تترسخ ثقافة الاعتراف في المجتمعات المتحضرة بمكافأة المساهمين في بناء ثقافتها الوطنية بطرق شتى منها إطلاق أسمائهم على شوارع كبرى في مدنهم، أو المؤسسات والمراكز الثقافية أو المتاحف في أوطانهم أو تعتمدهم في أكاديمياتها ومجامعها العلمية بل وجدنا بعض المجتمعات الراقية توقف مدافن خاصة عليهم (Le panthéon) وبين هذا وذاك تعقد المحافل الثقافية جلسات علمية لتكريم أولئك الأعلام الأحياء، أو تأبين الراحلين منهم. وكل ذلك على أمل إبراز رموز ثقافية وطنية خلاقة معطاءة يمكن أن تكون قدوة للأجيال الصاعدة. ودعما لهذه الثقافة نشر الدكتور عباس الجراري، وعلى مدار عقدين من الزمن سلسلة كتب عنونها ب (مع المعاصرين) ظهرت منها حتى الآن ثلاثة أجزاء ونشر أولها سنة 1995 وطبع آخرها سنة 2009 وبينهما أخرج جزءها الثاني سنة 2002. وفيها سجل ما قدم من شهادات في حق العديد من الأعلام. وقد أوردها موثقة بزمانها ومكانها ومناسبة إلقائها. وللكتاب الثالث والأخير والذي بين يدينا الآن قيمة تاريخية وأدبية ونقدية كبيرة فهو من حيث الشكل جماع كلمات ارتجلت في محافل عقدت لتكريم أو تأبين بعض الأعلام. وهو من حيث العمق شهادات جيل على جيل سابق عليه، كتبت بحس الناقد وعين المؤرخ. وجاءت غنية بكثير من المعطيات والحقائق التاريخية المسعفة في دراسة الثقافة المغربية المعاصرة في وقت مايزال تدوين مقومات هذه الثقافة محدودا وما يزال كثير من حقائقها يؤخذ من أفواه الرجال. وهي من ناحية أخرى تقدم تفاصيل مفيدة في السيرة الذاتية للدكتور عباس الجراري حين كان يافعا ثم طالبا وفي رعاية والده متصلا بأقطاب الحركة السلفية الإصلاحية وقادة الحركة الوطنية بالمغرب وبعد ذلك فاعلا في الحياة الثقافية المغربية متفتحا على نخبها ومتفاعلا معها. وهي تسهم ولا شك في فهم أسس ومرجعيات المشروع الثقافي الوطني الذي دافع عنه الدكتور عباس الجراري أستاذا جامعيا محاضرا ومؤطرا وباحثا مؤلفا والذي استهدف تكريس إشعاع المغرب الحضاري في حاضره وماضيه، والحفاظ على هويته القائمة على التنوع في إطار الوحدة، ومرجعية عقائدية دينها الإسلام ولغتها لغة القرآن. يقدم الكتاب ستا وعشرين مداخلة أو بالأحرى ستا وعشرين شخصية ويمكن تحليل مضمونه على مستويين. أحدهما عمودي يصف ويحلل تشكيلات الشخصيات في الكتاب ومستوى أفقي يستقرئ جوانب تقديم الشخصيات ويحدد هيكليتها أو بناءها المنهجي. وفي المستوى العمودي يمكن القول إننا في هذا الكتاب أمام شرائح من النخب الثقافية والسياسية التي عرفها المغرب خلال القرن العشرين ففيها: - رموز الوطنية كمحمد الخامس، وعبد الله الجراري، وعثمان جوريو، وعلي بركاش. - والأساتذة الجامعيون كإبراهيم المزدالي، ونجاة المريني. - والأكاديميون كعبد الهادي التازي. - ورجال الدولة كمحمد عواد، وعبد الوهاب بمنصور، وعبد الحق المريني، ومحمد القباج. - والأدباء كعبد الكريم غلاب، - والمثقفون المصنفون كمحمد العربي الخطابي ومحمد بن عبد العزيز بنعبد الله. - وشعراء الفصحى كمحمد بن الراضي. وشيوخ الملحون كالحسين التولالي. - والفنانون كرجاء بلمليح، والمنشدون كعبد اللطيف بنمنصور. وهم رجال ونساء من شمال المغرب وجنوبه ووسطه وفيهم أصدقاء للمغرب كسعيد مانع العتيبة. والملاحظة الأساسية هي أن أغلب