انعقدت أيام 12-13-14 فبراير 2009 الندوة الدولية آداب وثقافات إفريقيا الخصوصيات المشتركة ،وذلك في سياق ما تحققه الثقافة الإفريقية في محيطها الجغرافي والتاريخي والحضاري من علاقات متميزة في خريطة الثقافات الإنسانية باعتبار مساراتها وتشكيلات الأشكال التعبيرية عبر مراحل كان الإرث الشفوي باذخا ومهيمنا من خلال ما يحفل به من أساطير وخرافات وأعراف ومعتقدات وحكايات يومية لونت هذه الثقافة بشخصيات محلية استطاعت أن تجد لنفسها مكانا مشرقا في الآداب الإنسانية. وقد أكدت كلمات افتتاح هذه الندوة،بقاعة الندوات - كلية الآداب "ابن مسيك" ، والتي ألقاها كل من عميد كلية الآداب ابن مسيك بالدارالبيضاء والسيد مدير معهد الدراسات الإفريقية والسيدة رئيسة الجمعية المغربية للتنسيق بين الباحثين في الآداب المغاربية والمقارنة ، على أهمية مطارحة أسئلة الثقافة الإفريقية في أرض المغرب برؤى جديدة يساهم فيها باحثون ومبدعون من تخصصات معرفية متنوعة. علاقات شمال جنوب بإفريقيا : مقاربات عامة ترأست هذه الجلسة فتيحة بناني، الورقة الأولى قدمها جان لو آمسيل(باريس) بعنوان المثاقفة الفرنكوفونية، بيّن فيها أنه لا يوجد اختلاف بين شمال إفريقيا وجنوبها، خاصة بين منطقة المغرب العربي وجنوب الصحراء، إلا أن انعدام الاختلاف لا ينفي وجود قطيعة فيما بينهما في المجالات الأدبية والثقافية والفنية. فيما عالجت سميرة دويدر (كلية الآداب بن امسيك الدارالبيضاء) في ورقتها المعنونة ب: الآداب الإفريقية والمساهمة في حوار شمال جنوب فكرة أن المجتمعات الإفريقية تتقاسم آداب وثقافات تبرز تشابهات كبيرة لكن في الآن ذاته هناك اختلافات، ويتغير ذلك بحسب المواقع الجغرافية والظروف الاقتصادية والسياسة والاجتماعية. وتتحقق التشابهات من خلال عدة "تيمات" مثل صورة الأب، صورة المرأة والتصورات الدينية؛ وتتجلى التمايزات في النبرة المستعملة من أجل التغيير، ففي شمال الصحراء هناك نبرة عنيفة، أما في جنوب الصحراء فالكتاب يلجئون إلى السخرية والفكاهة. وانتهت إلى أن التقريب بين هذه الآداب يتطلب تأسيس حوار بين شمال الصحراء وجنوبها. المداخلة الثالثة كانت للباحث كانيني عالم اليمجورودو( جامعة لومي الطوغو): بعنوان خريطة المتخيل الصحراوي والشمال الإفريقي: من أجل مقاربة شاملة للآداب الفرانكفونية بإفريقيا ،وقد أوضح في البداية أن الحقل الأدبي الإفريقي يتميز بخصوصيات، سواء في شمال القارة أو في جنوب الصحراء. وأن أي مقاربة داخل الأدب الإفريقي و المغاربي ستكون لها أهميتها الهيرمينوطيقية تسمح بأن تكون مقدمات لتلقي الآداب المغاربية والإفريقية. وأشار إلى بعض الأبحاث التي تمت في هذا المجال منها كتاب ا سميرة دويدر الرواية المغاربية ورواية جنوب الصحراء المكتوبة باللغة الفرنسية وكتاب شارل بون وكسافيي غارنيي الأدب الفرانكوفوني. كما سعى الباحث بعد ذلك إلى إبراز الأسس النظرية لهذه المقاربات مع الدعوة إلى تجاوزها وذلك بخطوة منهجية تحاول تطوير الأفكار والنتائج التي وصلتنا من تلك الأبحاث. وانتهى إلى التأكيد على وجود إشكاليات منها كيف نبرز نقط التقاطع بين المبدعين الفرانكفونيين... وأكد أنها تستدعي تضافر جهود الباحثين لإبرازها. أما المداخلة الأخيرة فقد كانت لمحمد التعمرتي)كلية الآداب الرباط( بعنوان الزنوجة: الذات والآخر: شرعنة الذات.