في خضم الإصلاحات التي تعرفها منظومة التربية والتكوين ببلادنا، تطفو بعض المفاهيم على سطح التداول لتؤكد أن تحديد وتدقيق المفاهيم وتأصيلها عتبة أساسية لتوحيد الفهم وتيسيره ولبناء جسور التواصل والانسجام بين نص الرؤية الإصلاحية واختيارات تصريفها والإطارات المنهجية المعتمدة لتفعيلها. فما الرؤية الإصلاحية إلا جملة مفاهيم وعبارات بدلالات متعددة حسب خلفياتها وحقول انتمائها، والسياقات التي أنتجتها أو استنبتت فيها. كما أن راهن المدرسة المغربية يؤكد بالملموس أن خطاب الإصلاح في حد ذاته ، ليس خطابا واحدا منسجما وإنما هو خطابات متعددة، تبحث عن الانسجام فيما بينها. لذا يظل الجواب عن سؤال: أي مدرسة نريد؟ عالقا. وعن سؤال : أي نموذج بيداغوجي لإرساء مدرسة الإنصاف والمواطنة؟ تائها. في هذه المقالة المتواضعة سأحاول تقديم جواب هو في الأصل عبارة عن فرضية من الفرضيات الممكنة لتصور نظري يلامس بعض المفاهيم التي يعتبر تحديدها وتدقيقها نقطة البداية لمواجهة إشكالية من الإشكاليات الحقيقية للمدرسة المغربية في الوقت الراهن. وقد اخترت من بين هذه المفاهيم تلك الأكثر تداولا في الخطاب التربوي المغربي سواء كان رسميا أو غير ذلك، كما اخترت مفهوما جديدا غير مستعمل ونراه أساسيا من أجل تيسير فهم ما يعتمل في الفضاء المدرسي. فأما المفاهيم المتداولة فسأقتصر على المنهاج التربوي والمشروع التربوي المندمج والحياة المدرسية. أما المفهوم غير المستعمل فهو مجتمع التعلم. 1. المنهاج التربوي: تفيد الأدبيات التربوية المعاصرة ذات الوجهة الأنجلوسكسونية، بأن المنهاج التربوي هو مجموع الخبرات التي تهيئها المدرسة، داخلها وخارجها، لمساعدة المتعلمات والمتعلمين على النمو المتكامل والشامل لمختلف جوانب شخصيتهم، على أساس أن النمو سيرورة تقدمية في اتجاه النضج والاكتمال، بغاية تأهيلهم للنجاح في مسارهم الدراسي والنجاح في حياتهم الخاصة وتمكنهم من تملّك مقومات الاندماج الإيجابي والفاعل في مجتمعهم المتسم بالتغير السريع وكثافة المؤثرات وتنوعها وكذا العمل من أجل المساهمة في تجديد نخبه وتنميته التنمية الشاملة والمستديمة وضمان استقراره وازدهاره. وعليه ، فالمنهاج التربوي يتضمن الاختيارات الاستراتيجية للدولة في قطاع التربية والتكوين، باعتباره المرآة العاكسة لطبيعة المشروع المجتمعي. كما يتضمن مجموع المدخلات التي يستند إليها وتصورا عن طبيعة المخرجات المنتظر تحقيقها وملامح التخرج، بالإضافة إلى كل ما توفره المدرسة من مضامين معرفية ومجالات قيمية ومهارات حياتية ومرجعيات توجيهية وتنظيمية ومساطر لتدبير العلاقات واستثمار الفضاءات المكانية والأحياز الزمنية والموارد البشرية والوسائط الديداكتيكية والمقاربات البيداغوجية وظروف التعلم ومقومات الإنصاف البيداغوجي واستراتيجيات التقييم والتقويم والمصادقة والإشهاد وغيرها. يجد المنهاج التربوي ماهيته في الجواب عن ست أسئلة أساسية مندمجة، هي: ماذا ولماذا ومَن وكيف وأين ومتى. حيث يقود الجواب عن "ماذا" إلى الاختيارات الاستراتيجية التي تربط المدرسة بسؤال ماهيتها ووظيفتها. ويقود الجواب عن سؤال " ماذا" إلى المناهج الدراسية الحاملة لهذه الماهية والمجسدة لهذه الوظيفة، بحسب الأسلاك والمسارات