هذه الشخصيات من مخضرمي فترة الحماية ومقاومة الاستعمار وعهد الاستقلال. أي أنهم من هؤلاء الذين عاشوا التحولات الاجتماعية والفكرية والسياسية التاريخية التي عرفها المغرب في القرن الماضي، وأسهموا فيها وبحكم مواقعهم الريادية، وبشكل أو بآخر. وهو الأمر الذي يعطي لسيرهم قيمة تاريخية تذكر. وهكذا رأينا مثلا ومن خلال المداخلات محمد بن العباس القباج ذا إسهامات مبكرة في تطوير النقد الأدبي المغربي الحديث في الثلث الأول من القرن العشرين. إلى جانب عبد السلام بن عبد الجليل بخبرة تربوية كبيرة نشيطا في العمل على تطوير التعليم الحر المغربي قبل الاستقلال. وعبد الجليل القباج مؤسسا في مجال الصحافة المغربية باللغة العربية. في المستوى الأفقي يكشف تحليل المعطيات أن تلك الكلمات أوبعبارة أدق المداخلات مهيكلة بدقة وخاضعة لاختيارات منهجية محددة سلفا تعنى بتتبع جوانب أساسية في كل شخصية من شخصياتها. وباستقراء هذه الجوانب في مجموع المداخلات بالإمكان الإشارة إلى المكونات الآتية: 1 - الأسرة وأصولها التاريخية. 2 - النشأة والتعليم والمؤهلات الفكرية والنبوغ. 3 - المهام الإدارية والعلمية. 4 - الأعمال العلمية والأدبية المنجزة وقيمتها التاريخية. 5 - مواقف الشخصية الإنسانية والوطنية والفكرية. 6 - خصائص الشخصية المزاجية. 7 - علاقة الشخصية بالمؤلف وذكرياتهما المشتركة. مع ملاحظة أن هذه المكونات لاتحضر دائما وبنفس درجة التوسع عند الحديث عن كل شخصية أي أن هناك حضورا لبعض هذه المكونات وغيابا لأخرى في دراسة كل شخصية. وهناك تفاوت في درجة حضور كل عنصر من هذه العناصر وذلك تبعا لخصوصية الشخصية. وترتفع نسبة حضور تلك المكونات حين تسعف معطيات الشخصية وزمان ومكان المداخلة. وللتمثيل لذلك نشير إلى مداخلتين في الكتاب الأولى حول (محمد الخامس/منهج كفاح التحرير) والثانية عن (عبد الوهاب بنمنصور / المؤرخ الأديب). ونحن نقرأ في المداخلة الأولى عن ميلاد محمد الخامس ونشأته وبيعته ومقاومته للاستعمار وسياسته الإصلاحية ومواقفه طيلة حياته وكل ذلك معزز بشواهد من أقواله وخطبه. وفي المداخلة الثانية عن عبد الوهاب بنمنصور تحدث الدكتور عباس الجراري عن نبوغه المبكر ومهامه الإدارية وسمات مزاجه وأعماله العلمية التأريخية والإبداعية وصلته به. ولكل مداخلة عنوان خاص يقدم المكون الأساسي للشخصية من وجهة نظر الكاتب أومفتاح الشخصية بعبارة سكولوجية. وللتمثيل نستعرض العناوين التالية: عثمان جوريو (جهاد في واجهات متعددة) محمد بن الراضي (الشاعر الوطني) علي بركاش (نموذج الوطنية الأصيلة الصادقة) عبد السلام بن عبد الجليل (الأستاذ المربي والوطني الغيور) محمد بن عبدالعزيز بن عبد الله (المثقف المتميز)... ويسمح هذا التلحيل العمودي والأفقي لمضمون كتاب »مع المعاصرين أسماء وآثار في الذاكرة والقلب« باستخلاص ثلاث ملاحظات أساسية. وخلاصة الملاحظة الأولى تظهر في القول إن رصد مداخلات الكتاب لمكونات الشخصيات المحتفى بها والحرص على التدقيق في أسماء الأعلام، وعناوين المؤلفات، وتواريخ الأحداث. وتعزيز ذلك كله بالشواهد والوثائق ودون تغييب للعلاقة الإنسانية التي تجمع بين الكاتب والمحتفى به واستعراض لذكرياتهما، وحديث عن مشاعر الكاتب والإنطباع النفسي الذي له عن