وقد عالج الباحث مفهوم الزنوجة موضوعيا وذاتيا ، ثم عرض لعدد من النصوص لسنغور وايمي سيسير مع نماذج شعرية في الموضوع. الشفاهية والكتابة ترأس هذه الجلسة عبد الله بيضا، الورقة الأولى قدمها ألان سيساو( روائي من بوركينافاسو) بعنوان :الأدب البوركينابي بين الشفوية والمكتوب. وأكد في البداية أن الآداب البوركينابية تميزت بالطابع الشفاهي، وان المجتمعات الإفريقية ساهمت بصفة عامة والمجتمع البروركينابي بصفة خاصة بتطوير ثقافة شفاهية قائمة على مبادئ فلسفية وثقافية وأخلاقية لهذه الثقافة مع الاستعمار ودخول المدرسة لهذه المجتمعات البوركينابية جعلت الكتابة في خدمة الشفاهية وثقافتها من أجل أن تكون دقيقة. وتبعا لذلك فإن غنى الإنتاج الأدبي البوركينابي أصبح تراثا مهما في خدمة المكتوب. وقد استعملت الثقافة الشفاهية في مجال الإبداع الأدبي التخييلي. وأكد الباحث أنه يمكن تقديم أمثلة تبين أن الآداب الإفريقية عامة والبوركينابية بشكل خاص هي في وضعية ما بين الشفاهي والمكتوب، وسواء أبدع الكتاب بلغاتهم الأصلية أو بلغات أوربية فإن الشفاهية منحت أعمالهم خصوصية وتميزا. الورقة الثانية كانت لعبد الله حموتي (جامعة وجدة ) بعنوان الاتجاهات الجديدة للرواية الإفريقية المكتوبة باللغة الفرنسية : الشفاهي والمكتوب، أية علاقة؟ وجاءت ورقته على شكل دراسة مقارنة بين النصوص السردية للكتاب الأفارقة الزنوج خصوصا في مجال الرواية وبين آخر الإنتاجات السردية باللغة الفرنسية . وذلك على مستوى التيمات والإجراءات السردية، مع الاهتمام، ليس فقط بالانتقال من الشفاهي إلى المكتوب، وإنما أيضا الاستعمال الجديد للشفاهية من اجل تطوير وتجديد التخييل وإبداع أشكال سردية جديدة وأساليب روائية جديدة. كما شملت المقارنة أيضا أعمال الكاتب الواحد. تلاه بعد ذلك الحسين عماري (بني ملال) بورقة بعنوان الثقافة الشفاهية مصدرا لتاريخ إفريقيا جنوب الصحراء أكد في بدايتها على المكانة الرفيعة والاهتمام المتزايد اللذين أصبح يحظى بهما النص الشفوي ضمن مصادر تاريخ إفريقيا لما يتيحه للباحث من إمكانات تجعل منه نصا لا يقل مكانة وقيمة عن باقي النصوص الأخرى، غير أن استغلاله يطرح إشكالات منهجية وموضوعية تحتم على الباحث اتخاذ مجموعة من التدابير الكفيلة بمساعدته على تجاوز تلك الإكراهات، وتعزيز مادته المصدرية المروية بالمادي منها والمكتوب، وكذا بنتائج بعض الأعمال والدراسات التاريخية التي تتوفر فيها شروط الكتابة التاريخية المعاصرة. المداخلة الأخيرة في هذه الجلسة قدمها إبراهيم الحجري(الجديدة) بعنوان الحضور الأسطوري في الرواية