وأنت تبحر بين صفحات» «الكاتب وظله»، آخر مؤلف نشره عبد الكبير الخطيبي قبل طي صفحة الحياة التي كان يردد باستمرار عشقه لها، الكتاب الصادر عن منشورات «لا ديفيرونس» في شهر أكتوبر السابق لأفول شمس سنة 2008.. وأنت تبحر بين صفحات المؤلف المائة وخمسة وعشرين تحضرك من حيث لا تدري لحظة بهاء تناول خلالها الكاتب الكبير الكلمة ليتحدث شفويا عن «دفتر ذاكرته»، هو الذي ظلت علاقته مع القول الشفوي عسيرة. حدث الأمر زوال ذات يوم من أيام يوليوز بالجديدة، في عام 1990 بمناسبة تكريم عبد الكبير الخطيبي في مسقط رأسه. انساب الكلام متلعثما من بين شفتي الكاتب، وبحث ابن مازاغان، مجهدا نفسه، عن الحروف والألفاظ قصد توظيبها في جمل متناسقة ومتكاملة المعمار، قبل أن يلجأ للصمت وكأنه يعتذر عن انفلات الخيط الرابط بين أفكاره من لسانه. بدا شبيها بممثل مسرحي لم يحفظ «مونولوغه» عن ظهر قلب حين شهد، بعد الشكر، قائلا: «إني طلبت الكلمة لأقدم شهادة عن دفتر الذاكرة. الذاكرة التي تربطني بالجديدة. دفتر. كتاب... الذاكرة. «بإيجاز. الفصل الأول. «الفصل الأول(...): من مواليد يوم الأضحى، في فترة معينة -فترة الاستعمار- وفي بداية الحرب الثانية. من ناحية الاسم الشخصي، هناك رموز. ومن ناحية الأحداث التاريخية، كان لها ثقل أساسي في تطور المغرب. إذن في تأثير هذه الأحداث، تأثير هذه الأحداث على مؤلفاتي مسألة المقدس، المقدسات، مسألة الاستعمار، وما بعد الاستعمار، ومسألة الحرب والعنف في التاريخ. «الفصل الثاني من هذه الذاكرة. «في 1949، تقدمت لمباراة، مباراة منح، ونجحت في هذه المباراة التي تقدم لها ألف طالب. نجحت وذهبت كداخلي في ثانوية سيدي محمد في مراكش. كان عمري إحدى عشر سنة ونصف السنة. وكان هذا السفر وهذه الهجرة من الجديدة إلى مراكش أول تجربة في الحياة، تجربة في الكتابة. في الكتابة، لماذا؟ لأن في الداخلية، ماذا يفعل الطالب؟ بالطبع يدرس، يطالع، يمارس الرياضة البدنية. آنذاك اكتشفت المطالعة، كان عمري إحدى عشر سنة ونصف السنة. للمطالعة، كانت مكتبة مهمة في مدارس ثانوية سيدي محمد وفي المجلس البلدي. مكتبة خزانة المجلس البلدي كانت مهمة. ومن بعد سنة من المطالعة، بدأت تجربة الكتابة آنذاك، بعد سفر بين الجديدةومراكش. «هذا الفصل الأول والثاني. الفصول الأخرى موجودة في الكتب، سواء في كتاب «الذاكرة الموشومة» أو في كتب أخرى.» ومن بين هذه «الكتب الأخرى» التي لم تكن قد نشرت بعد حينها، ثمة «الكاتب وظله»، ولعل ترجمة العنوان الأقرب لمضمون المؤلف هي «الناسخ وظله». من «علامات الانتماء» إلى «إرادة التجسد مجددا» بقدر ما كان عبد الكبير الخطيبي يواجه تحدي العلاقة المستعصية مع تشييد معمار تدخلاته شفويا، وهي صفة يشترك فيها مع بعض كبار الكتاب والباحثين العمالقة ، بقدر ما تتميز أبحاثه ودراساته وتأملاته وأشعاره ورواياته ومحكياته، كل كتاباته باختصار، بقسط استثنائي من البلاغة والتماسك والتجانس والسلاسة، وهي سمات تميز «الكاتب وظله» كذلك، مما