المحتفى به كل ذلك يجعلنا أمام تجربة منهجية في الكتابة الأدبية تجمع بين الموضوعي والذاتي تقوم على تقديم المعطيات والحقائق وتحليلها والتعليق عليها بطريقة علمية ودون الإعراض عن إبراز أبعاد إنسانية في العلاقة بين الباحث وموضوعه. ومن منظور نظرية النقد تتقاطع أجناس أدبية عديدة في هذه المداخلات ففيها بعض خصائص الدراسة الأدبية، وبعض خصائص السيرة الغيرية أو فن التراجم، فضلا عن بعض مقومات أدب السيرة الذاتية. وبهذا فهي تتحدى النقد الأدبي الذي عليه أن ينظر لأصولها على غرار ماهو قائم بالنسبة للخطبة والمقالة وغيرهما من الأجناس الأدبية. وحتى ذلك الحين وفي انتظار توفر تراكم تاريخي لهذه الكتابات في الأدب المغربي خاصة ولنا أن نذكر ببوادر هذا التراكم في ما نشر حتى الآن من تكريمات جامعيين مغاربة كمحمد الكتاني وأحمد اليابوري 1 ومانشرته الدكتورة نجاة المريني 2 ومانشر عن بعض أعلام المجتمع والثقافة كمحمد بنبين واحمد الشرقاوي 3 إقبال من مؤلفات في هذا اللون الأدبي من الكتابة أقول في انتظار ذلك التراكم ليس لنا إلا القول إن مداخلات الدكتور عباس الجراري باختياراتها المنهجية الملائمة والمحكمة قدمت عمليا نموذجا أصيلا متطورا وخصبا ورائدا لهذا الجنس من الكتابة الأدبية، يمكن الاعتداد به في محاولة تأصيل هذا الجنس الأدبي في النثر المغربي العربي الحديث وبالتالي العمل على تحديد أصوله النقدية. والملاحظة الثانية هي القول بحضور بعض ملامح عمادة الدكتور عباس الجراري للأدب المغربي في هذه المداخلات. وبقليل من الانتباه عند متابعة الآفاق العلمية التي يرتادها عميد الأدب المغربي فيها. وفي تحليلاته وما يستخلصه خلالها من استنتاجات في ذلك كله تتضح كثير من المجالات والقضايا التي على دارسي الأدب المغربي اليوم أكاديميين ومؤطرين وباحثين جامعيين التقاط الإشارات إليها والعمل على التوسع في دراستها. ومن أهم تلك المجالات والقضايا التي تطرد الإشارة إليها في أكثر من مداخلة نذكر: 1 النشيد في الشعر الوطني المغربي. 2 المؤثرات الثقافية الفرنسية والانجليزية في الشعر العربي المعاصر في المغرب 3 الصحافة الأدبية في مغرب فترة الحماية وعهد الاستقلال 4 الحركة الثقافية في شمال المغرب قبل الاستقلال 5 المساجلات والإخوانيات في الشعر المغربي المعاصر 6 المقارنة بين شعر الملحون المغربي والشعر النبطي الخليجي 7 أهمية المذكرات الشخصية ودعوة أعلام المغاربة إلى كتابتها ونشرها 8 التعليم الحر وصلته بالحركتين الوطنية والثقافية خلال فترة الحماية في المغرب. الملاحظة الثالثة وتتمحور حول الأسلوب الذي صيغت به هذه المداخلات وباعتبارها كلمات مرتجلة إذ تميزت بخصائص أسلوبية في طليعتها: 1 التوسع في تضمين المداخلات نصوصا مقتبسة من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وأقوال بلغاء العرب وأبيات الأمثال في ديوان الشعر العربي. 2 رفع إيقاعية الأسلوب باستخدام محسنات بديعية كالسجع والجناس وتكرار الألفاظ وتكرار الصيغ الصرفية والاهتمام بتوازنات الجمل الصوتية واعتماد تشكيلات ألفاظ لغوية سلسة وغير مبتذلة ومن الأمثلة على ذلك قوله: (وكانت هذه الصداقة تتقوى عبر ما كنا نناقش من قضايا وطنية، ومشكلات فكرية، ومسائل لغوية.