أصحاب المعالي والسعادة السيد رئيس مدير عام مؤسسة عبد الحميد شومان حضرات السيدات والسادة أود أن أستهل حديثي بالإعراب عن سعادتي العميقة، بتواجدي على أرض المملكة الأردنية الهاشمية الشقيقة، بين إخوتي وأصدقائي، وبتقديم خالص الشكر للأستاذ الصديق ثابت الطاهر، مدير عام مؤسسة عبد الحميد شومان، هذا المنبر الحر الرائد في مجال احتضان المعرفة ونشرها، ودعم وتشجيع البحث العلمي والدراسات الإنسانية، في الجامعات والمؤسسات والمراكز العلمية الأردنية، وتشجيع الأجيال الجديدة من العلماء والباحثين والأدباء في الأردن، وفي الأقطار العربية. وإذا كانت المناسبة شرطا كما يقال، فإني أغتنمها فرصة لأشيد بأواصر التعاون والتواصل القائمة بين مؤسسة عبد الحميد شومان، بالأردن، ومؤسسة منتدى أصيلة، بالمغرب؛ أواصر توجت صيف العام الماضي (2009)، بتوقيعنا، في أصيلة، على اتفاقية تعاون وتواصل بين المؤسستين. من هنا، أجدني سعيدا، ومعتزا بهذه الدعوة الكريمة وبهذا اللقاء الثقافي، اللذين أعتبرهما، شخصيا، يندرجان في إطار تفعيل الاتفاقية المذكورة، بما يعزز أيضا أواصر العلاقات المتينة والعريقة القائمة في شتى المجالات، بين المملكة المغربية والمملكة الأردنية الهاشمية، وبين الشعبين الشقيقين، المغربي والأردني. كما أنها دعوة أتاحت لي فرصة تجديد أواصر اللقاء بهذا البلد الطيب، الذي اعتز بعلاقات صداقة إنسانية عميقة، تجمعني بعدد من أبنائه، من مسؤولين رسميين، وفاعلين سياسيين، ومثقفين، ومفكرين، ومبدعين، وإعلاميين، وهو ما جعلني لا أتردد في تلبية هذه الدعوة الكريمة من هذه المؤسسة الثقافية والعلمية الشامخة، التي شرفتني هذا اليوم بالتحدث إليكم، من هذا المنبر، وسط هذا الحضور البهي والوازن. لقد تم الاتفاق على أن يكون موضوع "تدبير الشأن الثقافي في الوطن العربي : الواقع والتطلعات" محور هذا اللقاء، ومناط مداخلتي في هذه الأمسية الرائقة. والحقيقة أنني ربما قد استسهلت الموضوع في البداية، فقد اعتقدت أن التجارب الشخصية، والخبرة العملية التي اكتسبتها من اشتغالي وانشغالي، لمدة ولازلت، بالحقل الثقافي، كافية لإنارة الموضوع من كافة زواياه وجوانبه. حضرات السيدات والسادة في اعتقادي، أن موضوع هذه المداخلة، ذو أهمية بالغة، على الأقل للاعتبارين التاليين : أولهما، لما يطرحه موضوع تدبير الشأن الثقافي في الوطن العربي بشكل عام، من إشكالات، وأسئلة متجددة، وتحديات مستقبلية، تكاد محطاتها وملامحها وصورها تتشابه بين مجموع الأقطار العربية؛ ثانيهما، لراهنية الموضوع، ولتشابكه، وتعقُّده في الوقت نفسه، على اعتبار أن مسألة تدبير الشأن الثقافي العربي، تتداخل في تحديده عناصر عديدة، وأطراف مختلفة، وتتحكم فيه توجهات وإكراهات، تاريخية وسياسية وثقافية وإيديولوجية متباينة. وانطلاقا من تجربتي المتواضعة في هذا المجال، أود أن أشير في البداية، إلى أن أكثر تلك التجارب فائدة بالنسبة إلي، مارستها من خلال مبادرتي أو مغامرتي، في نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي (1978)، مع ثلة من الأصدقاء، بتأسيس