يجعل كتبه جميعها تصب، كيفما كان الجنس الذي تنتمي إليه في مجرى واحد متفرد: «الشغف بأسلوب تفكير مطابق لحساسية نشطة تنقل للقاريء ومضات من الحياة، ومعها ما يشهده مسارها من حوادث، وتؤثر في عقله المستبصر». وحول علاقته بالشفوي، يكتب الخطيبي في الصفحتين 29/ 30 من مؤلفه الأخير: «وفق ما أتذكره، فقد تكلمت دائما بصوت خفيض. بل إنني كنت أهمس أحيانا. يخال لي أن المستمع ينتقي الأقوال التي يفهمها. وألاحظ كذلك أن هذه النبرة المحايدة، التي تتغير طبعا حسب المواقف، تنبعث من خوف ما من الآخر. خوف من قساوته. يصاب تفكيري بالتردد. وحين يتم سؤالي عن اللغة التي أفكر بواسطتها، كثيرا ما أقرر الرد بالطريقة التالية: أنطلق من الصورة والصوت لأصل إلى الرمز.» في آخر كتبه قبل الرحيل، وقد وسمه بكل تواضع، رغم عمقه، ب «الكتيب»، يقود الخطيبي قارئه عبر قارات السيرة الذاتية والشهادة والمحكي الثقافي، واهبا إياه كل المعاني الفكرية و الشعورية التي تختزلها «لذة النص» حسب مفهوم رولان بارث، ومزيحا الستار عن سر ترحاله الفكري الدائم بين قارات متنوعة واهتمامات مختلفة: السوسيولوجيا، الإثنولوجيا، السيميولوجيا، الفلسفة، التاريخ، السياسة، التحليل النفسي، فن الخط العربي، التشكيل، التصوير الفوتوغرافي... ترحال الذهاب والإياب ذاك الذي ينظمه الاختلاف وفكر الاختلاف. يكتب صاحب «الذاكرة الموشومة»، الذي قال في حقه جاك دريدا: « أعتبر الخطيبي أحد الكتاب والشعراء والمفكرين المعاصرين العمالقة باللغة الفرنسية، وأتأسف لكونه لا يدرَّس بالشكل الذي يستحقه في البلدان الناطقة باللغة الانجليزية»، يكتب في تصدير مؤلفه الأخير: « ليس الأنا كريها، ولا محبوبا. إنه قناع مفرد للغيرية «. الاعتراف الشجاع هذا، النابع من الرفض المؤسس علميا لأية «هوية قاتلة»، بل لكل «الهويات القاتلة»، مفتاح جوهري للسفر الممتع رفقة إيقاعات سيمفونية «الكاتب وظله»، السير-ذاتية والتاريخية والفكرية، الموزعة على 11 مقطعا/ فصلا، لا شيء يمنع من «التهامها» دون احترام الترتيب الذي انتقاه لها الكاتب: - علامات انتماء؛ - الطريق نحو الذات؛ - رغبة في علم الاجتماع؛ - الطريق نحو الآخر؛ - من الإثنولوجيا إلى السيميولوجيا؛ - على هامش الفلسفة؛ - تحليل نفسي منتظم؛ - تقولون إنها قصة مفقودة؟ - سياسة رسائلية؛ - سلاسة هووية؛ - إرادة التجسد مجددا. «الكاتب وظله» فاكهة وافدة إلى المكتبة المغربية والعالمية من فردوس «كتابة التجربة»، وقد تولد إثر «طلب صديق خير كان قد اقترح علي أن أمنح القراء مساري الذاتي كمثقف»، يكتب الخطيبي، قبل أن يضيف: «استجبت للطلب رغم ترددي الدائم ورغم ما يحف بهذا النوع من السيرة الذاتية من مخاطر». الوطن اختيار شخصي «أعيش وأشتغل في المغرب. هذا البلد ذو القوة الحيوية. أدين له بولادتي، اسمي، هويتي الأولية. كيف يمكنني عدم حبه بعطف! عطف نقدي ومتيقظ. الوطن ليس فقط مكان المجيء إلى العالم، بل هو اختيار شخصي يدعم الإحساس بالانتماء.» هكذا يتحدث الخطيبي