والشعب والمستويات الدراسية. ويقود الجواب عن سؤالي "من" و"كيف" إلى مجتمع التعلم الذي تشكل المدرسة موطنه الأصيل، والمتعلمات والمتعلمون والفاعلون التربويون والإداريون في الوسط المدرسي عناصره ومكوناته، أي شبكة العلاقات والتفاعلات القائمة داخل الحرم المدرسي. حيث تشتغل البيداغوجيا عندما يتعلق الأمر بالمتعلمات والمتعلمين، وتشتغل الأندراغوجيا والتقاسم ومضاعفة التكوين عندما يتعلق الأمر بباقي المستهدفين، وتشتغل الديداكتيك عندما يتعلق الأمر بالمعرفة ومستوى بنائها في علاقة بالفئات المستهدفة بها. أما سؤالي "أين" و"متى" فيقود الجواب عنهما إلى الحياة المدرسية، لتمييزها عن غيرها من الفضاءات. وعندما تطرح هذه الأسئلة جميعها دفعة واحدة يقودنا الجواب عنها إلى المنهاج التربوي باعتباره الإطار النظري الذي تتفاعل داخله المناهج الدراسية مع خصوصيات مجتمع التعلم مع الحياة المدرسية. أما الإطار المنهجي الذي تنصهر داخله هذه المفاهيم وتتفاعل فهو المشروع التربوي المندمج للمؤسسة. كثيرا ما يتم تداول مفهوم المنهاج التربوي للدلالة على جزء منه أي المنهاج الدراسي، وهو أمر، لا محالة فيه قصور، لأن المنهاج التربوي نسق ولا تشكل فيه المناهج الدراسية إلا عناصر من عناصره. لا يعني المنهاج التربوي في الوسط المدرسي أي شيء ما لم يتم إقامة وتدقيق هذه البرامج(البرامج الدراسية وبرامج العمل التربوي) ومأسسة الجسور بينها لتشكل ذاك الكل المندمج الذي ينطلق موحدا في الغايات وينتهي موحدا في المخرجات المنتظرة ولا يختلف إلا في السيرورات ونوعية الأنشطة، بحيث أن الأولى (البرامج الدراسية ) يسأل عنها مدرس(ة) المستوى الدراسي وجماعة الفصل الدراسي الذي يعتبر وحدة وظيفية نواة لباقي الوحدات الأخرى، بينما يسأل عن الثانية (برامج العمل التربوي) باقي الوحدات الوظيفية داخل الوسط المدرسي مثل مجالس المؤسسة والنوادي المدرسية والخلايا الوظيفية ولجنة القيادة في مشروع المؤسسة وفرق العمل وغيرها. كما أن هذا المنهاج لا يعني شيئا ما لم يتم تحديد مداخل تصريفه والمقاربة البيداغوجية التي في إطارها سيتم تصريف هذه البرامج. وفي حالة منظومة التربية والتكوين بالمغرب فقد اعتمد المنهاج التربوي ثلاثة مداخل هي: مدخل تنمية وتطوير الكفايات لجعل المتعلمات والمتعلمين يحققون النجاح المدرسي ويكتسبون مؤهلات الاندماج الاجتماعي والاندماج في سوق الشغل. واختار المنهاج التربوي خمس كفايات أساس يتم تنميتها وتطويرها تدريجيا، عموديا وأفقيا، هي الكفاية التواصلية والكفاية الاستراتيجية والكفاية المنهجية والكفاية الثقافية والكفاية التكنولوجية؛ مدخل التربية على القيم والتنشئة المدنية من أجل جعل المتعلمات والمتعلمين متشبعين بمنظومة قيم تؤهلهم للعيش المشترك والاندماج في المجتمع والانفتاح. واختار هذا المنهاج أربعة مجالات قيمية هي: قيم العقيدة الإسلامية القائمة على العقيدية الأشعرية والمذهب المالكي وقيم الهوية الحضارية ومبادئها الأخلاقية والثقافية القائمة على تنوع المكونات والروافد وقيم المواطنة التي يؤطرها نظام الملكية الدستورية الديموقراطية البرلمانية الاجتماعية، وقيم حقوق الإنسان ومبادئها الكونية؛ مدخل التربية على الاختيار من أجل جعل المتعلمات