جمعية ثقافية هي "جمعية المحيط الثقافية" في أصيلة، التي انبثقت من صلب المجتمع المدني، ونهضت على تطوع الأفراد، واعتمدت شعار "الثقافة والإبداع من أجل التنمية"، وهي مستمرة في نشاطها إلى اليوم، وقد تحولت إلى مؤسسة ثقافية تنموية، هي "مؤسسة منتدى أصيلة"، تعنى، إلى جانب تنظيم الفعاليات الثقافية، بدعم وإنجاز المشاريع التنموية، في الإسكان والتعليم والمرافق الثقافية والاجتماعية، ومساعدة الطلبة الجامعيين والمرضى من المعوزين والمحتاجين عموما. ويكمن جانب المغامرة في تلك التجربة الجمعوية في مراهنتها، على إمكانية تدبيرٍ مختلفٍ، حر ومستقل للشأن الثقافي، ضمن دائرة محددة، تدبيرٍ اعتمد التوفيق بين معادلتي التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، اقتناعا منا بأن الثقافة يمكن أن تكون مدخلا محفزا للتنمية المحلية، بل بوابتها الواسعة. ويبدو أننا قد كسِبنا جزءا كبيرا من الرهان، مقارنة بالإمكانات المتاحة والإكراهات المتعددة التي واجهت عملنا في البداية، في ظل جو فكري لم يكن قد تخلص، في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، من النظرة التقليدية للعمل وللنشاط الثقافي؛ نظرة مشْبَعة بالأحكام القطعية، والتصنيفات الأيديولوجية المتعالية على الواقع، مع احتراز المثقفين آنذاك من الانخراط في أي مشروع ثقافي ترعاه الدولة. فقد كان العالم في ذروة الحرب الباردة، وكان الوطن العربي عموما يجتاز مخاض التجاذبات القومية، والصراعات الإيديولوجية. وجدت أمامي نفس النظرة والعقلية، وإن بشكل مختلف، مع بداية تجربتي الثانية في تسيير الشأن الثقافي، حينما أصبحت وزيرا للثقافة في حكومة جلالة الملك، في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، حيث اجتهدت في رسم سياسة بديلة للقطاع، أستطيع أن أزعم بأنها أرست أسس التصالح المستمر حتى الآن بين الدولة والمثقفين. حضرات السيدات والسادة قدرت، وأنا أجمع خيوط هذا الحديث، أن التجربتين غنيتان، طافحتان بالآمال العريضة، كاشفتان، في الوقت نفسه، عن الصعوبات والعراقيل. ومن هذا المنطلق، اعتقدت أن التجربتين معا تُسَوِّغان لي الخوض في موضوع هذا اللقاء، واستخلاص بعض النتائج، وعرض مقترحات أريد أن أشرككم اليوم في تأملها معي ومناقشتها. والحقيقة أني أفدت كثيرا من التجربتين المختلفتين مع تدبير الشأن الثقافي، في كثير من الملامح. وربما كانت الفائدة في تجربتي في مؤسسة من المجتمع المدني، أكثر وأكبر من تجربتي في الوزارة. فقد مكنتني من الاحتكاك المباشر، ومن معرفة مشاكل القطاع الآنية والموروثة، في شموليتها وتعقيداتها، وفي مقدمتها رسوخ تلك النظرة التقليدية، البيروقراطية، الجامدة، في التعاطي مع الشأن الثقافي. كما بينت لي تجربة العمل الحكومي الحدود التي لا ينبغي أن تتجاوزها أية سياسة ثقافية تطمح إلى تسييرِ، وبدون مخاطر، قطاع الثقافة، وفق منظور حديث. لقد عايشت في "مؤسسة منتدى أصيلة" درجات من المقاومة، وخِشية الناس من أي إصلاح، وتلك ظاهرة طبيعية. لكن يجب عدم الاستسلام لها، بل التعاطي معها بحكمة وروية. كما