عن منشورات «أوبيي» بباريس، صدر في سنة 1988 مؤلف «par dessus l épaule» (من فوق الكتف) للكاتب المغربي الكبير الدكتور عبد الكبير الخطيبي. من هذا العمل المتميز الذي يجمع بين اهتمامات الراحل الفكرية والأدبية ويستند إلى نتائج التحليل النفسي وبعض عناصر التجربة المعيشة، انتقينا فصلا جديرا بالانتباه والاهتمام لترجمته ، يقدم فيه الخطيبي تفاصيل حديث شفوي لوالدته قبل وفاتها، حديث/شهادة تم تسجيله من طرف الكاتب أيام 18 ـ 19 مارس 1980 و 16 اكتوبر 1982. لننصت إلى «لالة» كما كان يناديها عبد الكبير، علما أن الكلمات الموضوعة بين قوسين إضافة من الكاتب يرمي من خلالها توضيح شهادة والدته المتوفاة في شهر يناير من سنة 1986. ٭ النص الشهادة: «ذات يوم، غللت أخاك بشريط، لا، هو الذي قام بغلك... في أي سن حدث هذا؟ كان عمره سنتين ونصفا وعمرك سنة واحدة... لقد توفي في السنة الثالثة من عمره. حتى آنذاك كان يتكلم بطلاقة، وسيما كان وجميلتين كانت عيناه الواسعتان... راح والدك لزيارته بعد وفاته في المقبرة. لاح له أخوك الصغير ورأسه فوق القبر. قال لي والدك: «كان ذلك الرأس يحدق في. تثاقلت رقبتي»... تلا الوالد بعض الآيات القرآنية ثم ترك المقبرة. أسر لنفسه «عليَّ ألا أعود لرؤيته»... أجل، والدك هو من اصطفى اسم أخيك الصغير. فعل ذلك بالقرعة، كما كانت تجري العادة بذلك... اسمك الشخصي؟ لقد منحه إياك العيد الكبير. يا إلهي، كم كان الجميع يحبك! و يا إلهي، كم هي مباركة الولادة خلال يوم هذا العيد! كنت أتكفل بإرضاعك و عمتك تتكلف بنظافتك. لم أكن أحملك فوق ظهري... لم تعر أدنى اهتمام لموت أخيك الصغير، ولا لوفاة أبيك: لم تذرف أية دمعة عليهما... لم تكن تحب «المسيد» بسبب «الفلاقة»... نعم، أخوك ولج الجنة، وهذا أفضل... على الإنسان الذي عايش موتين اثنين التحلى بالصبر... قبل ولادتك، حدث لي إجهاض... نفس الشيء وقع لي من بعد، قبل وضع أُفَيِّكَ، بسبب خصام مع عمتك... الأحياء مباركون، أما الموتى (تضحك دون إنهاء جملتها)... إنه المكتوب... أكبر سلالة العائلة سنا كان يعيش في كنف جدك ( الأمومي)... نعم، جدتك هي التي كانت تروي لكم الحكايات والألغاز... كان أخوك الأكبر يلقب أصغركم بـ «الشلح» ... بعد زواج عمتك، تركناك تستقر تحت سقفها. كنا نزورك في كل الأعياد. ذات يوم، قال لي والدك ـ رحمه الله ـ «غدا سأذهب لرؤية ابني»... هيأت له ملابس نظيفة. تظاهرت بالنوم والحلم. كنت أصيح: «عبد الكبير! عبد الكبير!». وفي الصباح، أخبرني أنني سأرافقه في زيارته لك... لم أبح بحقيقة الأمر هذا لأبيك إطلاقا، أجل، لقد تظاهرت بالحلم... وفي أحد الأيام، قرر والدك عودتك للبيت. قال لي: « ظل زوج عمته أميّا بنفسه، وعلي تسجيل ابني في المدرسة»... سجلك في المدرسة، هل تتذكر؟... أختك (تلك التي وافتها المنية) كانت متمدرسة... كانت مصابة بمرض غريب، تسقط أرضا وتفقد وعيها... ومن جهة أخرى، فقد فقد أخوك الأصغر وعيه بعد وفاة والدك... كان مسكونا بالجن... لكنه لم يعد يفقد وعيه الآن... كان أبوك يعنف إخوانك حين يذهبون إلى السينما... إنه عمل بليد إذ لا سوء في الذهاب إلى السينما! ... أخوك الصغير كان يفقد وعيه... أخذناه لزيارة الولي الصالح... صورته ماثلة بين عيني الآن، كان جالسا تحت القبة ثم تهاوى أرضا فظننته مات. أحضر «الطُّلبة» النار والبخور الذي ألهبوه وهم يتصارعون بعصي كانوا يحركونها حول رأس أخيك... فجأة قال: « إنها راحت... راحت!». قال إن شيئا ما غادره مثل