والمتعلمين قادرين على بناء مشروعهم الشخصي في دراستهم كما في حياتهم الخاصة والعامة وكذا التأهل للانخراط بفعالية في المسار الديموقراطي واكتساب ثقافة احترام الآخر والاعتراف بتنوع الذوات الأخرى. يتم تصريف المنهاج التربوي في الفضاء المدرسي من خلال نوعين من البرامج التربوية المدرسية: برامج دراسية للمواد تتكامل فيما بينها في إطار مناهج دراسية للمستويات الدراسية والأسلاك. وهي برامج ذات بعد وطني من خصائصها العمومية والإلزامية والتوحيد من المفروض أن تستهدف جميع بنات وأبناء هذا الوطن؛ برامج العمل التربوي التي تعدّها المدرسة من خلال مجالسها وعلى رأسها مجلس التدبير والمجلس التربوي عبر مختلف الآليات والوحدات التنظيمية المدرسية. وهي برامج حاملة للخصوصيات المحلية، من خصائصها التنوع في الطبيعة والشكل والتعاقد في الإعداد والإنجاز. أما المادة اللاحمة لجسور التواصل والاندماج بين هذه البرامج فهي الكفايات والمهارات المستعرضة والمجالات القيمية التي يستند إليها المنهاج التربوي. فالكفاية التواصلية مثلا أو المنهاجية او الثقافية أو الاستراتيجية أو حتى كفاية التحليل أو التركيب لا يتم تنميتها في مستوى دراسي واحد أو في سلك دراسي واحد أوفي مادة دراسية واحدة أو داخل فضاء الفصل الدراسي فحسب، وإنما يتم تنميتها وتطويرها أفقيا وعموديا عبر جميع المستويات الدراسية ومن خلال جميع المواد الدراسية. ومن خلال جميع الأنشطة المدرسية سواء كانت داخل فضاء الفصل الدراسي مع جماعة التعلم المنتمية إلى مستوى دراسي واحد أو كانت خارج هذا الفضاء، ومن خلال فضاءات مدرسية أخرى مع نفس جماعة التعلم أو مع جماعة تعلم أخرى متنوعة المستويات الدراسية لكنها منسجمة من حيث الحاجات أو الميولات كما في باقي الوحدات الوظيفية بالوسط المدرسي وعلى رأسها النوادي المدرسية. ونفس الشيء مع مهارة الإبداع أو التفكير النقدي أو احترام التنوع التي لا يمكن تنميتها وتطويرها إلا عبر جميع المستويات الدراسية ومن خلال جميع المواد الدراسية، ولا يكون الاختلاف إلا في مستوى ودرجة النمو التي تختلف من مستوى دراسي إلى آخر وفي مستوى الكثافة والحضور من مادة إلى أخرى. وفي طبيعة النشاط المدرسي . وكذلك الأمر مع المجالات القيمية حيث أن تنشئة المتعلمات والمتعلمين على الخلق القويم والتشبع بقيم العقيدة الإسلامية السمحاء وقيم المواطنة المغربية والتشبع بالهوية الحضارية المغربية والتشبع بقيم حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا، لا يمكن بناؤها إلا أفقيا وعموديا وعبر مختلف الأنشطة المدرسية. فإذا كان الفصل الدراسي مجالا لتعرف القيم وفهمها واستيعابها فإن الأنشطة المندمجة هي الفضاء الذي تشتغل فيه هذه القيم من أجل تملّكها واستبطانها. من المنهاج التربوي إلى المشروع التربوي المندمج: بطبيعة الحال، لا توجد مدرسة بدون مشروعها التربوي. وإنما لكل مدرسة مشروعها الخاص. لكن، هناك مدرسة تتوفر على برامج دراسية موثقة وبرامج للعمل التربوي ضمنية أو في شكل أنشطة متفرقة مرتجلة لا خيط ناظم ينسجها فيما بينها، وهناك مدارس تتوفر على مشروع تربوي مفكر فيه ومصرح به. كما توجد مدرسة لها مشروع واحد مندمج تتكامل فيه الأنشطة وتتنوع، وهناك مدرسة لها مشروعان "متوازيين"، يسيران بإيقاعين مختلفين، مشروع للأنشطة الفصلية يستند إلى المنهاج الدراسي لمستوى دراسي معين ويتم تصريفه من طرف مدرس(ة) هذا المستوى مع جماعة فصل دراسي محددة. ومشروع آخر يطلق عليه برنامج أنشطة " الحياة المدرسية" ، أي الأنشطة التربوية التي يتم وضعها وتنفيذها من طرف مجالس المؤسسة والوحدات الوظيفية بالوسط المدرسي، بشكل مستقل أو بمعية شركاء المدرسة. تقوم المقاربة بالكفايات في التدريس على خلق نوع من التضافر الأفقي والعمودي بين المواد والمستويات الدراسية من جهة، والاندماج والتكامل بين البرنامجين من جهة ثانية، من خلال ما يمكن أن نسميه بالمشروع التربوي المندمج للمؤسسة. لذا فإن المدرسة التي لم تستطع بناء مشروعها على مستوى متقدم من التضافر الأفقي والعمودي ومن الدمج بين هذه البرامج هي، في الواقع، مدرسة لم تستطع بعد إرساء مقاربة التدريس بالكفايات. مدرسة لا تعي ممارستها الوظيفية. مدرسة ليس لها مشروعها التربوي المندمج. وأنها مدرسة، حتى لو كانت حديثة في الشكل والقالب، فهي تقليدية في العمق والقلب. ومن ثمة، فهي لا تؤدي دورها في مساعدة المتعلمات والمتعلمين على اكتساب الكفايات والخبرات والمهارات المؤهلة للنجاح المدرسي والمجتمعي. إن المدرسة التي تعتمد الكفايات كمقاربة تدريسية هي التي تستطيع أن تجعل المدرس مزدوج الوظيفة، يختار وضعياته بإتقان ليستثمرها في تفعيل مفردات البرنامج الدراسي وبرنامج العمل التربوي للمؤسسة معا. فيصبح فاعلا حقيقيا من أجل تفعيل المشروع التربوي المندمج للمؤسسة. مثلا قد يختار هذا المدرس وضعية بنائية لتقديم مفهوم الكهرباء ويستثمر نفس الوضعية لتعبئة المتعلمين لمراقبة العداد الكهربائي في المدرسة في إطار لجنة قيادة المدرسة الإيكولوجية. كما قد يختار مسابقة تحدي القراءة العربي لاستثمار الكتب التي قرأها المتعلمات والمتعلمون المنخرطون في هذا المشروع لتنمية الرصيد اللغوي وتطوير القدرة على الإنتاج الجيد في مكون التعبير الكتابي والإنشاء. بمعنى أدق لا تصبح هذه المدرسة معتمدة للمقاربة بالكفايات في التدريس إلا عندما تستطيع جعل المدرسات والمدرسين يساهمون في تفعيل المشروع التربوي المندمج للمؤسسة من خلال مختلف الوحدات الوظيفية داخل فضاء المدرسة ومنها فضاء الفصل الدراسي، وفضاء النوادي المدرسية وغيرها. يستند، منهجيا، تصريف المشروع التربوي المندمج للمؤسسة على نوعين من التخطيط: تخطيط عمودي للبرامج الدراسية الذي تعتبر المادة الدراسية أساسه، وهو ما يعرف في المدرسة المغربية بالتخطيط السنوي للتعلمات، ويتم تنفيذه من خلال الأنشطة الفصلية التي يتم إنجازها من طرف أساتذة بعينهم مع جماعة الفصل الدراسي لكل مستوى من المستويات الدراسية؛ تخطيط أفقي لبرنامج العمل التربوي للمؤسسة الذي يعتبر المجال/ المحور أساسه، ويتضمن برنامج الأنشطة المندمجة، والتي يتم إنجازها من طرف النوادي المدرسية وباقي الوحدات الوظيفية المماثلة كاللجان الوظيفية والخلايا، ينسق أشغالها فاعلون ومنشطون تربويون وإداريون وشركاء، وينخرط فيها المتعلمات والمتعلمون حسب رغباتهم واهتماماتهم دون اعتبار لمستواهم الدراسي. يتولى قيادة تصريف التخطيط العمودي هيئة التدريس بالمؤسسة، كل حسب المستوى/المستويات