تعلمت في الوزارة كيف ألائم بين إرضاء مطالب النخب، وانتظارات الرأي العام، وإرضاء رغبات المعنيين، من منتجين ومستهلكين، في ظل الإكراهات المالية والإدارية والتشريعية، وفي ظل التوازنات السياسية في أية حكومة. والواقع أن التجربة، بشقيها المدني والرسمي، كانت خصبة ومنعشة لي، بقدر ما وجدت فيهما من ضروب المقاومة للإصلاح. وأظن، بعد مضي حوالي ثلاثة عقود من الزمن، أني حاولت الموازنة، قدر المستطاع، بين مسؤولياتي الوظيفية، بما اقْتَضَتْه من التزام بالبرنامج الحكومي، مثلما لم أجد تعارضا صارخا بين العمل في مكتبي بوزارة الثقافة، في الرباط ، وفي نهاية الأسبوع، أنتقل إلى مدينتي أصيلة، لأتابع، وسط شروط مغايرة، بمعية زملائي، المشاريع الثقافية الطموحة التي أطلقناها. كانت "ثنائية" رسمية ومدنية، ممتعة ومحفزة. الحضور الكريم إنه على الرغم من أن عنوان مداخلتي هذه، يتألف في شِقِّه الأول من كلمات معدودة، فقد وجدتني، كلما مضيت في جمع خيوط الموضوع، وإعداد تصور له، أنها مفردات مثقلة بمعاني ودلالات؛ تقف وراءها اتجاهات ومدارس فكرية، تداخلت فيها أصناف المعرفة الحديثة، بما يعني أننا نتصدى لقضية كبيرة وشائكة، وغاية في الأهمية، بحيث يصبح من الصعوبة الإحاطة بكل جوانبها، والإلمام بسائر عناصرها وتفاصيلها، في حدود الزمن المتاح. ولا غرابة في الأمر، فقد تواتر الحديث في العقود الأخيرة عن دور الثقافة، وعن استراتيجياتها وسياساتها. بمعنى أن الثقافة أصبحت على درجة كبيرة من الأهمية، مثل الاقتصاد والتربية والتعليم، وغيرها من المرافق الحيوية الأخرى؛ الأمر الذي دفع بالاتحاد الأوربي، على سبيل المثال، في بداية إنشائه، نحو السعي إلى إقامة تكتله على أساس سياسي واقتصادي وأمني، لكنه آمن في النهاية بضرورة التمحور حول الثقافة. وهو ما حدا ب "جان موتيه" (أبو أوروبا كما يطلق عليه)، إلى القول "بأنه لو قدر له أن يُطْلق مسيرة التكامل الأوروبي من جديد، لتعين عليه أن يبدأ بالتعليم والثقافة" (عن التقرير العربي الثاني للتنمية الثقافية، ص123). وتشكل القيمة المتنامية التي اكتسبها العنصر الثقافي في سياسات المجتمعات الحديثة - علامة على تطور مستمر للفكر المعاصر، ومظهرَ نضج التجارب الديمقراطية الحديثة، مع ما يرافقها من بروز قوي ومتصاعد للمجتمع المدني. وهي بذات الوقت مؤشر، وبنفس القوة، على انتشار الوعي بما ألفنا تسميته "الحكم الرشيد أو السديد" في القيادة والتسيير، بغاية إسعاد الإفراد والجماعات، وتيسير سبل حياتهم، بإشراكهم في تدبير شؤونهم المحلية، وضمنها الشأن الثقافي، من حيث كونه المجال الرمزي الأرحب، الحاضن لمجموعة بشرية؛ هذه المعرفة الجديدة هي أحد منجزات "العولمة"، رغم التحفظات التي يمكن أن تكون لنا على بعض الجوانب التي لا ترضينا فيها، وتلك قضية أخرى. إن أي حديث عن السياسة الثقافية (بالإفراد والجمع) يبقى غير دقيق، إذا ما أُهمل المعطى المحلي، وغرق في ضباب العموميات. لقد أصبحت الحكومات الوطنية، في أكثر الديمقراطيات الغربية، تميل أكثر فأكثر نحو التخلي الطوعي عن تدبير شؤون