الإفريقية رواية "الطفل- الملك" نموذجا. وقد ركز على حضور الخطاب الديني والأسطوري في الرواية الإفريقية، مما يجعلها نصا ثقافيا بامتياز، وتكون بذلك نموذجا لتواصل الحضارات بثقل تاريخها وامتداد فكرها وهجرة محكياتها. وقد وجد الباحث في رواية الطفل الملك للروائي السنغالي سليمان جيوغو ديوب خير معبر عن هذا النموذج الذي انسجمت فيه الخطابات ومن بينها الخطاب الأسطوري الذي يكون المادة الأساسية التي يمتح الروائي منها سيولته الموضوعية. الآداب والثقافة الإفريقية مقاربات نقدية ترأس هذه الجلسة محمد المصطفي، وكأن أول متدخل هو حفيظ لزرك(أسفي): شعرية التجارة في "بيت في الدنيا وبيت في الحنين" لإبراهيم الكوني. عمل فيها على تبيان كيف تصير التجارة الصحراوية قصيدة وشعرا داخل هذه الرواية. وذلك باعتبارها عبورا في الزمان والمكان يعيشه الشاعر الذي يحن إلى بيت في الدنيا لا مثيل له في الصحراء ولتحقيق ذلك عليه التحايل على الحنين ذاته وأيضا التخلي عن الحياة نفسها. كما بين أن التجارة هي التي تكتب القصيدة وليس الشاعر باعتباره عبورا متواصلا هي من منحته بيت حنينه. كما أكد الباحث أنه استعان بالنصوص الروائية الأخرى للكاتب لإضاءة الرواية وكيف تكتب التجارة القصيدة والشاعر. وحول الزنوجية في رواية " الطفل الأسود " للروائي كمارا لاي تدخلت فتيحة بناني (كلية الآداب بن امسيك الدارالبيضاء) منطلقة من تلقي هذه الرواية والأحكام القاسية التي وجهت لها، مبينة أنها سيرة ذاتية يحكي فيها الكاتب السارد والشخصية الرئيسية السنوات الأولى من حياته، كما حاولت استخراج المكونات الجمالية و"التيماتيكية" للرواية التي تجعلها عملا روائيا في خدمة الزنوجة على عكس ما ذهب إليه من انتقد هذه الرواية. الورقة الثالثة قدمها بوشعيب الساوري(الدارالبيضاء)في موضوع:الحكاية الإفريقية وتأسيس الكتابة الروائية في رواية "كثبان النمل" أبرز فيها كيف تحاول الرواية تأسيس روائيتها على حوار تفاعلي مع الحكاية الشعبية المحلية، وذلك انطلاقا من خلفية نظرية تستضمرها، وهي أن الكتابة الروائية الإفريقية لكي تتميز عن نظيرتها الغربية عليها الانطلاق من الحكاية التي تُعد ديوان الإنسان الإفريقي، وبالتالي أي محاولة لكتابة الرواية تقتضي النهل من معين الحكاية، وذلك في إطار توجه إبداعي هو أدب ما بعد الكولونيالية. كما بين كيف تؤسس الحكاية روائية كثبان النمل في السافانا من خلال عدة سمات وهي: التعميم والتنكير، البعد التعليمي والقيمي والفكري، بُعدها الساخر، والانتقال من الواقعي إلى الفوق طبيعي. وكان آخر متدخل هو أحمد سعود(كلية الآداب عين الشق- الدارالبيضاء) بورقة عنونها ب سلطة الأمثال الشعبية الإفريقية قدم فيها دراسة مقارنة بين الأمثال المغربية ونظيرتها الأفريقية متوقفا عند القواسم المشتركة، ومبرزا في البداية المقاربات النظرية لمعالجة الأمثال الشعبية وإشكالاتها الإبستمولوجية وأهمها صعوبة إيجاد تعريف للمثل، ومؤكدا على ضرورة إدراج البعد التداولي لمعالجة الأمثال. جماليات أفريقية ترأست هذه الجلسة ،بمدينة الرباط بمعهد الدراسات الإفريقية ، سناء غواتي ، والتي افتتحها يوسف وهبون ( القنيطرة )بورقة في موضوع : ثقب أسود ، جمالية الخراب في تشكيل "بنبين" وتنصيبات حجوب.