مستمر باستمرار العنف بأشكاله المادية والرمزية على الأطر الإدارية والتربوية تحت ذرائع واهية تعيق التحصيل وصيانة الكرامة. جرح غائر في الجسد التعليمي من خلال تزايد شرارة العنف المدرسي، واستفحال العنف في الوسط الشعبي، كل ما تنقله عدسات الكاميرات، والصور الواردة من شبكات التواصل الاجتماعي عن عودة ظاهرة العنف بحدة، بالسيوف والأدوات الحادة، العنف اللفظي والعنف الجسدي، عنف مزمن تغذيه مجموعة من العوامل المتفاعلة والمتداخلة، عنف الطبيعة الإنسانية الميالة للقوة والحرية المطلقة، وعنف القيم الرديئة من الواقع الهش، عنف الصورة، والعنف بوصفه عدوى يتغلغل في العقول والنفوس، يصطاد الأبرياء، ويركن في الأعماق، يوجه الفعل والسلوك. هنا نطرح جملة من الأسئلة الملحة من قبيل: أين يتجلى الخلل؟ ومن المسؤول عن ظاهرة العنف في مؤسساتنا التربوية؟ وهل يمكن اعتبار العنف ظاهرة طبيعية أم نتاج عوامل ثقافية واجتماعية وسياسية ؟ العنف في مجتمعنا المغربي وليد عوامل جمة يمكن اعتباره بنية مركبة ومتداخلة من العوامل التي تستدعي من المختصين تشخيص أسبابه دون حصره في أسباب بذاتها. عوامل نفسية في العقد النفسية، ومركبات النقص والحرمان في الشحنات النفسية والعاطفية، ذلك الحرمان المصاحب للطفل من جراء معدلات الطلاق والتفكك الأسري، كذلك الخصاص في التربية الصحية على الحرية والاختيار، وحدود الإنصات للطفل والعمل على تطوير قدرته على التفاعل دون ترهيب أو تعنيف، النقص في التربية والتغذية الروحية والنفسية، القهر النفسي يولد الضغط، والحاجة إلى تفريغ المكبوت، والتباهي بالفعل كأنه إنجاز يخفف من وطأة الضغط النفسي، الفعل المشين في لحظة انفعال وغضب يخرج المكبوت للعلن مع الشعور بالندم، وصحوة الضمير أو الخوف من العقاب. يلقي العنف بظلاله على الجانب المخفي والمنسي من التحليل، عندما لا يتم تشخيص العوامل المركبة من النفسي والاجتماعي والفكري والاقتصادي، حصيلة الدوافع الذاتية والموضوعية معا. تأجيج العنف ينذر بعدم التوازن بين الحقوق والواجبات، التنزيل الخاطئ والمتسرع لفلسفة حقوق الإنسان عموديا في مجتمعنا لأنها فلسفة غربية، وليدة سنوات من النضال والتربية في الغرب. حقوق الإنسان في حاجة إلى تأصيل داخل ثقافتنا كما جاء في تحليل الفيلسوف محمد عابد الجابري. الأمر الذي يحتاج للوقت والزمن في استيعابها كفكر وممارسة داخل الأسرة وخارجها. اللوم موجه للكل، من الأسرة وأطر الدعم الاجتماعي والتربوي، والفاعلين في مجال الإعلام، ومهندسي الفعل التربوي والتعليمي، أي الجهات الرسمية الفاعلة في تنزيل القرارات والمراسيم . لم يعد المدرس قدوة أو رمز، المثال الذي يبني العقول والنفوس، المدرس رهينة بين الجدران، يفني العمر ذهابا وإيابا في الالتزام بالوقت والانضباط للقانون، يحاول التكيف مع الوضعيات المختلفة، يحاول التوفيق بين المذكرات، وما يمليه عليه الضمير والواجب المهني حتى لا ينكسر، وبالتالي تتحطم إرادته، ولا يقوى على العمل والعطاء. لا مفر للمدرس من الوجود في قلب الوضعيات الصعبة، التكيف مع الاكتظاظ داخل الفصول، والتعامل مع حالات الاستعطاف، المدرس البارع، الموجه، والمقوم، والمنشط، الفاعل، الأستاذ المصاحب، والأستاذ الرئيس، يراقب ويتابع، وينصت للهموم ونبضات المتعلم قصد المساهمة في الحل والمعالجة، والمشارك الفعال