الثقافة، وجعلها ضمن صلاحيات السلطات المحلية. وهذا التطور في التعاطي مع الشأن الثقافي أتاح تعدد المقاربات، وأفاد التجارب من بعضها، فبرزت أشكال من الشراكة في التدبير بين الفاعلين الخواص والعموميين في الميدان. وهو توجه ينبغي على حكوماتنا العربية أن تشجعه، وأن تمضي فيه قدما، باعتباره منطلقَ المنهج الرشيد في تدبير الشأن الثقافي. سأكتفي في هذا المقام بالتذكير بأن التدبير العصري، لأي مشروع أو مَرْفِقٍ عمومي أو خصوصي، يستلزم من منظور عقلاني ، إجراءات عملية متعارفا عليها، يمكن إجمالها في : التخطيط، والتنظيم، والإنجاز ثم التقويم. وهي منظومة رباعية، مترابطة الأجزاء، تعني وضوح الأهداف والغايات، وضبط وتحديد الوسائل، وتوصيف مناهج العمل، وتوقع النتائج، وما يستتبع ذلك من تقويم لمراحل الإنجاز. ويجب أن لا نخشى أو يعترينا الخجل من تشبيه ومقارنة القطاع الثقافي بمقاولة كبرى، يتألف رأسمالها الرمزي والمادي من الرصيد الثقافي الاحتياطي، قديمه وحديثه، ومن الموارد البشرية، المكلفة بصيانته والسهر عليه، أي تدبيره. وانطلاقا من هذا التمهيد، أتساءل : هل يمكن إخضاع تدبير الشأن الثقافي في الوطن العربي، في جوانبه المختلفة، لمقتضيات المقاربة الحديثة؟ وكيف يمكن لهذه أن تصبح إجرائية ومنتجة، وصالحة للتطبيق على جميع الحالات الثقافية المتباينة، الممتدة على مساحات مترامية؟ ثم ما المقصود بالشأن الثقافي؟ هل يقتصر الأمر على المشاكل الإدارية، والتنظيمية والمالية، والتشريعية، المرتبطة بقطاع الثقافة، ووسائل مواجهتها وحلها كليا أو جزئيا؟ أم أن الأمر يشمُلُ المشهد الثقافي برمته، من حيث وسائل الإنتاج وشروطه، وأوضاع الثقافة والمثقفين والمبدعين، على اختلاف وسائل تعبيرهم؟ يلزم كثير من الحَذرِ لتجنب الوقوع في مزالق تعميم أحكام متسرعة على أوضاع مختلفة، رغم إيماننا بوجود كثير من السمات والقواسم المشتركة بين الثقافات وأوضاعها في الوطن العربي، لا تطمس الملامح المميزة لكل واحدة منها، وخاصة تلك التي تشكلت عبر العصور، ومن خلال أنماط الإنتاج والابتكار الثقافي. وما يجب التأكيد عليه، في هذا المقام، هو أن العناصر المشكلة للثقافة تستمد قيمتها الماديةَ والمعنويةَ من كينونتها. فهي نتاج الذكاء، والابتكار، والتعبير الراقي عن المهارات الفردية والجماعية لجماعات بشرية، تُحيل على نمط عيشها ومقدار حضارتها بين الأمم، مثلما تشير إلى كيفية تعاطي تلك الجماعات مع المشكلات الحياتية. وبعبارة أخرى هي التي تشكل رأسمالها الرمزي. وكما هو الحال بالنسبة لأي رأسمال، يلزم تحقيق التراكم فيه حتى يتوالد ويتحقق الربح وتعمَّ الفائدة. وهذا في اعتقادي هو جوهر الفكر الجديد، الذي ينبغي ضخه في جسم الثقافة العربية من أجل تدبيرٍ أكثر عقلانية لشؤونها وقضاياها، لتصبح منتشرة على أوسع مدى، مندمجة في الثقافات الأخرى، مُصْغِيةً لها، مؤثرة فيها ومتأثرة بها، بما من شأنه أن يساهم في غناها وثرائها، لتصبح مَعبْرا نحو "الكونية"، في دخولها في حوار مع الحضارات والثقافات الغيرية، في أفق التقارب فيما بينها، حتى يسود