ثعبان... قلت لهم: «لقد شفي الآن، يجب إحضار ذبيحة». أحضروا الكسكس والشاي... أوصدوا أخاك داخل القبة طوال الليل... ومكثت متكئة بكل قواي على باب الولي لمنع أخيك من الخروج... تحدثت، بمناسبة استجوابك في الإذاعة، عن الحب وأنت تضحك، تقهقه. إثر هذا عقبت: «إنه لا يحب لا الزواج ولا الأطفال، لكنه يحب الكتب. هو يكتب هنا ويسافر إلى هناك «.... والله إنني على حق! تزوج مسلمة يا بني!... لقد تزوجت وأنا جد صغيرة، لم أكن قد صمت رمضان، قبل الزواج، غير مرة، مرة واحدة... لم يكن ثمة انبساط إطلاقا بين والدك وأبي... كان والدك يعتني به جيدا... كان عالما حين تزوجني... سُمِّمَت أمي من طرف إحدى الجارات. لماذا؟ إنه الحسد... وضعت السم في الكسكس... كانت والدتي تصيح، تحترق وهي تقول لأبي : «سممني الجيران. ارفع ضدهم دعوى قضائية!» جارتنا المُسمِمة تلك كانت عاقرا. لكن زوجها عقد قرانه على امرأة أخرى أنجبت له أطفالا... أجل، احتفل الحجاج بميلادك، يا إلهي! كنت أرغب في وضع بنت تساعدني وتضع لي الحناء... أتتذكر! بعد وفاة إحدى أخواتي، أخذناك معنا لتحضر مراسيم دفنها. أعطوك ماء لتشربه، رميته قائلا: «لا أريده، إنه متسخ». ضحك الجميع. ماتت الخادمة... كانت تدخن الكيف، تشرب الخمر... سرقت منا الخادمة الأخرى فتاة يتيمة وصغيرة السن كانت تشتغل لدينا... وعدتها بتزويجها ابنها... يا إلهي، كم كانت تكذب! لم يكن لها ابن... كان لجدتك (أم أبيك) أربع أو خمس بنات... وابن. كانت ترغب في وضع ابن آخر. زارت الولي. توجهت إليه قائلة: «هبني ابنا ذا قدرة على التعلم، ابني الحالي أمي». توجه الابن للولي وقال: «إذا أنجبت أمي فتاة هذه المرة كذلك، فسأضعها في قفة وأحضرها لك». قضت الليلة داخل القبة... حين ازداد والدك، ذبحوا قربانا للولي... كان والدك عالما... أوصاه والده عند احتضاره: «لا تمتهن التجارة... اذهب إلى القرويين للدراسة، في مسقط رأسي (فاس)... طبق وصيتي». تناسى أبوك هذا الكلام وتعاطى للتجارة. لكنه بكى ذات يوم. قالت له أخته: «ألم يوصيك والدك بالدراسة؟». قرر والدك السفر، قرر اغتراف العلم. بعد سفرته هذه وإنهاء دراسته، تم ذبح ثور كقربان ... ثم نظمت «حرْكَة» على شرفه... قدمت له القبائل الهدايا. خاطت له أخته جلبابا وقميصا... اقترح عليه منصب قاض. رد: «القضاء يشبه أكل الجبس، تجهد نفسك لإزالة حبيباته، لكنك تبلع دائما بعضها». يعني هذا الارتشاء... وهكذا،اشتغل بالتجارة... كان أبي ينعت بـ «بوخريص». أمه كانت تفقد دائما أبناءها الذكور. نصحوها بأن تضع في أذنه شنقا صغيرا (خريصة). وضعوه له. اسمه الحقيقي كان هو الحاج محمد... عائلة أمي وفدت من اليمن... إنهم شرفاء... من سلالة الولي السباعي... بركتهم جلية... الوزارة عثرت على نسبهم في الأرشيف. رممت قبة الولي الآن. حكى الصانع الذي قام بأشغال الفسيفساء قائلا: «قامت شبه عاصفة فوق قبره». كان الزوار قد علقوا أوشحة خضراء حول القبر: إثنا عشر وشاحا ... يا لها من عاصفة يا إلهي! رأى الصباغ الولي بلباس أبيض وهو يصلي. ميت يصلي، يا إلهي! كاد صباغ أن يسقط من على السلم. نزل ببطء شديد ، لكنه اختنق وهوى أرضا. أصيب بالبكم مدة شهرين، على ما أظن، بسبب هذا الانشداه. بعد عودة الناس إلى القبة، وجدوا السلم، لكن الولي كان قد عاد إلى قبره... أنا؟ لم أبصر يوما تجلي ولي... لا أريد الكذب... أنتم تنتمون، يا أبنائي، لشجرة، شجرة نسب... إنكم متعلمون... علينا اقتناء وشاح للولي، هذا ما قلته لأختي... قال زوجي الثاني: «ياربي، أرشدني إلى أرض الماء والشجر». كان يعبد الله ليلا ونهارا. كان من الشرفاء... ذات مرة، حاءني حلم في المنام، رأيتني أؤدي مناسك الحج في مكة. كنت نائمة. رأيت مكة ناصعة البياض، امرأة مكسوة بالأبيض وهي، على ما أظن، مدثرة ومزينة بالحناء، رأيت شجرة قرب تلك الحجرة. رأيت رجلا واضعا عمامة. وحين ذهبت فعلا إلى الحج، رأيت بأم عيني الرجل نفسه، فصحت: «إنه الرجل الذي رأيته في حلمي». رأيت المرأة ذات اللباس الأبيض، كلمتني ثم اختفت. قيل لي بعد ذلك: إنها فاطمة الزهراء (بنت النبي). احتجب الطفل الذي رأيته عن الأنظار هو الآخر... قادني الرجل الذي أديت له نقودا إلى قبر النبي. قال لي : «أنظري!». لحظتها، رأيت مائدة تملؤها الحناء، وأخرى البلح، وثالثة الزهور. حملقت بانشداه في تلك العجائب. استيقظت وناديت ابنتي: «تعالي! تعالي! سأموت، فقد قيل لي بأن من يحلم بنفسه وهو يحج، يتوفى بعد ذلك مباشرة». أجابتني: «أصمتي، ستذهبين فعلا إلى مكة... إنك مباركة مرتين، في الحلم وفي الحياة»... في مكة، رأيت قبر النبي. إنه مكسو بثوب أخضر. النور كان يشع في كل مكان حول القبر. إنه مثل البرق، أتفهم!... هناك، النهر ينساب من الجنة. إنه أخضر. كدت أسقط. صدمني حاج سنغالي بقوة. داستني الأقدام. ساعدني أحد الحجاج على الوقوف. يا لجهل الرجال! تعرضت عدة نساء للوطء بالأرجل ففقدن الحياة، قال لهم حاج: «تقتلونهن وتزعمون أنكم ستلجون الجنة»... سقطت أرضا حين كنا نتوجه لرجم الشيطان بالحجارة، نرجمه بسبعة أحجار صغيرة، هو وسلالته. لمحت أحد الحجاج يمسك نعليه، كان يلعن إبليس ملوحا بهما... يُروى أن النبي والخليفة أبو بكر قد طوردا من طرف الشيطان خلال الرجم. رمى الرسول الحجر الأول، ثم الثاني، ليختفى إبليس بعد الحجر السابع... لا، لم أر الشيطان أبدا، حمدا لله، لم أر سوى الصلاة. حين يحل موعد الصلاة، ألمح تارة رجلا وتارة أخرى امرأة... كان أبوك يقول: «يحضر إبليس خلال الليل كي يلهي المؤمن فينسى توقيت الصلاة»... عائشة قنديشة؟ يحكي أنها خرجت من البحر. قال لي والدك إنها حيوان بحري، كلما رأت مركبا إلا وابتلعته بأكمله... يوم تقوم القيامة سيجف البحر برمته. سيقول البحر: «أين حيتاني، بواخري وأمواجي!». ستمتزج اليابسة بالبحر... بكل شيء... يقال إن أعيننا ستصبح فوق رؤوسنا. سيضعنا الله فوق خصلة شعر. سنمشي على تلك الشعرة ولن يسقط المؤمنون من فوقها... الصلاة، لن يرحم الدين تاركها، سيقضي نحبه عطشانا حتى ولو شرب كل ماء الأرض. سيتعرض للتعذيب في القبر... وأنت طفل، أصيبت عيناك بمرض ذات مرة. صرت تفركهما. أخذناك لزيارة الولي. اشترينا بيضا وسكبناه على عينيك. حلمت برجل يحمل عصا. سألني: «هل تريدين صبارا؟ - نعم». هوى على إحدى هذه الفواكه ودفعها برجله. طلب مني أخذها. أجبته: «لا، إنني أبحث عن اثنتين». زودني بهما. أخذتهما ولففتهما بورق. لحظتها، رأيتني في بيتي والضوء منار في كل مكان... استيقظت. قالت لي أختي: «انهضي لنذهب. لقد شفي ابنك. فاكهتا الصبار هما عينا هذا الطفل». فتحت عينيك، ثم نظرت إلى فوق، إلى فوق، ثم انتقلت للنظر إلى أسفل ببطء... كنت نحيفا حين ولادتك، هيئتك اليوم أفضل... كان اللقلاق يأتي إلى مدينتنا. ماذا! يروى أن اللقالق تقيم الصلاة، وكذلك الحمام؟ حين كنا نصلي خلال الحج (في مكة)، كان الحمام يطوف، مكونا دوائر فوق رؤوسنا. وبعد نهاية الصلاة، كان يصطف، يا إلهي، فوق قبة النبي في صفوف متحاذية... في الأزمنة الغابرة، كان هناك حمام زاجل..»