«) وطنية وفكرية ولغوية. وقوله: (ولعلي بهذه الذكريات، وغيرها كثير، أشهد أن الأستاذ المرحوم عبد الوهاب بمنمصور كان طيب الرفقة، حسن العشرة، حلو المحادثة غني المذاكرة، لا تمل مجالسته، وما يستحضر خلالها من نوادر تاريخية، ونكات أدبية نستمتع بتبادل استذكارها.) الرفقة والعشرة: الفعلة والمحادثة والمذاكرة: المفاعلة. وكقوله: (إذن بهذا و بما كان يلتهمه المرحوم بنعبد الله من كتب تكونت شخصيته كان يمكن أن ينصرف لمهنة التعليم كعدد من أقرانه بل جلهم. وكان قد جربها في مدرستي امحمد جسوس والمعطوية وكان من الممكن أن يتميز في هذه المهنة ويتدرج فيها، ولكنه لم يقنع بذلك، إذكان يتطلع إلى شيء آخر. كان يمكن أن يكون عضوا نشيطا وفاعلا في الحركة الوطنية: وفي الخلايا الحزبية والهيئات النقابية، وما إليها مما كان سيبوئه موقعا سياسيا بارزا، ولكنه لم يفعل لأنه كان يتطلع إلى شيء آخر، كان يمكن أن يكون قاضيا بعد حصوله على شهادة القانون، ولكنه كان يتطلع إلى شيء آخر وكان يمكن كذلك أن يكون محاميا وقد توافرت له جميع المؤهلات ولكنه كان يتطلع إلى شيء آخر). جملة: كان يمكن أن ولكنه كان.. وفعل يتطلع.. وفي تقديم عام لهذا الكتاب يمكن القول إن مواصفات مداخلاته المنهجية قد أبعدت ما يلقى من كلمات في مناسبات تكريم أو تأبين الاعلام عما سمعناه أو قرأناها لدى كثير من الجامعيين المغاربة من شهادات تعنى وهي تتحدث عن الاعلام بتسجيل تفاصيل حيواتهم بل جزئيات التفاصيل وبشكل يجعل الشهادة أقرب ما تكون إلى تقارير المخبرين السريين الذين يتعقبون الشخصية ويدونون ما فعلت وما لم تفعله وما قالت وما لم تقله. ولا يعنيهم أن يصفوا ولا أن يحللوا القيم الإنسانية والوطنية التي تجسدها تجربة هؤلاء الاعلام الحياتية. وبقدر ما ابتعدت مداخلات الدكتور عباس الجراري عن هذا النموذج فقد ابتعدت عن شكل آخر من الشهادات التي تستفيض في عرض المشاعر والإنفعالات وبطريقة ما أجدر الشعر بها. وبعبارة أخيرة فقد تجاوزت هذه المداخلات والشهادات بتوجهها الأدبي النقدي واهتماماتها التاريخية ومنهجيتها العلمية شهادات التقارير الإخبارية وشهادات العواطف الشعرية الى تحليلات ذات قيمة تاريخية فكرية وأدبية وبذلك تكون رائدة ومؤسسة في الأدب المغربي الحديث لهذا الجنس من الكتابة الأدبية التي تزاوج بين الذاتي والموضوعي وبين متعة الفن وفائدة العلم وبين رقة المشاعر ودقة الحقائق. ولاغرو فقد عودنا الأستاذ العميد على الأصيل والمفيد في كل كتاب له جديد والله المستعان الرباط في 02/ 04/ 2010 ألقي هذا العرض في النادي الجراري. هوامش 1 محمد الكتاني: منظومة جدلية جامعة عبد الملك السعدي منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان. سلسلة الأعمال التكريمية 1999. تحولات النقد الأدبي المعاصر بالمغرب. أعمال مهداة الى أحمد اليابوري. تنسيق سعيد يقطين الرباط 2009 3 أحمد الشرقاوي إقبال العالم والإنسان جامعة القاضي عياض منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية مراكش سلسلة ندوات ومناظرات رقم 1 2004 4 يراع الذاكرة وأغاريد الزمان أعمال مهداة الى العلامة محمد بنبين أشرف على طبعه أحمد متفكر مراكش 2005 5 كتاب»مع المعاصرين أسماء وآثار في الذاكرة والقلب« الجزء الثالث، عباس الجراري ص 184 و 216 و 246 .