وقد انطلق الباحث في البداية من صورة استعارية وهي أنه في البلدان الشمالية والجنوبية للقارة أصبحت حياة الشباب الإفريقي بمثابة مستشفى كبير تتملك كل مريض فيه الرغبة في تغيير السرير. ثم أكد أن الهجرة السرية التي تنتهي في الغالب بالموت نحو أوربا سمحت بتوليد كثير من الأعمال الأدبية وسمحت أيضا بإنتاج أشكال إبداعية جديدة. ومن بين الفنانين الذين كرسوا اهتمامهم لهذه المأساة القارية ماحي بنبين الذي ركب لوحات تجسد خطوات هذه الهجرة، واحمد حجوب الذي وظف إجراءات لعبية لمعالجة موضوع كبير بتوجيه تنصيبات صار فيها القارب يرمز إلى الهزيمة والفشل. تلاه عبد القهَّار الحَجّاري(الناظور) بمداخلة تحت عنوان المقام الخماسي في الموسيقى الإفريقية وهي دراسة تمس أحد السلالم الموسيقية التي تعتبر عند علماء الموسيقى مرحلة متقدمة في بناء السلم الموسيقي المكتمل المتكون من سبعة أصوات نغمية وجواب القرار، وهو ذو فرادة نغمية تطبع موسيقى كثير من الشعوب في آسيا وإفريقيا وكذلك في جنوب المغرب. حاول الباحث في ورقته تقديم لمحة تاريخية عن هذا السلم بغية التوقف عند ملامح أصوله. وذلك من خلال الاشتغال على نماذج من جنوب المغرب وكذلك في بعض البلدان جنوب الصحراء. كل ذلك بهدف إبراز ثراء الموسيقى الإفريقية المرتكزة على هذا السلم وكيف استطاعت أن تحظى بإشعاع عالمي. وبعد ذلك قدم رشيد بنلباح( جامعة القنيطرة) مداخلة بعنوان معجم صغير لإفريقيا، أكد فيها أنه يحاول من خلاله جعل إفريقيا تقول ذاتها، من خلال نظرة الإنسان، رؤية العالم، كلام، حركة جسدية، صوت، علاقات بين الأشياء، كلها تقول إفريقيا بطريقتها الخاصة. وتلتها مداخلة فاطمة بوزنيخ( جامعة محمد الخامس الرباط) التي أكدت أنها ستتبع مقاربة مقارنة تدرس من خلالها وضع وقضية المرأة عبر الأعمال التخيلية الرجالية والنسائية للكتاب الأفارقة، في شمال وفي جنوب القارة. وأن الغاية الأساسية المنشودة هي تمحيص توزيع نوع الأدوار المنوطة بالشخصيات النسائية. وأيضا تقييم معالجة الكتاب لهذه القضية عبر استحضار نقط التشابه والاختلاف بين كتاب شمال القارة وجنوبها. وكانت الورقة الأخيرة لبنعودة لبداي(جامعة اونج فرنسا)في موضوع : مسألة اللغات: البوليفونية في الآداب الإفريقية. أبرز الباحث أن مداخلته تندرج في موضوع اللغات ورهاناته في الآداب الإفريقية، ينطلق فيها من سؤال الإرث اللغوي الكولونيالي في إفريقيا وتبعاته وتأثيراته في التجليات الأدبية اليوم. مركزا في مداخلته على كتاب أفارقة من شمالها ومن جنوبها ممن كتبوا باللغتين الفرنسية والإنجليزية،وتوقف في البداية عند دوافع اختيار اللغة لدى هؤلاء الكتاب، وبعدها آثار ذلك الاختيار على جمالية