ولد الفقيد يوم 11/2/ 1938 في مدينة الجديدة المغربية؛ وكان والده فقيهاً مرموقاً له الفضل في عمق ثقافته العربية الإسلامية ورصانتها. وتلقّى تعليمه في مدارس الجديدة، والصويرة، ومراكش، والرباط، قبل أن يلتحق بجامعة السوربون في باريس وينال شهادة الدكتوراه منها عام 1969، بأطروحته عن الرواية المغاربية التي نشرت في فرنسا بعنوان Le romain maghrébin (1968& 1979) وترجمها الأديب المغربي محمد برادة بعنوان « الرواية المغربية» وصدرت عن منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي بالرباط سنة 1971، وتناول فيها وضع الرواية المغاربية، وبنيتها التحتية الأدبية، ومشكلاتها اللغوية، وتصويرها للحياة اليومية، وأثر الثورة الجزائرية في توجّهاتها. عاد الخطيبي بعد أن أنهى دراسته في السوربون إلى المغرب حيث مارس التعليم في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس في الرباط. وشغل منصب مدير معهد السوسيولوجيا بالرباط ثم مدير المركز الجامعي للبحث العلمي، وكان عضواً في اتحاد كتّاب المغرب، ورئيساً لتحرير « مجلة المغرب الاقتصادية والاجتماعية « التي تحوّلت سنة 1987 إلى مجلة « علامات الحاضر»، ورئيساً لنادي « القلم» الدولي في المغرب. نشر الخطيبي معظم مؤلَّفاته التي تربو على 25 كتاباً باللغة الفرنسية، وتُرجِم أغلبها إلى لغات عالمية عديدة كالعربية، والإنجليزية، والإسبانية، والإيطالية، والألمانية، واليابانية. وحاز جوائز أدبية عالمية رفيعة من فرنسا وإيطاليا. كان الخطيبي منذ طفولته مولعاً بالرمز، مفتوناً بالحرف، متيماً بقراءة العلامات التي تشكِّل الفنَّ في مفهومه الواسع؛ تستهويه الأشكال، وتبهره الخطوط والألوان، حتى إنه قال: « ينبغي أن نتعلَّم كيف نقرأ الزربية (السجادة)». ولما كانت اللغة أرقى الأنظمة الرمزية في الوجود وأكملها، فقد وقع الخطيبي في غرام اللغة، عشق حروفها ومفرداتها وتراكيبها، فمارس، وهو في سن الثانية عشرة من عمره، إنتاجَ الكلمات والأصوات في أروع تشكيلاتها، أعني الشعر، وبعث بقصائده العربية والفرنسية إلى وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة. وولَّد هذا العشق بين الخطيبي واللغة واحداً من أوائل مؤلفاته هو كتابه « فنّ الخطّ العربي» (1976). وعلى الرغم من أنه كتب معظم أعماله بالفرنسية، فإنه كان متيّماً باللغة العربية في الوقت نفسه، وينظر إلى ازدواجيته اللغوية نظرة إيجابية. ومن هنا جاءت روايته Amour Bilingue? « (1983) «عشق اللسانَين» ، وهي رواية عاطفية تلعب اللغة فيها دور البطولة، ولكنها لغة منقسمة إلى جزئين لا تعارض بينهما. عشقُ الخطيبي للكلمات لا قرار له، وغرامه بها لا وصف له. يقول في كتابه « المناضل الطبقي على الطريقة التاوية» الذي صدر بالفرنسية عام 1976 وترجمه إلى العربية الأديب العراقي كاظم جهاد: « التاريخ كلمة الإيديولوجية كلمة اللاشعور كلمة في أفواه الجهلة ترفرف الكلمات...» يُعَدّ الخطيبي في طليعة جيل الستينيات الأدبي. كتب الرواية والمسرحية والشعر والنقد الأدبي والتحليل الاجتماعي، مع العلم أنه لم يعترف يوماً بهذا التجنيس، لأنه