التفاهم والتعايش بين الإنسانية. السيدات والسادة أنتقل الآن، إلى إبداء ملاحظات أولية، بخصوص الوضع الثقافي العربي في أبرز تجلياته. أود أن أُذَكِّر بأمر هام، ربما يغيب عن أذهاننا أحيانا، يرتبط بالجهاز الموكولِ إليه تدبيرُ قطاع الثقافة في الوطن العربي. فالملاحظ أن بلداننا اتخذت من وزارة الثقافة، مؤسسة ذات رسالة إيديولوجية، فاقدة للاستقلال في التسيير والتدبير، لدرجة أن أنظمة ألحقت الثقافة بقطاعات حكومية أخرى، مثل الإعلام، وفي أحسن الأحوال التربية والتعليم، وضمنها بلادي التي لم تخص قطاع الثقافة بوزارة مستقلة إلا في عقد السبعينيات من القرن الماضي. وبينما كانت قاعدة المثقفين، منتجين ومستهلكين، تتوسع في المجتمعات العربية، وما لَزِم ذلك من مستجدات ومطالب وإمكانيات مادية وبشرية، ظل القطاع مفتقرا لكثير من مقومات التدبير الناجع، بل حكمته عقلية تنظر إليه على أساس أنه مَرْفِقٌ محدود، لا يهم إلا فئة ضيقة من المجتمع. فكيف يمكن تدارك سلبيات تلك النظرة؟ من المعروف أننا نعيش اليوم تحولات ولحظات تاريخية وبنيوية حاسمة، بعد أن تخلينا عن مشروع النهضة العربية الذي كان قد بدأه أسلافنا منذ ما يقرب من القرنين من الزمان، ولم نتمكن من كسب رهانه، حيث تفاقمت أزماتنا الداخلية، ولم تعد ثقافتنا العربية تساير منظومة التحديث الحاصلة في مجتمعاتنا وبلداننا، وخصوصا في المجالين الاجتماعي والاقتصادي. وقد تداخلت العديد من العوامل المتضافرة فيما بينها، في تكون هذه الوضعية، التي ساهمت، بأشكال مختلفة، في إضعاف ثقافتنا العربية، من بينها على الخصوص أن ثقافتنا لا تتلقى الدعم الكافي من الأنظمة السياسية المتناوبة على تدبير ثقافة هذا المجتمع أو ذاك، وهو أحد العوائق التي اجتمع حولها رأي بعض وزراء الثقافة العرب، في لقاء نظم، في إطار فعاليات الدورة الأخيرة للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء، في معرض حديثهم عن تجاربهم الشخصية مع تدبير الشأن الثقافي ببلدانهم. وذلك وضع لا يرتبط، في جميع الأحوال، ببلداننا العربية فقط، بقدر ما هو وضع يكاد يكون عاما، حيث يشمل العديد من البلدان الأخرى، في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، كما يعكس القلق العام تجاه نقص الاعتمادات والمخصصات المالية المرصودة للتمويل الثقافي، وتدبير السياسات الثقافية المحلية. تنضاف إلى العامل السابق عوامل أخرى، منها ما يرتبط بتراجع مشاريع التحديث الثقافي في بلداننا العربية، وتنامي ظاهرة التبشير والاختراق الثقافيين، اللذين تتعرض لهما مجتمعاتنا اليوم، لغة وسلوكا وقيما، فضلا عن ظهور ثقافات موازية ومهيمنة، لعل أبرزها ثقافة التطرف الديني. ورغم أن عددا من القيود التي كانت تُكبِّل تحررَ ثقافتنا العربية وانطلاقَتَها، وتحررَ المشاريع المجتمعية والثقافية التنموية، وإن بدرجات متفاوتة من قطر عربي لآخر، ورغم اتساع هامش حريات التعبير والرأي والكتابة، وحقوق الإنسان، فنحن لم نتمكن بعد من مغالبة مظاهر الوهن في مجتمعاتنا، ولم نعالج أعطابنا السياسية والاقتصادية، وخصوصا