على فك ألغاز هذه الحكايات.وبالتالي يساهم الكاتب و القارئ في هدم العالم وإعادة تركيبه وصياغته من منظور جديد ومخالف للمنتظر و المعهود. إن العجائبية في الرواية لا تأتي من خارج واقعنا بل إنها وليدة المخزون والموروث الثقافي الجمعي والجماعي. عجائبية وليدة الفعل الانمساخي الكفكاوي الراسخ في ذهن القارئ العربي المتشبع بمثل هذه الثقافة (انمساخ الإنسان إلى قرد - انمساخ المرأة إلى ناقة - انمساخ نوري إلى عصفور أزرق ......). وهنا يمكننا أن نلاحظ بأن البطل نوري عندما رحل من المغرب إلى فرنسا فقد رحلت معه كل أنواع وأشكال الثقافات التي يحملها في داخله، لأنها جزء من كيانه ومن ثقافته ولا يمكن بحال من الأحوال فصلها عنه. ويظهر بأن اهتمام السارد بالأحداث الفنتازية كان من أجل التعبير عن هروبه من الواقع المتردي إلى واقع ملئ بالقيم الإنسانية والجمالية ،مشبعا كل رغباته (الجنسية والفكرية والمواهب الذاتية...) وعندما يهرب السارد تهرب معه اللغة وتنزاح لتمزج بين الحقيقة والخيال بين الواقع واللاواقع ،لتحرك فينا جمالية الفعل القرائي ومتعة التلقي، والشعور بمصداقية ما يرويه السارد من أحداث ليبقى أثرا خالدا في أذهاننا. . هوامش: * نور الدين محقق: «وقت الرحيل» منشورات وزارة الثقافة المغربية، سلسلة إبداع، 2007. * كتبت الدراسة بالدار البيضاء 29-60-2011