انتقل إلى رحمة ربه الأستاذ أحمد الأخضر غزال عن عمر ينيف على الواحد والتسعين عاماً، بعد جهاد طويل من أجل إعلاء شأن اللغة العربية، وتنميتها، وتطوير أدواتها، وجعلها قادرة في كتابتها ونحوها ومصطلحاتها على الاستجابة لمتطلبات العلوم والتكنولوجيا لتحقيق أهداف التنمية البشرية في وطننا العربي. اشتهر الأستاذ أحمد الأخضر غزال بعمله الخلاق في مجال إصلاح الطباعة العربية وإدخال الحرف العربي في الإعلاميات والحاسوب. وقد نال براءة اختراع في ذلك، وتبنّت المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة (الألكسو) عمله بوصفه الشفرة العربية الموحَّدة المستعملة في الكتابة الحاسوبية حالياً. ويقوم اختراعه للطباعة العربية المعياريّة على أساس نظري مفاده أن لكل حرف عربي شكلاً واحداً (مثلاً ب)، وليس ثلاثة أشكال طبقاً لموقعه في الكلمة: في البداية (ب)، وفي الوسط ( ب)، وفي النهاية ( ب). وما الزوائد في هذه الأشكال إلا خطوط ربط أو تعريقات ختامية تلحق بحروف أخرى وليس بحرف الباء فقط. ولهذا الأساس النظري القويم تطبيقات عملية في طرائق تدريس اللغة العربية وفي طباعتها. فمن حيث الطرائق، يتعلّم الطفل شكلاً واحداً للحرف بدلاً من ثلاثة، مما ييسّر ويسرّع عملية التعلُّم. ومن ناحية أخرى يؤدّي ذلك إلى تقليص عدد ملامس الحروف في لوحة مفاتيح الحاسوب. وقد لخّص الفقيد نظريته تلك في كتابه « الطباعة العربية المعيارية». ويعود الفضل في ابتكار الأستاذ أحمد الأخضر غزال نظريته اللسانية تلك إلى حماسته الكبيرة لخدمة اللغة العربية، وخبرته التعليمية، ودراساته المتخصصة في علم اللغة الحديث. فبعد أن حصل الفقيد على البكالوريا، جنّدته السلطات الفرنسية عام 1939 إبان الحرب العالمية الثانية وأدى الخدمة العسكرية الإلزامية في الجبهات الإيطالية والإلمانية والفرنسية. ثم عاد لمواصلة دراساته العالية، فحاز شهادة الليسانس، ودبلوم الدراسات العليا، ثم نال شهادة التبريز من جامعة السوربون في باريس في مادة فقه اللغة. وكان قد مارس تعليم اللغة العربية في عدة مدارس في المغرب والجزائر وفرنسا. وبعد استقلال المغرب، أطلق الأستاذ أحمد الأخضر غزال، في أواخر الخمسينيات، مشروعاً تربوياً متكاملاً لمحو الأمية وتعليم القراءة والكتابة بالعربية للكبار، وحظي ذلك المشروع بتشجيع من لدن الملك المجاهد الراحل محمد الخامس. وعندما تولى المرحوم محمد الفاسي رئاسة جامعة محمد الخامس، اختار الأخضر غزال كاتباً عاماً (وكيلاً) للجامعة وأستاذاً لفقه اللغة فيها. ويعد الأستاذ الأخضر غزال من أوائل الأساتذة الجامعيين العرب الذين درّسوا علم اللغة الحديث وأطلق عليه اسم اللسنيات ثم اللسانيات. وعندما أُسنِدت حقيبة وزارة الدولة المكلفة بالشؤون الثقافية إلى الأستاذ محمد الفاسي، اختار أحمد الأخضر غزال مديراً لديوانه، ثم كاتباً عاماً (وكيلاً) للوزارة. (والمرحوم محمد الفاسي هو الذي نجح في إدخال اللغة العربية لغة رسمية في منظمة اليونسكو عندما كان رئيس المجلس التنفيذي للمنظمة في مطلع السبعينيات) وعندما تولّى الأستاذ أحمد الأخضر غزال إدارة معهد الأبحاث والدراسات للتعريب بالرباط عام 1961، بذل جهداً استثنائياً في تعريب الإدارة والتعليم في المغرب، فقد كانت الفرنسية هي اللغة المعتمدة فيهما. فأصدر كتابه « المنهجية العامة للتعريب المواكب»، ونشر « معجم الإدارة العامة: فرنسي عربي»، وتولى شخصياً ترجمة الدروس الافتتاحية لكليات العلوم والطب والهندسة في جامعة محمد الخامس إلى اللغة العربية لتشجيع الأساتذة على تعريب دروسهم وتعريب التعليم العالي برمته. وفي مجال دعم اللغة العربية بالمصطلحات العلمية والتكنولوجية الحديثة لتكون لغة عصرية بحق، أصدر الفقيد كتابه الهام « المنهجية الجديدة لوضع المصطلحات العربية». وفي أواخر السبعينيات، أنشأ في معهد الدارسات والأبحاث للتعريب الذي كان يديره، أول (بنك كلمات للمعطيات المصطلحية) في الوطن العربي، قبل انطلاق الشابكة (الإنترنت). وصار هذا البنك والدراسات التي نُشرت عن هيكلته وأنظمته وعمله، نموذجاً تسير على منواله جميع بنوك المصطلحات التي أُسست بعد ذلك في بقية البلدان العربية. ومن أبرز الأعمال العلمية التي اضطلع بها الفقيد مشروع البحث الميداني في تونس والجزائر والمغرب لحصر الرصيد اللغوي لدى أطفال المغرب العربي الذي تمخض عنه « معجم الرصيد اللغوي «، وهو معجم يضم جميع الألفاظ العربية التي يمتلكها الأطفال المغاربيون قبل دخولهم المدرسة، بحيث يمكن إعداد مناهج التعليم ومعاجم الأطفال على أساس علمي. وقد اشترك معه في إجراء هذا البحث الميداني اللغوي الجزائري عبد الرحمن الحاج صالح (رئيس مجمع اللغة العربية الجزائري حالياً) واللغوي التونسي أحمد العايد. وظل هذا البحث الميداني اللغوي حتى اليوم يتيماً في الوطن العربي، مع الأسف، فلم تضطلع أية مؤسسة تربوية أو لغوية عربية في السير على نهجه واستكماله. ولد الراحل يوم 30/10/1917 في عين الشكاك بنواحي مدينة فاس المغربية، وأسلم الروح في الرباط يوم 13/11/2008. وكان الفقيد عضواً في أكاديمية المملكة المغربية منذ تأسيسها عام 1977، وأسهم في إعداد أجيال من اللغويين المغاربة من طلابه في الجامعة ومساعديه في معهد الدراسات والأبحاث للتعريب الذي تولى إدارته قرابة 30 عاماً، وهم يشكلون اليوم مدرسة لغوية عربية متميزة. وبرحيله تفقد الأوساط اللغوية العربية عالِماً لسانياً مبرّزاً، أخرج البحث اللساني العربي من دائرة الدراسات الإنسانية ووضعه في قلب الدراسات العلمية والتكنولوجية، ورسم له أهدافاً تطبيقية عملية، بحيث يمكن تلقيبه بأبي الهندسة اللغوية العربية. * كاتب أكاديمي وباحث لغوي عراقي يقيم في المغرب.