الدراسية المسندة إليه، وتشكل المجالس التعليمية ومجالس الأقسام الإطار التنظيمي الذي من خلاله يتم تكييف هذه البرامج مع الخصوصيات المحلية وخصوصيات الفئات المستهدفة، ووضع الخطط المشتركة لتجاوز العقبات التي قد تعيق تصريفها وتحول دون تحقيق الأهداف المنتظرة. أما التخطيط الأفقي فيتولى قيادة تصريفه المسؤولون عن الأنشطة المندمجة وعلى رأسهم منسقو النوادي المدرسية وممثلو التلاميذ، والتي من خلالها تتحول المعارف إلى خبرات ومهارات وتتحول المدرسة إلى فضاء للحياة. من المدرسة إلى مجتمع التعلم: في ضوء هذه الرؤية، عندما يتم إعداد المشروع التربوي المندمج للمدرسة وفق رؤية، ومن خلال وثيقة تتضمن التشخيص الشامل للمؤسسة وتقويما دقيقا للمستلزمات الدراسية وتحديدا دقيقا للحاجيات وتقديرا واقعيا للإمكانيات وتمييزا فاصلا بين مصادر قوة المؤسسة ومكامن الخلل والتعثر فيها وترتيبا محكما للأولويات وخطة للعمل واقعية وقابلة للإنجاز، ثم يتم التصريح بهذا المشروع، حينئذ يصبح هذا المشروع مشروعا للمؤسسة والإطار المنهجي لتدبير الشأن التربوي داخل المدرسة، وتتحول هذه الأخيرة من مدرسة في معناها التقليدي إلى مدرسة حديثة بمثابة مجتمع للتعلم يتدرج فيها مشروع المؤسسة من المشروع التربوي للمؤسسة إلى مشروع جماعة التعلم إلى المشروع الشخصي للمتعلم(ة). أما الآليات التنظيمية التي من خلالها يشتغل مجتمع التعلم فهي إلى جانب الفصل الدراسي باعتباره الوحدة النواة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك أعلاه، هناك المجالس والنوادي والخلايا والفرق التربوية وغيرها. فإذا كانت مجالس الأقسام والمجالس التعليمية هي الوحدات الوظيفية بمثابة الإطار التنظيمي للتكييف وملاءمة البرامج الدراسية مع الخصوصيات المحلية فإن المجلس التربوي هو الوحدة الوظيفية بمثابة إطار تنظيمي لتجسير مكونات المشروع التربوي المندمج للمؤسسة وعلى رأسها البرامج الدراسية وبرامج العمل التربوي. أما مجلس التدبير فهو الوحدة الوظيفية بمثابة إطار تنظيمي قيادي لتدبير شؤون المدرسة. وتقتضي جودة مردودية هذا المجلس، بالإضافة إلى مهامه المنصوص عليها قانونا، اعتماده الخماسيتين التاليتين: خماسية الآليات وهي: آلية الريادة عبر المقاربة التشاركية والمقاربة التعاقدية وآلية الميزانية القائمة على تنوع مصادر الدخل وترشيد النفقات وآلية مواكبة الإنجاز القائمة على شبكة مؤشرات التحقق وآلية الافتحاص الدوري وآلية التقييم المنتظم؛ خماسية المؤشرات وهي: مؤشر نسبة النجاح بالمؤسسة ومؤشر معدلات النجاح ومؤشر نسبة الاحتفاظ ومؤشر نسبة التدفق للمسالك العلمية والمهنية ومؤشر نسبة انخراط الفاعلين واستقطاب الشركاء. أما النوادي المدرسية فهي الوحدات الوظيفية التي يقودها المنخرطات والمنخرطون فيها ، وهي الوحدات الوظيفية التي من خلالها يعيش المتعلمات والمتعلمون حياتهم المدرسية اليومية، بل هي المشتل الذي من خلاله يتملك المتعلمات والمتعلمون ويستبطنون القيم والمهارات الحياتية ويقومون سلوكاتهم وينفتحون على محيطهم ويقوون انتماءهم لمؤسستهم ولوطنهم. يعمل مجتمع التعلم من أجل بناء ودعم التعلمات لتنمية وتطوير كفايات المتعلمات والمتعلمين، وترسيخ المهارات الحياتية في إطار التربية