في الحياة المدرسية، يقدم نماذج للسلوك، ونموذج للقدوة، وعليه العمل بالكفايات وأجرة المضامين والمبادئ، أن يكون بالصورة التي يريدها ويرغب فيها الكل. أن يكون المعلم بالمواصفات التي يضعها الفاعلون في الحقل التعليمي، من الصورة الراقية للمعلم في بناء التعلمات دون أن ينتبه هؤلاء إلى ضرورة مد المعلم بالسلاح المعنوي والقانوني، الرفع من قيمته الاعتبارية في التربية والتعليم، المعلم أسد بدون أنياب، دهائه وذكائه يصطدم بالوضعيات اللاتربوية، والحالات الصعبة في عملية التعليم والتعلم، وهي عملية شاقة وصعبة في واقع غير صحي، أقل ما يمكن وصفه أنه مضطرب، نتاج للظروف، وللعالم السائل التي تتدفق من خلاله الصور والمعلومات بسرعة فائقة، دليل آخر على هشاشة الوجود الإنساني، وانحطاط القيم نابع من البلادة والتفاهة. نتاج للتقنية والعصر التقني، نتاج للتحولات المجتمعية المحلية والعالمية. نتاج لاستقالة الأسرة من التربية الناجعة. كم تحتاج من الوقت لإقناع نفسك أنك لم تعد المعلم الذي ينهل منه الكل المعرفة، عليك أن تجيد اللعب، وإتقان اللعبة، حتى تستمر في الوجود أو تصاب بأمراض مزمنة نتيجة القلق المستمر، وشحنة من الطاقة السلبية. عليك الرقص، وإتقان الحرفة، والعزوف عن المثالية وعدم العودة للوراء، يعيش الجيل الجديد اللحظة، لا يلتفت للوراء، يرسم صورة لنفسه من خلال العالم الافتراضي، بل الآباء اليوم يشتكون من الإدمان واستلاب عالم التقنية. الانترنيت خطف الأبناء من الآباء، إنهم معتقلون داخل البيوت، وفي زوايا المنازل والمقاهي، يحملون الهواتف في الشوارع، ويحرصون على صيانتها، هواتف مشحونة بالصور والألعاب وبرامج التسلية. الحاضر لا ينهل بالضرورة من الماضي، وما قاله الشاعر"أحمد شوقي" عن التبجيل والتقدير للمعلم لم يعد ممكنا في زمن الحريات المزيفة، والصور المنتشرة للمعلم في واقعنا، ناهيك عن القوانين التي جعلت من المتعلم قلب العملية التعليمية، وجعلت المدرسة ملاذا للفاشل والمطرود، كذلك مذكرة البستنة، والعناية القصوى بالتلميذ، وعدم حرمانه من التعلم، ولو في غياب العدة والأدوات الضرورية في التعلم. نزيف المدرسة العمومية مستمر، والإرادة في التغيير والإصلاح تملي على المجلس الأعلى للتربية والتكوين كهيئة استشارية أن يخرج بتقارير مفيدة عن العنف مع الحلول المستعجلة وإلا سيكون الجرح عميق في تربية الأجيال على ثقافة العنف والتسيب إذا تم التغاضي والتجاوز دون اجتراح حلول بديلة وعملية في تحقيق التوازن ين الكل. الإيمان بقيمة المتعلم يوازيه الإيمان بقيمة المعلم وكرامته وقدرته على العطاء، إذا وجد المعلم الأرضية الصلبة والملائمة للعمل. أسياد الميدان هم بالفعل الأطر التربوية، والأطر الإدارية، من يعرفون دواليب الحياة المدرسية، من يسعون للتنشيط، وتفعيل القوانين، حيث تتبلور القرارات من داخل المجالس التربوية. العنف المدرسي ونزيف التعليم العنوان البارز في الإعلام، صورة المدرس في المخيال الشعبي، صورة عن واقعنا الذي تخترقه أشكال من العنف، لا يقتصر هذا النوع من العنف على المعلمين والأطر الإدارية، العنف واقعي في الفضاء العام، في الأسرة والمرافق الأخرى، يستفحل ويزداد في حالة عدم تقنينه أو محاصرته والقضاء عليه. العنف يزيد ويتصاعد في عدم فهم مسبباته ودوافعه، تفاعلات من الأسباب البنيوية المركبة، القيم