الأدب نفسه. وذلك من خلال عدة أعمال ل" نكوكي واتينكو"، "اوكوت بتيك"، شينوا أشيبي، رشيد بوجدرة، كاتب ياسين. وذلك انطلاقا من خلفية منهجية تستند إلى النقد ما بعد الكولونيالي وأدوات نقدية من الأدب المقارن. واختتمت هذه الندوة التي نظمها مختبر السرديات وشعبة اللغة الفرنسية وآدابها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيمك /جامعة الحسن الثاني بالدارالبيضاء بتنسيق وتعاون مع الجمعية المغربية للتنسيق بين الباحثين في الآداب المغاربية والمقارنة ومعهد الدراسات الإفريقية بجامعة محمد الخامس – السويسي الرباط .أشغالها بالمعهد الفرنسي- الرباط ، قاعة فليب جيرار، بمائدة مستديرة حول ثقافات وآداب أفريقيا :أي مستقبل ؟ أدار أشغالها عبد الله علوي المدغري بمشاركة عدد من الباحثين والمختصين . بعد ذلك كان الختم مع الحكي بتأطير حليمة حمدان .
تجارب نقدية :محمد بوعزة ، بوشعيب الساوري الدنو من الرؤية
شعيب حليفي يسير النقد الأدبي بالمغرب في اتجاهات متعددة تقود نحو القضايا الفنية والدلالية للنص الأدبي ،وذلك من خلال مرحلتين متكاملتين ، في الأعم ، مرحلة البحوث الأكاديمية التي تصوغ للناقد رؤيته وتصقل أدواته ؛ثم مرحلة البحوث النقدية التي تجئ في شكل دراسات متكاملة عن موضوع بعينه أو تجميعا لمقالات تُقارب نصوصا متعددة .وهذا العبور المتفاعل هو ما يعطي للنقد استمراريته وقدرته على التواصل والتجدد ،مع تجارب تختلف رؤاها ولغاتها واختياراتها . المحكي والدلالة في كتابه "هيرمينوطيقا المحكي :النسق والكاوس في الرواية العربية " (1) يكشف محمد بوعزة عن صفة أساسية فيه باعتباره مؤلفا ، وهي الرصانة العلمية والطموح إلى التجديد وهو يخوض في بناء الدلالات انطلاقا من حرصه على صوغ أسئلة تأطيرية ،من قبيل الكيفية التي يدل بها النص الروائي وعلام يدل ؟وكيف يمكن البحث في الدلالة وطبيعتها ثم علاقتها بالأنساق الدلالية الأخرى ،وأخيرا كيفية مساهمة القارئ في إنتاجها ؟ اختار الباحث محمد بوعزة بناء الأطر النظرية لمؤلفه اعتماد مرجعيات تستند على المنظور المعرفي في القراءة والكشف عن الدور التشييدي للسردية في صياغة أنساق الفهم وإنتاج المعرفة بالذات ومحيطها . إن رغبة الباحث في الإضافة وتوسيع مجال البحث في السردية، جاء عبر إثارة أشكال الدلالة في النص الروائي وهو ما جعل مؤلفه يحقق رِهانين استراتيجيين ؛الأول علمي تمثل في تطوير وجهة البحث في الدلالة بتجاوز الدرس النقدي المرتكن إلى التماثل والانعكاس والإسقاط ،ومن خلال مضمون النص من منظورات إيديولوجية خارجية "تُقْصي" أدبية النص وبََوْحِهِ الجمالي . أما الرهان الثاني المعرفي فعبره يقترح الباحث محمد بوعزة الدنو من نموذج النقد المعرفي كما شيده محمد مفتاح ، ذلك أن " دراسة الدلالة في إطار هذا المقترح المعرفي )...