على المواطنة والسلوك المدني، وتأهيل المتعلمات والمتعلمين من أجل بناء مشروعهم الشخصي في إطار التربية على الاختيار. وذلك من خلال رافعات نجملها فيما يلي: الرافعة المدنية التي من خلالها يوفر مجتمع التعلم مناسبات لاكتساب القيم والمهارات الحياتية وتشغيلها وممارستها كما يتملك ويستبطن المتعلمات والمتعلمون السلوكات المدنية والمعايير الاجتماعية المقبولة ويواجهون السلوكات اللامدنية؛ الرافعة اللغوية التي من خلالها يوفر مجتمع التعلم مناسبات لاكتساب الكفايات اللغوية والتواصلية عبر سيرورة متدرجة لنمو هذه الكفايات قصد التحكم في اللغات الأساسية الوطنية والانفتاح على اللغات الأجنبية، كما يوفر مناسبات لاشتغال هذه الكفايات وممارستها؛ الرافعة العلمية التي من خلالها يوفر مجتمع التعلم مناسبات لاكتساب المفاهيم العلمية المتنوعة عبر سيرورة متدرجة لنمو الكفايات المعرفية والمهارات في قطب العلوم والرياضيات كما يوفر مناسبات لتشغيلها في وضعيات مباشرة، حيث يبدأ المتعلم في تلمس الفضاء عبر أنشطة تنظيمه وتركيب الأعداد لينتهي إلى تفكيك المعادلات الرياضية المجردة والتركيبات الكيميائية الدقيقة وتفسير المعطيات وتحليلها وما إلى ذلك من المفاهيم العلمية؛ الرافعة المهنية التي من خلالها يوفر مجتمع التعلم مناسبات لاكتشاف المهن واكتساب أساسياتها، كما يوفر مناسبات لتشغيل المعارف والمهارات المكتسبة ذات الصلة من خلال وضعيات مباشرة عبر سيرورة تبدأ في السلك الابتدائي بالاكتشاف وتصبح في السلك الإعدادي بالاختيار المسار المهني لتنتهي في السلك الثانوي التأهيلي بالتخصص من خلال البكالوريا المهنية التي تجعل المتعلم حاملا لاختيارين دراسيين، أحدهما عام والآخر خاص، فتزداد احتمالات نجاحه وتفوقه حسب إمكانياته وقدراته؛ الرافعة الجمالية التي من خلالها يوفر مجتمع التعلم مناسبات لتنمية الذوق ولاكتساب قيم الجمال في الفن وفي الثقافة وفي البيئة وفي العيش المشترك. كما يوفر مناسبات لاشتغال هذه القيم بفتح المجال أمام المتعلمات والمتعلمين للإبداع الفني والارتقاء بثقافة الجمال في حياتهم العامة والخاصة؛ رافعة الحكامة التي من خلالها يوفر مجتمع التعلم مناسبات أمام المتعلمات والمتعلمين لاكتشاف واكتساب الديموقراطية كثقافة وسلوك وآليات الحوار وكيفية اتخاذ القرارات وتدبير النقاش والعمل ضمن فريق والتعاقد حول قواعد العيش المشترك وغيرها، وكذا مناسبات لاشتغال الخبرات المكتسبة في هذا المجال، في سياق مدرسي منفتح على محيط المدرسة. إن المدرسة باعتبارها مجتمعا للتعلم، هي فضاء لا فضل فيه لأحد الفاعلين على الآخر وإنما هو فضاء للتفاعل والاستفادة المشتركة. فليس المتعلمات والمتعلمون هم الذين يستفيدون من الأنشطة المدرسية، فحسب، ولكن، أيضا، المدرسات والمدرسين والإداريات والإداريين يستفيدون عندما يطورون خبراتهم المهنية والحياتية، ويعيشون حياتهم في فضاء مختلف، غني ومثمر وإيجابي. فالوقت الذي يقضونه في المدرسة ليس وقتا ضائعا وليس وقتا لأداء الوظيفة فحسب، ولكنه وقت للحياة والعيش المشترك. أعرف كثيرا من الأطر عانوا الكثير عندما كانوا يعملون في مؤسسات. وعندما انتقلوا إلى مؤسسات أخرى أصبحوا أكثر إيجابية وفعالية وانخراط، لأن مجتمع