التي نحيا عليها لم تعد خاصة بالتقدير والاحترام للمدرس، العنف القادم من الحواسيب والهواتف، العنف النابع من الصورة الخاصة بالأفلام والمسلسلات، العنف وليد النقص في المثال والأخلاق الرزينة . الخطاب القائم على تحليل العنف جزئي، قائم على البتر والاختزال، والتحليل لما هو جزئي دون الأخذ بعين الاعتبار التداخل بين المكونات والظواهر السلبية التي تنخر مجتمعنا. كل فعل يقابله رد الفعل، المدرس عندما يختار المقاربات الممكنة يحاول قدر الإمكان التقليل من الاصطدام والنأي بالذات عن كل فعل لاتربوي، التزامه بالحلول التربوية، استعمال الأدوات والآليات المتاحة اختيار حسن، منها المصاحبة والتواصل والحوار، أدوات جيدة في حاجة إلى نوع المتعلم الذي يتربى في بيئة سليمة وأسرة متوازنة، التربية على الحرية والاختيار مطلب بيداغوجي وتربوي، تحقيقها يستلزم متطلبات وظيفية وأدوات عملية، وتربية من داخل الأسرة المغربية، كالتربية النفسية السليمة، والتربية الاجتماعية المتوازنة بعيدا عن الاحتقان والانتقاص من المراهق وبالتالي لا يمكن العمل على استئصال العنف بسهولة لأن المتعلم يحمل هذا النوع من العنف من الطفولة، يحمل المشاكل الأسرية، ويحمل المعاناة والكدمات. المتعلم ضحية بنيات اجتماعية ونفسية وتربوية، ضحية مجتمع لا يرحم، وضحية العوالم الافتراضية التي تمدنا بالصور النمطية من مجتمعات أخرى، ضحية البرامج والتحريض من التافهين والجلادين، وذوي الضمائر المريضة، المنتشرين في شبكات التواصل الاجتماعي، جولة في شبكات التواصل تستخلص اللغة القدحية والكراهية العمياء، والحقد الدفين في التدوين والتعليق، التافهون اقتحموا العالم الافتراضي، انسحب الناس من الواقع، لم يعد النموذج والمثال قائما، نماذج التافهين، لمن يرغب في التفرقة والشتم، لمن يسعى للربح والشهرة، هؤلاء يدسون سم المعرفة المزيفة في أذان المراهقين . لم تعد المدرسة النموذج المثالي أو الصورة التي يتم ترسيخها في الأذهان، هوس المتعلم بالنجوم والمشاهير في مجال الرياضة والفن، يقضي المراهقون الليالي في التواصل، وارتياد غرف الدردشة والألعاب، منهم من يعمل، ويقضي أوقات عدة في الأسواق، كما يكثر في الوسط التعليمي الغياب بدوافع متعددة، ولا يأتيك بعض المتعلمين إلا لاجتياز الفروض، هنا تتدخل القوانين، وتعمل على تبسيط المساطر بدعوى عدم حرمان المتعلم من حقوقه، وتجد المسوغات في ذلك الحجة المناسبة بدعوى الهدر المدرسي. في الحقل التعليمي يمكن للمتمرس أن يرصد وضعيات وحالات متعددة للسلوك، أنماط الأفعال، أحيانا يمكن تعديل السلوك وتقويمه، وأحيانا أخرى يرغب المعلم في تقديم المعرفة، وبناء التعلمات، وغرس روح البحث والتحصيل. يثيرك الانتباه وأنت في الميدان أن المتعلم لم يعد يبالي بالتعلم، هناك تراكمات للسلوك المشين، هناك أزمة وخلل في المنظومة التعليمية، شرخ عميق في القيم والتربية الهادفة، ظواهر مادية غير طبيعية في مجتمع غير طبيعي، تنخره أزمات اجتماعية ونفسية، هي الأزمة المزمنة المركبة، وما يقلق بالفعل في مجال التربية والتعليم أن يتحول العنف إلى ظاهرة عامة تستشري في مجتمعنا، وبالتالي يصعب أن ينمحي العنف من خلال المقاربات الأمنية، والمقاربات البيداغوجية . يجرب المعلم الأدوات والآليات، يعمل على تكييف هذه الأدوات مع فعل التعلم. لم يعد التلقين يجدي، أصبح المعلم يجرب تقنيات التنشيط والحوار، يجرب التواصل، وإشراك المتعلم، نزيف التعليم جرح في الجسد التعليمي، يتمزق هذا الجسد من الكدمات والجروح في سيكولوجية المعلم، عندما لا يجد الدعم والمساندة من قبل الجهات المعنية في سبيل تحقيق الرسالة التربوية، عندما يتنصل المجتمع الحامل للصورة السلبية للمعلم ورمزيته في أداء الرسالة، ماذا يريد المجتمع من المعلم ؟ وماذا ترغب الدولة من التعليم ؟ الأسئلة توجه للأطراف المعنية حتى يكون الخطاب الدائر عن المدرسة ليس مجرد ترف أو شيء للاستهلاك بدعوى الجودة وبناء التعلمات أو بدعوى التنوير والسلوك المدني أو التوازن بين المشروع المجتمعي والمشروع الفردي، يجب القول بناء على النوايا الحسنة والصريحة أن قاطرة التنمية مركزها التعليم والتنوير، وبناء السلوك المدني لن يكون سهلا في غياب العناية بالمعلم والتعليم . يمكن أن ينقلب السحر على الساحر، يمكن أن يتحول مجتمعنا إلى أزمة مزمنة في غياب التفعيل للقوانين، وفي غياب النهوض بالمؤسسة التعليمية. رواد المدرسة القائمون عليها من الأطر الإدارية والتربوية هم الذين يعرفون الدواء الناجع، والترياق الفعال للتقليل من العنف حتى لا يصير ظاهرة منتشرة، حتى لا يتحول إلى ثقافة تخترق العقول والنفوس، ويصبح اللجوء إليه مشروعا تحت ستار الحق الطبيعي والدفاع عن النفس، بدون القواعد النابعة من الإلزام، وقواعد الواجب والتربية على السلوك المدني والحضاري، يصير مجتمعنا مثالا للاحتقان، وبالتالي يكون هناك تراجع في مؤشرات التنمية . الأولوية للمعلم والمتعلم، العناية بالقواعد والقوانين، بدون أخلاق الضمير، وأخلاق المسؤولية سيكون الأمر أشبه بذر الرماد في العيون، ولن يكون الإصلاح أو التوصيات إلا ضرب من الاستحالة في واقع العنف المزمن. أصبح المعلم اليوم حبيس الجدران، أسير أغلال القوانين، ضحية نظرة المجتمع السقيم بأمراض التخلف والضعف الفكري، أسير الثقافة المادية والنزعة الاستهلاكية. العنف وليد العوامل المركبة والأسباب المتداخلة، لا بد من التشخيص أكثر من قبل المختصين في مجال العلوم الإنسانية، نعثر على الوصفة الأساسية للعلاج والوقاية، يختفي العنف ويتم تقنينه، هناك إجماع من قبل القاصي والداني أن المدرسة العمومية المغربية تحتضر، لا نرغب في نهايتها لأنها الحل الوحيد للترقي الاجتماعي، المنبع الأصيل للتعلم والبناء. المدرس الذي يكابد الصعوبات، يحاول أن يرسم للمجتمع أفقا يتحقق من خلاله المغرب المعاصر، مغرب التنوع والتعدد الثقافي، مغرب الكرامة والحرية، إذا كان الرهان أقوى، فلا سبيل لذلك إلا بالتكريم والتشريف للمعلم وتقديره حتى يبقى الرمز والقدوة دون أن تنال منه القوانين الجديدة في التقليل من صورته. مقامه محفوظ في المجتمعات السعيدة، ومكانته راسخة في أذهان النخب، من القادة والزعماء. نزيف التعليم بداية انهيار الأخلاق، نزيف التعليم بداية التفكك والانحلال. الخوف على مصير القيم مشروع، التوجس من حالة التربية يدق ناقوس الخطر عن التمزق في سيكولوجية الفرد، وعلينا الاحتياط من تنامي شرارة العنف، لا بد من الضرب بقوة الحديد والنار، لا بد من العمل بروح القوانين في التربية الأصيلة، من نبذ الغلو والتعصب، ومحاربة الأفكار الدخيلة على مجتمعنا المغربي، حتى لا نصير نموذج للمجتمعات الكئيبة، والضائعة بضياع أخلاقها.