الثقافية، بما يسعفنا على تحقيق نهضة ثقافية حقيقية وشاملة، عدا أننا لم نستطع بعد وعي المتغيرات التاريخية الطارئة على كياننا الحديث، حتى أصبحنا غرباء فيما بيننا، وفيما بيننا والعالم من حولنا. هذا ما يجعلني لا أتردد في القول إن الثقافة العربية تعيش أزمة على أكثر من صعيد، نتيجة مخاضها العسير، بالنظر إلى تقلبات الأوضاع في بعض الدول العربية، التي تداولت السلطةَ فيها أنظمة مدنية شمولية وعسكرية، زادت من تهميش الثقافة والحذر من المثقفين. شهدت الثقافة العربية في العقود الأخيرة خسوف الاتجاهات العقلانية، وتراجع المشروع العقلاني في الفكر العربي، مما نتج عنه علو أصوات تدعو إلى العودة إلى الماضي، وإلى الموروث الثقافي، كما سادت الروح الدوغمائية، وادعاء الحقائق المطلقة. ولعل من أسباب ذلك، واقع التعليم المتردي في وطننا العربي عامة، رغم الميزانيات الهائلة التي ترصد لهذا القطاع الحيوي، وتنامي دور الإعلام والسياسات الإعلامية العربية في ترسيخ الثقافة الاستهلاكية، بعيدا عن خدمة المشروع الحضاري التحرري، من غير أن ننسى استفحال الصراعات الإقليمية الضيقة، وانبعاث الأقليات والنزعات الطائفية داخل الساحة السياسية العربية. أمام هذا الوضع، إذن، تم تهميش الثقافة، فغاب المثقف، أو تم تغييبه عن المشاركة الفاعلة في صناعة القرار الثقافي، بحيث لا يتم الإصغاء إليه والاستفادة من خبراته وآرائه، فبالأحرى الاستفادة من أحلامه وهواجسه، لإيجاد حلول لمشكلاتنا الثقافية. هكذا، انعزلت فئة من المثقفين الأكثرَ إنتاجا ووعيا برهانات العقلانية، وفضلت فئة أخرى الهجرة الفردية أو الجماعية نحو فضاءات أخرى، ونحو مجتمعات قد توفر لهم الحرية وشروط البحث والتفكير؛ وذلك أمام ما أصبح يتعرض له المثقف، في وطنه، من تهميش، بعد أن تم عزل مساهمته في صنع القرارات السياسية والتنموية، واتخاذ المواقف، وبلورة الاختيارات المصيرية لبلده، وإن عاد بعضهم إلى أوطانهم بعد إعمال العقل. لكن الآفاق لم تنفتح أمامهم كلية، في أوطانهم ، ولم يصبحوا، إلا النَّزْرَ اليسيرَ منهم، فاعلين في حركة التغيير والإصلاحات التي عرفتها عدد من الدول العربية. فحتى اتحاداتُ وروابط الكتَّاب والأدباء العرب، بدا أنها قد تسيست، في كثير من الأحيان، إما بتأثير من الإدارة، أو بتأثير من الأحزاب السياسية، بحيث حدث في هذه الحالة نوع من الإقصاء لعدد من المفكرين والمبدعين، فقط لأنهم غيرُ منتمين، علما بأن المفكر والمبدع ترشدهما الحرية، ومثقف المجتمع هاجسه هو مساءلة القيم، وليس الانصياع لها. وقد ترتب عن تغييب أو إقصاء المثقف، نتائج سلبية على الصعيد النفسي والاجتماعي والحضاري، أبرزها وأخطرها شعوره بانعدام الجدوى من وجوده في مجتمع يقمع المواهب، ويتوجس من الأفكار المجددة؛ مما يساهم في ابتعاد الثقافة العربية المتتالي عن خضم العصر، حتى وجدت نفسها على مسافة كبيرة مما نسميه "الفضاء العولمي"، منكفئة ضمن حدود المحلية، بينما تنخرط القطاعات الاقتصادية والمالية والإدارية ومنظمات المجتمع المدني، بدرجات متفاوتة، في خضم العولمة، أي أن