عمل على هدم جميع الأسوار المعرفية والمنهجية التي يشيّدها النقاد بين الأنواع الكتابية؛ همُّه الوحيد هو الاستمتاع بلذة إبداع كتابة لامنتمية راقية تأخذ بجماع قلب المتلقّي وعقله، وتهزّ قناعاته ومسلَّماته، وتفجر شعوره ولاوعيه. يقول في مقدّمته لمسرحية Le prophète voilé «(1979) النبي المقنّع « التي ترجمها الأديب المغربي محمد الكغاط إلى العربية ونشرتها سلسلة (من المسرح العالمي ) في الكويت سنة 1993: « أنا أكتب للقراء الحقيقيين من ذوي الذوق الرفيع، أولئك الذين يحبّون الكتابة لذاتها، ويحفظون للُّغة مكاناً دقيقاً جداً، وقوياً جداً في خيالهم.» وتدور هذه المسرحية حول الأنبياء الكذّابين، وتستوحي أمثلتها من التاريخ العربي الإسلامي. بيدَ أن أقدم مسرحية كتبها الخطيبي هي مسرحية La mort des artistes «موت الفنانين» التي أُخرجت على مسرحٍ فرنسي في باريس سنة 1963. كان الخطيبي يبحث دوماً عن الغريب والمنفلت والمتفرِّد الذي لا يمكن تأطيره في جنس محدَّد أو نوع مقيّد. ولهذا فإنه كان يحمل قلمه وعصاه، ويجوب أصقاع الفكر وآفاق ثقافات الآخر، دون أن يتزوَّد بخريطة طريق. إنه مفكّر حرّ مغرم بالترحال والمخاطرة، لا يريد أن يستقرّ في حيز ضيق أو ينتمي إلى زمان معدود الوحدات، ولا يبتغي أن يدخل في نسق من الأنساق أو ينتسب إلى مؤسسة من المؤسسات. لم ينتمِ عبد الكبير الخطيبي إلى أي تيار سياسي، ولكنه كان ملتزماً بقضايا وطنه وأمته، إيماناً منه بأن وظيفة المثقَّف في المجتمع هي الحراك الفكري وتحليل المجتمع لا إدارته. فالالتزام بالنسبة إليه « هو تحويل ما أحسُّ به وما أفكّر فيه إلى شكل أدبي وإلى صيغة كتابية»، أي أنه شاهد على عصره ومدافع عن القيم والمبادئ التي يؤمن بها وتوجّه سلوكه كمثقَّف. كان همّه النفاذ إلى جوهر الإنسان أينما كان ومهما كان مشربه؛ ينظر إلى الثقافات المختلفة بروح من التفتّح والتسامح. يقول في كتابه « المناضل الطبقي على الطريقة التاوية» الذي يُعدّ كتاباً شعرياً: « إنها علاقة التسامح التي تنتج معرفة التعايش معاً، بين الأنواع، والحساسيات، والأفكار، والديانات، والثقافات المختلفة.» وهذا التوجّه الإنساني نلمسه في مجموعته الشعرية الأخرى Dédicace à l?année qui vient (1986) «إهداء إلى السنة القادمة». بيد أن إلغاء الخطيبي للحدود بين الثقافات يقابله حبٌّ شفيف لوطنه المغرب وأمته العربية، وسعي حثيث إلى التعريف بالمغرب وحضارته العريقة وإبداعاته المتميزة، فقد عرّف الغربَ بالأدب المغربي الحديث، حينما نشر كتابه « Ecrivains Marocains ? « الكتّاب المغاربة» الذي تناول فيه أهم الأدباء المغاربة من زمن الحماية الفرنسية إلى سنة 1965 ونماذج من إبداعاتهم. وعندما كان في باريس سنة 1977 شكّل لجنة من الكتّاب المغاربيين من أجل إصدار عدد خاص بالمغرب العربي، في مجلة « الأزمنة الحديثة» التي كان يديرها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، بوصف المغرب العربي وحدة جيوسياسية واقتصادية. كان يؤمن بأن تفتُّح العرب على العالم وتفاعلهم معه يتطلّب أولاً وحدتهم واندماجهم، ويرى أن الثقافة هي