في مطلع الفصل الأول من «الكاتب وظله»، منشدا بهاء الحبل السري ومتجاوزا، في ذات الآن، متاهات التقوقع في رحم هوية مقدسة افتراضيا، ومنغلقة على سرتها التي لا يأتيها الباطل أبدا. وبعد التعريج على الخاصيات المميزة لسلالة المغاربة التي يعلن انتماءه لها حتى النخاع، حتى نخاع النخاع (العلاقة مع الزمن في دورته الطبيعية البطيئة، صدمة السرعة التي صارت تجعل الواحد منا «يركض كي يصل متأخرا، وهو يصل متأخرا بسبب الآخر، دائما بسبب الآخر! « ، الاحترام الزائد عن الحد للتراتبية والسلطة، ازدواجية الشخصية، الصورة الهشة عن النفس، نبذ العزلة، اعتناق الكلام المهذب وحسن الضيافة...)، يكشف الخطيبي، على رؤوس الإشهاد وبدون لف ولا دوران بلاغيين، عن كونه «غريبا محترفا»، وهي صفة لا علاقة لها ب «مهنة من المهن»، بل ب «وضع متحرك عبر العالم» حيث يكون باستطاعة الإنسان «عبور الحدود: العبور من لغة إلى أخرى، ومن حضارة إلى أخرى، ومن سوق إلى آخر». تمظهرات العنف البشري التي تزامنت مع ميلاد عبد الكبير الخطيبي جعلته يؤِمن أن « الإنسان يرغب في التضحية بنفسه والتضحية بالآخر محله، وأنه يسعى إلى السيطرة على أمثاله كيفما كان الثمن» ، مما قاده إلى احتراف البحث في حقل علم الاجتماع وكتابة « الذاكرة الموشومة»، سيرته الذاتية المؤسسة لأدب مغربي ناطق باللغة الفرنسية متخلص من «الكليشيهات» الفولكلورية والعجائبية. «جئت الحياة، يعترف الخطيبي ، مثلما كتبت ذلك في نص آخر، في ملتقى ثلاثة علامات دالة على عنف البشرية: سنة 1938، فجر يوم مقدس في الإسلام، عيد الأضحى، مع بداية الحرب العالمية الثانية وفي رحم مجتمع فيودالي ومتدين ومستعمر من طرف فرنسا وإسبانيا في الآن نفسه» . تكوين الخطيبي المتعدد الأقطاب والمرجعيات جعله «يتيما» بدون «عراب فكري يقود خطوه العلمي» ، لحسن حظه بالطبع، ولكن أساسا لحسن حظنا نحن قراءه الذين نعيد اكتشاف عمقه كلما أعدنا قراءته! هكذا، و»بدل البحث عن معلم أو عدة معلمين سيصبح من الصعب علي (ه) التخلص منهم»، يفضل الراحل جعل»مقاربت(ه) لفكر الآخرين متعددة»، معتمدا في ذلك على «نصوص وصية» تشكل «مكتبة متنقلة في زمن قراءاتي وكتاباتي»، نصوص لا يتعب ولا يمل من إعادة قراءتها باستمرار لكل من: «هيراقليدس ولاو تسو، أفلاطون، المعري وابن خلدون، مارك أرريل ومونتينيه، ليوباردي، ماركس، كييكغارد، نيتشه، فرويد، من دون إغفال باشلار، لوروا-غوران، فاليري، بورخيس، بلانشو، فوكو، بارث، ديريدا (...). وأنا لا أسرد هنا مختلف الكتاب المنتمين للأدب الكوني الذين يهبونني السعادة يوميا». مديح التحاب في كل فصول «الكاتب وظله»، يسائل الخطيبي مساره الشخصي، فكريا ودراسيا ومهنيا، يسرد أسباب نزول هذا البحث أو ذاك الكتاب، يتذكر بعض الوجوه الفكرية اللامعة التي التقاها أو صاحب كتاباتها، يشرح أسباب اهتمامه بمختلف الحقول المعرفية التي أصابه فيروسها، سواء المنتمية منها للثقافة العالمة أو تلك التي ظل الحراس المتحجرون لبوابات معبد هذه الأخيرة يعتبرونها مدنسة لا تليق بمقام العلماء منهم (الوشم، العلاقة بالجسد، طريقة الكتابة...)