التعلم الذي انتقلوا إليه مختلف تماما عن الآخر. شجعهم على تفجير طاقاتهم وأتاح لهم الفرص للمساهمة في تطوير خبراتهم وممارسة اهتماماتهم فصاروا بذلك أكثر استفادة وأكثر سعادة مهنيا واجتماعيا. وفي المقابل هناك من انتقل من مؤسسة إلى أخرى ففقد بريقه وكتم طاقته وانطوى وأصبح أقل مردودية وأقل سعادة وأكثر مللا. من المنهاج التربوي إلى الحياة المدرسية: لم تفكر منظومتنا التربوية في مفهوم الحياة المدرسية إلا في ضوء الانتقال من براديكم التعليم الذي كان سائدا في حجرة دراسية بمنصة يقف فوقها الأستاذ إلى براديكم التعلم الذي أصبحت الحجرة الدراسية بدون منصة. ومن الحصة الدراسية والأنشطة الموازية إلى الأنشطة المدرسية التي تتضمن أنشطة فصلية وأنشطة مندمجة، ومن المدرسة كمؤسسة لإعداد الناشئة للحياة إلى مؤسسة هي بمثابة مجتمع للتعلم والحياة. وهذا البراديكم كان قد أرسى معالمه الميثاق الوطني للتربية والتكوين. كثير منا من يجعل الحياة المدرسية مرادفا للأنشطة التي تقوم بها المدرسة خارج الفصول الدراسية. أو هي الأنشطة المندمجة وحياة مجالس المؤسسة والأنظمة الداخلية للمؤسسات. بل إن وزارتنا، هي أيضا، مازالت تعتمد مديريتين مستقلتين، هما مديرية المناهج ومديرية الحياة المدرسية، ولكل منهما رؤية وبرامج وآليات، وكأن المناهج والحياة المدرسية أمران مختلفان. ومن أثر هذا التفريق أن ما يسمونها بأنشطة الحياة المدرسية لا غلاف زمني لها في الفضاءات الزمانية المدرسية. وأن الزمن المدرسي مخصص لأنشطة المناهج الدراسية. وأن أنشطة الحياة المدرسية تطوعية وأنشطة تصريف المناهج الدراسية إلزامية. وأن الامتحانات الإشهادية مرتبطة بأنشطة المناهج الدراسية ومفرداتها بينما أنشطة الحياة المدرسية هي مجرد أنشطة موازية، لا فرق بين من أقامها ومن لم يقمها. الحياة المدرسية هي وعاء تنزيل المنهاج التربوي بل هي الفضاء الذي يعطي للمنهاج التربوي وجوده الواقعي. هي الفضاء العام المحدود في المكان والزمان الذي يحدث فيه التعلم، وتنمو في داخله وتتطور الكفايات والمهارات وترسخ القيم الإيجابية ويتربى التلميذ على الاختيار وتشتغل الحكامة التربوية. الحياة المدرسية هي كل ما يعيشه المتعلمون في المكان والزمان المدرسي، هي مجموع التفاعلات الإنسانية الحاصلة في هذا الزمان وهذا المكان، هي مشروع الحياة النموذجية التي نواجه بها المجتمع من أجل خلق فرص التغيير والتطور. إنها الفضاء الذي فيه يتم تصريف المشروع التربوي للمدرسة. الحياة المدرسية إذن هي المجال الذي فيه يشتغل مجتمع التعلم، ولا يكون هذا المجتمع قويا إلا بقوة الفاعلين في وحداته الوظيفية، فمجلس تدبير المؤسسة لا يكون مجلسا قويا فاعلا وفعالا إلا بانخراط كل أعضائه، ومن بينهم ممثل المجلس الجماعي ورئيس جمعية الآباء وأولياء التلاميذ، إلى جانب مدير المؤسسة وممثلي هيئة التدريس والإدارة التربوية. والنوادي المدرسية لا تكون قوية وفاعلة إلا بانخراط فاعلين من المجتمع مدنيين وثقافيين واقتصاديين وفنانين ومهنيين وغيرهم يدعمون أنشطة هذه النوادي، ويعطونها معنى حقيقيا. فاستدعاء طبيبة من طرف نادي التربية الصحية بالمدرسة، مثلا، لتنشيط ورشة مكافحة التدخين والأمراض المنقولة جنسيا يجعل المتعلمات والمتعلمين