المجتمع يتحرك بسرعتين متعارضتين، تُفْرِزَان ما يسميه الاقتصادي المصري، سمير أمين، بظاهرة التطور اللا متكافئ. وتلك مفارقة أخرى. موازاة مع ذلك، برزت العديد من الحدود بين النخب العربية، وغاب الحوار الجاد والمؤثر فيما بينها. بل إن بعض نخبنا ومثقفينا سقطوا، مؤخرا، في فخ استعلاء واستعداء قطر عربي على آخر. ورغم ذلك، فشخصيا لا أبالغ في تأكيد على أهمية دور المثقف، كما لا أعفيه من مسؤولية التهميش الذاتي لنفسه. لنتساءل : هل المثقف العربي مغيب حقا، كما يزعم كثيرون؟ إن إقصاء المثقف، أو إبعاده عن القرار السياسي، سببه، في نظري، إما إداري صرف، أو أنه نابع من النخب نفسها، هاته التي تقصي نفسها بنفسها، في غياب أي مجهود يبذل من قبل هذه النخب لتقريب الهوة، والتغلب على القطائع التاريخية، القائمة بينها وبين أنظمتها، علما بأن المصالحة هنا، لا تعني الإذعان والرضوخ، بقدر ما تعني الإبقاء على باب الحوار مفتوحا، بدل الارتكان إلى المواجهة. وتحضرني هنا، تلك العلاقة الخاصة التي كانت قائمة بين الجنرال شارل دوغول والشاعر الفرنسي أندريه مالرو، وزير الثقافة آنذاك، حين سأل أحد الصحفيين دوغول عن سر احتفاظه بمالرو عن يمينه في المجالس الحكومية، فكان جواب الجنرال دوغول أنه "كلما ناقشنا موضوعا أو مشروعا، نجد أن أندريه مالرو هو من يبرز لنا بعده الإنساني". كل ذلك إذن وغيره، ساهم بشكل مؤثر في تدني الفعالية الثقافية والنقدية العربية، وفي تقاعس الخطاب التنويري أمام الخطاب الديني المتطرف، وتراجع الإنتاج الفكري والفلسفي والإبداعي عما كان عليه في مراحل سابقة، بحيث لم تعد مجتمعاتنا العربية تنتج، إلا نادراً، مفكرين وفلاسفة وفنانين كبارا، كما كان عليه الأمر من قبل. نحن متفقون إذن، على أن علاقة متأزمة بين المجتمع ونخبه الفكرية، لا تُنْتِجُ إلا ثقافة الإحباط واليأس وانسداد الأفق، مما يؤدي حتما إلى سيادة الثقافة الضحلة وانتشار الأفكار المتطرفة التي أغرقتنا، للأسف، من جديد في دوامة الخوف والترقب والتوجس من مخاطر الإرهاب الفكري، فانشغلنا جراء ذلك بصراع داخلي، جرنا بعيدا عن مواكبة واللحاق بطفرات التقدم التي يعرفها العالم المعاصر. بل ربما أعادنا الصراع مع الذات إلى التقوقع في محلية ضيقة، أكثر انغلاقا، ما ساهم في بروز نزعات سلبية تعكسها مواقف فئة قلقة ومضطربة من المبدعين العرب حيال أهم المقومات الثقافية القومية، أعني اللغة العربية، لدرجة أن طائفة من الكتاب العرب باتوا أشد اقتناعا بأن الانخراط في العصر والولوج إلى الحداثة وتحقيقَ الانتشار، لا يمكن أن يتم من بوابة اللغة والثقافة العربية. من هنا، فإن القيام بعملية تحول ثقافي جذري في فكرنا، وفي مجتمعاتنا، تتطلب من الجميع، أفرادا وجماعات ومؤسسات أهلية، جهودا حثيثة ومتواصلة، من أجل تحقيق تنمية ثقافية حقيقية. فإذا كان المؤتمر الدولي الثاني للسياسات الثقافية، المنعقد في ستوكهولم، عام 1998، وقبله مؤتمر مكسيكو عام 1982، قد وثق الصلة بين السياسات الثقافية والتنمية البشرية، وأقر خطة عمل للسياسات الثقافية للتنمية، تبناها