الأساس الأمثل لهذه الوحدة وذلك الاندماج، وأن تنمية البلاد العربية تتطلَّب أولاً دراسة الوشائج العلائقية بين المجتمع، والدين، والسياسة. وقد واصل تعريفه بثقافة المغرب في عدد آخر من كتبه مثل «الرواية المغربية» التي مرّ ذكرها، وكتابه «المغرب المتعدِّد» (1983) الذي يضم مجموعة من الدراسات النقدية لأوجه الإبداع الفني المتعددة، وكتابه «التفكير في المغرب» (1993). وعندما صدرت طبعة موسَّعة ثانية من كتابه « المغرب العربي وقضايا الحداثة « سنة 2008، شارك في ترجمة مواده إلى اللغة العربية كوكبة من الأدباء العرب، وكأنهم بذلك يقيمون حفل تكريم ووداع للخطيبي دون أن يعلموا باقتراب أجله. فقد شارك في الترجمة الشاعر المغربي محمد بنيس، والشاعر السوري أدونيس، والروائي التونسي الحبيب السالمي، واللغوي المغربي عز الدين الكتاني، والأديبة اللبنانية أميرة الزين، والناقد المغربي فريد الزاهي. ولعل أهمّ مؤلفات الخطيبي في علم الاجتماع والإنثروبولوجيا كتابه الشهير La blessure du nom prore (1974) الذي ترجمه الشاعر محمد بنيس بعنوان « الاسم العربي الجريح» وصدرت طبعته الأولى عن دار العودة في بيروت سنة 1980، وصدرت له طبعة أخرى عن دار الجمل في ألمانيا سنة 2008. ولا يضارع هذا الكتاب في أهميته إلا « كتاب الدم « (1979 ) في الإبداع. يتناول الخطيبي في « الاسم العربي الجريح» مفهوم العقل العربي للجسم من خلال التراث الشعبي المغربي كما يتجلّى في الأمثال والحِكَم والوشم والخطوط وكتاب « الروض العاطر « للشيخ النفزاوي وغيرها من الموروثات الشعبية. ويعود الخطيبي بالتراث الشعبي المغربي إلى جذوره العربية الإسلامية، ويربطه في الوقت نفسه بقواعد السلوك الإنساني العالمية، ويوجّه نقداً مزدوجاً للمفهوم الديني للجسد من جهة ولمنهجيات البحث في الثقافة الشعبية من جهة أخرى. وأطلق هذا الكتاب حراكاً ثقافياً في هذا الموضوع، فتوالت الكتابات العربية فيه، مثل كتاب أحد مريديه ومترجميه الناقد المغربي الدكتور فريد الزاهي « النصّ والجسد والتأويل»، وكتاب الباحث المغربي هشام العلوي « في قبضة الثقافة: نظرات ورؤى حول الجسد.» وغيرهما، كما أطلقت الشاعرة اللبنانية جمانة حداد مؤخَّراً مجلّة « جسد» المتخصِّصة في قضايا الجسد. أما روايات الخطيبي فتتسم بالعمق والحداثة، وتعبق بالشعرية والفلسفة، وتزدان بالتحليل النفسي والاجتماعي؛ وهي بصورة عامة مستوحاة من حياته الخاصة وممزوجة بالتخييل الذاتي. فروايته الأولى « الذاكرة الموشومة» La memoire tatouée التي صدرت في باريس عام 1971، هي رواية سيرذاتية بامتياز، إذ يسرد فيها رحلة مغربيّ من الجديدة إلى الصويرة، فمراكش، فالرباط، فباريس، فلندن. أما روايته « صيف في استوكهولم»Un été à Stockholm (1990)، التي تعالج العلاقات الإنسانية في إطار الحبّ، فهي ذات صلةٍ بزواجه الأول من سيدة سويدية. كان المرحوم الخطيبي جاري في شاطئ الهرهورة، وهو شاطئ جميل يبعد عن الرباط بحوالي اثني عشر كيلومتراً، تحلّقُ في فضائه النوارس وطيور البحر، وينغِّم أجواءه هديرُ أمواج المحيط الأطلسي وارتطامها بصخور الشاطئ، ويسري فيه هواء صحي عليل، ويسكنه عدد من مثقفي المغرب مثل الدكتور بنسالم حميش، والفنان الراحل محمد القاسمي، والشاعر (بالإنجليزية) الدكتور حسن مكوار، والكاتب حسن أوريد، والدكتور عباس الجراري (سابقاً)، وغيرهم كثيرون. وكنتُ والفقيد نتمشى حوالي ثلاثة أرباع الساعة صباح كل يوم عندما نكون موجودين في شاطئ الهرهورة. وكانت محادثاتنا ومناقشاتنا تنطلق من سؤال أحدنا الآخر عندما نلتقي: ماذا تقرأ؟ ماذا تكتب؟ وستبقى سويعات رفقته ماثلة في فؤادي وعقلي بوصفها متعة ثقافية وإنسانية لا تُنسى. ذات يوم أعطاني صديقي الناقد المترجم إبراهيم أولحيان نسخة من أطروحة جامعية حاز بها صاحبها المغربي عبد الرحيم بلاوي الدكتوراه من جامعة السوربون سنة 1998، وعنوانها « شعرية الكتابة الروائية عند عبد الكبير الخطيبي». وبعد أن قرأتُ أشياء منها، حملتها إلى المرحوم الخطيبي في منزله، ففرح بها فرحه يوم ازدياد ولده البِكر أحمد قبل ما يقرب من ست عشرة عاماً، على الرغم من طبيعته المتحفظة الخجولة. وليست هذه الأطروحة الجامعية الوحيدة التي تدور حول إبداعات الخطيبي، فهناك عشرات الدراسات والأطروحات الجامعية عن أعماله. وقد أفردت جامعة ليون الثانية صفحةً للدكتور الخطيبي في موقعها على الشابكة (الإنترنت) تشتمل على قائمة بالكتب والأطروحات الجامعية التي تناولت أعماله. وبعد انتخابه رئيساً لنادي القلم الدولي، فرع المغرب، قلتُ له ونحن نتمشى ذات صباح: أعرف نقدكَ للصهيونية، فقد اطلعتُ على كتابك Vomito Blanco: LE sionisme et la conscience malheureuse (1974) «القيء الأبيض: الصهونية والضمير الحزين»، ولكني سمعتُ مرةً أن الصهيونية كانت وراء تأسيس عدد من المنظمات والنوادي الدولية، مثل (الماسونية) و (نادي القلم) في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. قال بهدوء الباحث: هل أنتَ متأكِّد بالنسبة إلى نادي القلم؟ لأنني شاركتُ مؤخَّراً في مؤتمر النادي السنوي ولم تُثَر فيه أية قضايا سياسية ! قلتُ: مجرّد سماع. قال: ينبغي البحث في الموضوع. كان الفقيد الخطيبي في غاية دماثة الخلق، ونبل الشيم، وعفّة النفس، وعمق الثقافة، وأصالة الفكر. ويعَدُّ رحيله المبكِّر خسارة فادحة للثقافة العربية والإبداع المغربي الأصيل، فهو من الأدباء العرب القلائل المسموعة أصواتهم في الغرب، المترجَمة أعمالهم إلى العديد من اللغات العالمية. وقد شهد مفكرو الغرب بأنهم مدينون لفكره الخلاق ومنهجيته العلمية الفذة، فقد اعترف بذلك المفكران الفرنسيان الشهيران، الفيلسوف جاك دريدا والناقد رولان بارط، وكتب الأخير مقاله الشهير « ما أدين به للخطيبي»، وقال: « إنني والخطيبي نهتم بنفس الأشياء: بالصورة، والأدلة، والآثار، والحروف، والعلامات. وفي الوقت نفسه يعلِّمني الخطيبي جديداً يخلخل معرفتي، لأنه يغيّر مكان هذه الأشكال كما أراها، فيأخذني بعيداً عن ذاتي، إلى أرضه هو، في حين أحسُّ كأني في الطرف الأقصى من نفسي.» (*) ********** (*) يشكر الكاتب صديقَيه، الناقد إبراهيم أولحيان والباحث البشير النظيفي، لتفضلهما بقراءة مسودة المقال وإبداء بعض الملاحظات عليها.