المنخرطين في هذا النادي يكتسبون خبرات حقيقية، ويستفيدون أكثر. ودعوة شرطي المرور لتنشيط ورشة حول السلامة الطرقية والتربية الطرقية السليمة تدعم خبرات المتعلمات والمتعلمين بشكل أفضل. ودعوة شاعر من طرف نادي القراءة والإبداع الأدبي في اليوم العالمي للشعر، مثلا، للقراءة وتقديم تجربته الشعرية هو أمر غاية في الأهمية بالنسبة للمتعلمات والمتعلمين المنخرطين في هذا النادي المدرسي. ودعوة فنان تشكيلي من طرف نادي الفنون الجميلة بالمؤسسة من أجل تنشيط ورشة في الفن التشكيلي بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، هو أمر جدير بالاهتمام. إلخ. وأخيرا، الحياة المدرسية هي الفضاء المكاني والزماني الذي تلتقي فيه إرادة الدولة بإرادة المجتمع من أجل إرساء مدرسة المواطنة وتكافؤ الفرص والإنصاف والجودة والارتقاء بالفرد والمجتمع. خاتمة: إن إرساء نموذج بيداغوجي جديد، نموذج مدرسة المواطنة والإنصاف والارتقاء بالفرد والمجتمع، كما بشر به المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي في رؤيته الموسومة " برؤية استراتيجية" يقوم على الانتقال من براديغم التعليم إلى براديغم التعلم يجعل الإشكاليات الراهنة للمدرسة المغربية أعمق من إشكالية تشخيص وبناء رؤية للإصلاح. إنها إشكالية مفاهيم وخلفياتها ومرجعياتها النظرية باعتبارها أدوات أساسية للفهم والتفسير وتوسيع الرؤية، وإشكالية "النقل الديداكتيكي" لهذه المفاهيم من مستواها النظري إلى مستواها الإجرائي. وإشكالية تكوين الفاعلين لضمان التنزيل السليم لهذه المفاهيم، وإشكالية الحكامة في التدبير لضمان فعالية مجتمع التعلم وإرساء المشروع التربوي المندمج للمؤسسات التعليمية، وإشكالية التدبير اللامتمركز لقضايا التربية والتكوين وغيرها من الإشكاليات. أزيد من عشرين سنة ونحن نتحدث عن مشروع المؤسسة ونتداول فيه ونصدر وثائق تنظيمية في شأنه ولم نستطع إرساءه بعد، وأكثر من خمس عشرة سنة ونحن نتحدث عن مجالس المؤسسة والحياة المدرسية والمناهج التربوي والمقاربة بالكفايات ولم نستطع بعد بيان سبل تفعيلها وتقوية أدائها والاستناد إلى إطارات منهجية لتصريفها. وأكثر من عشرين سنة ونحن نتحدث عن إدماج مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية وأزيد من عشر سنوات ونحن نتحدث عن السلوك المدني ومدرسة المواطنة ولم نستطع بعد تخليص المدرسة من السلوكات المشينة واللامدنية، بل هي في تزايد مستمر بفعل سلطة المحيط على المدرسة وهشاشة جهاز مناعة المدرسة تجاه ما يعتمل في هذا المحيط من سلوكات وآفات اجتماعية مدمرة. لذا فإن المدى الزمني لإرساء هذا النموذج البيداغوجي بالمدرسة المغربية هو حتما مدى يتجاوز المدى الزمني لتنزيل الرؤية الاستراتيجية 2015-2030. حتى لا ننسى المدى الزمني الذي أقره لنفسه الميثاق الوطني للتربية والتكوين ولم يستطع الالتزام به، والمدى الزمني الذي أقره لنفسه كذلك البرنامج الاستعجالي ولم يستطع هو الآخر تنفيذ التزاماته. لأن المسألة ليست مسألة سنوات وأرقام وخطاطات وبرامج عمل، ولكنها مسألة سياق تاريخي مركب ومسألة درجة نمو التعاقد المجتمعي حول المدرسة ومسألة درجة تملك المفاهيم واستبطانها من طرف مختلف الفاعلين في حقل التربية والتكوين.