(تستدعي مفاهيم متعددة ، المعنى والتأويل والفهم وطرق اكتساب المعنى وأواليات اشتغال الذهن ؛ مما يجعلها تنفتح على اتجاهات مختلفة ، سواء داخل العلم الواحد مثل اللسانيات والسرديات ،وتخترق الحدود بين الاتجاهات والنظريات ، ويوضح هذا التشعب والامتداد الوضع المتداخل للدلالة بين الاختصاصات المتعددة"(ص22). ويُبرز الباحث تمسكه المنهجي بحاجة النقد إلى كشف الأنساق المعرفية والدلالية للرواية العربية بحيث يتحول إلى نمط للمعرفة، يشارك في التشييد الاجتماعي من منظور معرفي وعلمي إلى جانب الأنساق المجتمعية الأخرى. ولكي يختبر الباحث منطق اشتغال الدلالة وأنساقها التخييلية والمعرفية اختار المتن الروائي لسليم بركات ، من خلال ثلاثة نصوص، هي: (فقهاء الظلام ،الريش،معسكرات الأبد) ، حيث قارب هذا المتن الثري في بابين اثنين ، الأول للبناء النظري وهو من فصلين حول الدلالة في السرديات وفي الرواية .أما الباب الثاني وهو من أربعة فصول تحليلية، اتجهت نحو البحث ، أولا ،في بنية المحكي وطابع الدينامية الذي يجعل من متن سليم بركات منفتحا على آليات التوالد الذاتي والتحول والامتداد .وثانيا البحث في دلالة المحكي بالكشف عن أنساق المحكي المشكلة لمعمارية البنية السردية عبر ثلاث مقولات هي الفعل والعيش والكينونة .أما البحث الثالث فكان حول هيرمينوطيقا المحكي وفيها يستوضح الباحث كيفية تَمَكُّن سردية الذات من إعادة صياغة فهمها لذاتها ومشروعها وهويتها . وأخيرا يقارب الباحث ابستيمي المحكي والذي يشيد نسقا معرفيا ينبني على جدل العماء والانتظام يقوم على التفاعل والغوص في الظواهر المعقدة ضمن استراتيجية نقدية تسخر من المعرفة اليقينية . وأعتقد أن محمد بوعزة ، في مؤلفه هذا، وإنْ ظل في جزء كبير منه أسيرَ مفاهيم إجرائية أثناء مغامرة التحليل ، فإنه بالتأكيد يُعَبر عن أفق واعد في النقد وهو يدنو من النص ويخفي أدواته خلف أسلوب اشتغاله . • النسق والسياق أصدر الباحث بوشعيب الساوري ، حتى الآن ،ثلاثة مؤلفات نقدية ، تنظر إلى النص السردي القديم والحديث ، وكأنما يريد بذلك اختبار هذه المبادئ على نصوص مختلفة فنيا وزمانيا . في مؤلفه الأول "الرحلة والنسق : دراسة في إنتاج النص الرحلي من خلال نموذج رحلة ابن فضلان "(2)يعيد بناء رؤية جديدة إلى نص سردي /رحلي ظهر في القرن العاشر الميلادي وخلق ،بعد ذلك، جدلا واسعا لأهميته التاريخية والثقافية رؤية ثلاثية تقرأ الرحلة عبر ثلاثة أبواب تضم تسعة فصول، بدءا بعملية الإنتاج والأنساق الثلاثة الفاعلة في المرحلة المدروسة بالإضافة إلى أنواع المتلقين، وصولا إلى رحلة ابن فضلان وخصوصياتها.. في الباب الثاني والثالث يشرع الباحث في تفكيك النص ومحاورة ابن فضلان انطلاقا من ثلاثة مكونات تؤطر شعرية الرحلة ، وهي البعد التعليمي والمعرفي ، ثم الحكائي المتمثل في بنية المغامرة وسرديتها والمرجعيات المتحققة ،وأخيرا "الآخر "وحضوره في صور مختلفة .