، متوقفا في صفحات عديدة، لا تخلو من لذة القراءة هي الأخرى رغم طابعها التحليلي الصرف، عند بعض القضايا الراهنة: التناوب، القضية الفلسطينية، المغرب العربي، العمل السياسي... وفي مختلف فصول الكتاب الذي يشكل، للأسف، وصيته، تحضر مقولة «التحاب» التي أعاد الراحل اكتشافها ونحتها بقوة، «التحاب» الذي هو «علاقة تسامح متحققة، قيم للعيش المشترك بين الأجناس والحساسيات والأفكار والديانات والثقافات المختلفة»، «التحاب» المبني على حرية التفكير، تلك الحرية « المتعلقة بابتكار فضاء وعلاقة للحوار مع كل كائن يأتي نحو(نا)»، والتي تجعل الواحد منا « (ي)تغير عبر التواصل مع الغريب الذي يبغي ل(ه) الخير، وذلك بفضل البصيرة ووضوح الفكر»، مثلما كتب في»المثقف والعولمة». ومثل ما هو الأمر في مجمل نصوص الخطيبي النثرية، يتضمن «الكاتب وظله» شذرات ذات نفس شعري ملؤها التسامي والحكمة: «أليس علينا أن نطرح على أنفسنا، في كل مرحلة، أسئلة من قبيل: هل أنا ضروري؟ بالنسبة لمن، لماذا وخاصة كيف؟» أو «السيرة الذاتية تنتزع من الماضي شذرات تائهة». ازدراء يقظ لكل المنظومات الفكرية القاتلة وأنت تبحر بين صفحات «الكاتب وظله»، يحضرك ما كتبه ابن مدينته، الصحفي المتميز الطيب حذيفة، احتفاء بإعادة إصدار دار النشر الفرنسية «لا ديفيرونس» للمؤلفات الأساسية لعبد الكبير الخطيبي ضمن ثلاثة مجلدات، مصنفة إياها وفق أجناسها الأدبية: روايات، محكيات وشعر (2008)، يحضرك مقطع من المقال ينطبق كذلك على «الكاتب وظله» رغم أنه كتب قبل صدور الكتاب: «الأخوة تتلألأ في كل آن في كتابات الخطيبي. لا شيء يغضبه أكثر من التعصب، الظلامية والانغلاق على الهوية. وهي جميعها مواقف تولد الكراهية، تلك الكراهية التي كان الخطيبي عرضة لها باستمرار، أثناء دراسته بالسوربون بينما الجزائر تسعى للتخلص من أغلالها (...) في هذه التجربة المعيشة يكمن، ربما، سبب ازدراء الخطيبي اليقظ لكل المنظومات الفكرية القاتلة، ومنها التقليدانية التي يكتب عنها في «من فوق الكتف» أنها «تتغذى بكراهية الحياة. تفترس نفسها بنفسها وتصب، من قرن إلى آخر، في اتجاه الفظاعة والشيطانية». كتب الخطيبي هذا في سنة 1988 . واليوم، بعد مرور ثلاثين عاما، تفجعنا حمامات الدم وألسنة النيران التي يتسبب فيها دعاة الكراهية كيفما كانت أطيافهم أو انتماءاتهم. وفي هذا دليل على راهنية أعمال عبد الكبير الخطيبي». أجل، وهي راهنية صارت أكثر ضرورة بعد رحيله المفجع. طوال حياته، ظل الخطيبي «غريبا محترفا» عن كل إقامات الكتابة الجاهزة ذات مكيفات الهواء القاتلة للسؤال وما يتولد عن السؤال من علامات استفهام جديدة. و»الكاتب وظله» عربون آخر عن هذا السعي الحثيث نحو المبتكر والمغاير الذي ينبش أغوار ما يمر بعض المتسرعين قربه دون أدنى التفاتة، ذلك أن مداد أقلامهم (الجاف من حرقة السؤال) لا يبتغي في الأرض غير «بطولات بلا مجد»!