أما اشتغال صيغ الخطاب في نص ابن فضلان فقد حصرها الباحث في التقرير والسرد والوصف انطلاقا من تحليلات وتوصيفات راهنت على فهم وتأويل الرحلة باعتبارها إنتاجا ثقافيا في لحظة تاريخية وحضارية . وبنفس الرؤية ،يكتب بوشعيب الساوري مؤلفه الثاني "النص والسياق " (3)وهو دراسة في رسالة التوابع والزوابع لابن شُهيد، والذي عاش أيضا في نهاية القرن العاشر الميلادي ، ومن العصر ينطلق الباحث للبحث في مسألة ربط النص بسياقه وسبل انبنائه وذلك في قسمين يحققان استكمال البحث في شعرية هذا النص ، من خلال رغبة الكاتب في الكتابة والتدوين ، وبين إكراهات السياق الثقافي بشكل عام وسياقات أخرى متداخلة ، بحيث ارتكز سعي المؤلف على إيضاح كيفية تفاعل وتشاكل الجوانب النفسية والاجتماعية والتاريخية والسياسية على المستوى النصي والجمالي ، وهو ما خلصت إليه الدراسة بالإضافة إلى أن كل عمل أدبي ، وضمنه رسالة ابن شهيد ، يوسم بسمات عصره الثقافية ، لذلك جاءت رسالة التوابع والزوابع ذات منحى دفاعي ونموذج كتابي يعكس أشكال الوعي في تلك المرحلة . ولعل ما يجمع ما بين الكتابين : الرحلة والنسق والنص والسياق، أشياء كثيرة أهمها هو أن مفهوم الأدب في القرن العاشر والحادي عشر قد عرف نضجا كبيرا أتاح توسعا في خلق أشكال فنية (الرحلة والسيرة )من جهة ،كما خلق مساحة من البوح عند ابن فضلان وابن شهيد للتعبير عن رؤيتهما من جهة ثانية ، مثلما كانت لحظة تَشَكُّل نماذج أخرى مجاورة : السير الشعبية والحكاية والتراجم والمقامة ... وفي تجربة نقدية جديدة يستكمل بوشعيب الساوري خطواته النقدية في كتابين جديدين حول الرواية . يخص في كتابه "رهانات روائية:قراءات في الرواية المغربية "(4) النص الروائي المغربي من خلال سعيه للإمساك ببعض القضايا الفنية والدلالية خلال السنوات الست الأولى من الألفية الثالثة، وفي ثلاثة عشر نصا روائيا تعكس مختلف الأصوات التي تكتب الرواية بالمغرب .حيث يقدم الباحث مقاربات توصيفية مفتوحة على ما تلتقطه من مهيمنات يقرأها ويؤول دلالاتها . ومن خلاصات هذا الكتاب التي استنتجها الباحث من النصوص موضوع البحث ، حضور سؤال كتابة الرواية مقترنا بخصوصية لغة الكتابة وما تحققه من متعة فنية رغم إصراره على استحضار الإيقاع الاجتماعي والسياسي . وسيخصص بوشعيب الساوري مؤلفه الرابع للمنجز الروائي للميلودي شغموم في كتاب نقدي بعنوان: " من الحكاية إلى الرواية "(5) قرأ خلاله تسع روايات لشغموم معتمدا على تقسيمه إلى مرحلتين: الأولى يشدها الانشغال بالحكاية وعوالمها العجائبية ، فيما الثانية تعمل على اليومي الإشكالي بمفارقاته مع تسخير الحكاية والأسئلة الفلسفية . عَمِل الباحث في هذا الكتاب على البحث عن الرؤية الناظمة للكتابة الروائية عند الميلودي شغموم في كل مرحلة ،بإبراز الكيفية التي يتفاعل بها النسق الذهني مع النسق التجريبي من خلال رصده لخصوصيات التجربة في المراهنة على التجديد والإبداع والخصوصية .وهي نفس المراهنة التي يبحث عنها الساوري في قراءاته للنص السردي المغربي والعربي القديم والحديث في شكل مقترحات نسبية وإجرائية للفهم والتأويل ضمن عنصرين أساسيين هما النسق والسياق .