وزراء الثقافة في مائة وتسعة وأربعين بلدا من بلدان العالم، فإن مشكل التنمية الثقافية العربية لا يزال مشروعا طموحا ومطروحا بحدة في أجندة حكوماتنا ومؤسساتنا الأهلية العربية. فبقدر تعدد تجارب التنمية الثقافية على الصعيد القطري، فإن ثمة تحديات عديدة لازالت تواجه الثقافة العربية المعاصرة، على مستوى تضافر الجهود القطرية وتكاملها، من أجل تحقيق تنمية ثقافية عربية مشتركة ومتوازنة، حيث يبدو العامل الثقافي محوريا في إحداث التكامل الإقليمي العربي، وهو الأبقى، أمام صعوبة تحقق المدخل الأمني أو السياسي أو الاقتصادي العربي. لا يمكن للتقوقع على الذات أن ينتج فكرا خلاقا وإبداعا سليما كما أسلفنا. يضاعف من خطورة هذه الوضعية، انحسار نشاط الترجمة العلمية الدقيقة، وليس المبتسرة في الوطن العربي، إضافة إلى عمق الهوة المعرفية والرقمية التي تفرق بيننا وبين العالم الأكثر تقدما، فضلا عن ضُمُور مستوى البحث العلمي في الجامعات التي تقلص دورها وصورتها في أغلبيتها، في مجرد مؤسسات تعليمية عادية، تخرج في معظم الأحيان أعدادا من الكوادر المتوسطة. أيتها السيدات، أيها السادة إذا كانت الأزمة الثقافية قد طالت كل الثقافات وبدون استثناء، وخصوصا بعد بروز نظام عالمي جديد، وتزايد الفجوة القائمة بين الشمال والجنوب، وتقلص المساعدات والمعونات التنموية لبلدان الجنوب، فإن هذه الأخيرة تبقى الأكثر عرضة للتفسخ والانهيار والتفكك تحت وطأة شبح العولمة، وتزايد الصراعات الإثنية والقبلية والدينية واللغوية والإقليمية، الأمر الذي يعصف بثقافاتنا العربية، وبتنوعها الثقافي، وبخصوصياتها المحلية، رغم توفر العديد من العوامل الثقافية المشتركة، كعامل اللغة والدين التاريخ. ورغم ذلك، فالوطن العربي، ليس ساكنا وجامدا، وإنما يعيش حالة مخاض شامل، تطال مؤسسات الدولة، وفضاء الحريات، وحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، إلى غيرها من القطاعات التي أصبح وجودها شرطا لازما للانخراط في العولمة. وفي هذا الإطار، لا بد من التنويه بالمشروع النهضوي الذي كشفت عنه "الخطة الشاملة للثقافة العربية"، وما تلاها من تقارير عربية مهمة حول الثقافة العربية، وخصوصا التقرير العربي السنوي للتنمية الثقافية، الأول والثاني، لعامي 2007 و2008، اللذين أصدرتهما على التوالي "مؤسسة الفكر العربي". فأمام التحديات التي تفرض نفسها اليوم على حياة مجتمعاتنا العربية، وعلى مشروعها التنموي، خصوصا أمام الأزمة الثقافية المستفحلة، التي لازالت تواجه أمتنا العربية والإسلامية، وأمام الهيمنة الثقافية والتبعية للآخر، موازاة مع الانفجار المعرفي، والثورة التقنية والمعلوماتية العالمية السريعة، وإلغاء الحدود الجغرافية؛ أمام ذلك كله، يصبح من المفروض على مجتمعاتنا العربية الانخراط في نوع من المواجهة الندية، بحثا عن أمن ثقافي، يقي ذاتنا الثقافية العربية، وهويتنا الحضارية العربية، من الهامشية والتلاشي والتدمير. غير أنه بالرغم من حالات الأزمة تلك، والتي تعكس في بعض جوانبها مدى تردي أوضاعنا الثقافية العربية، وهزالتها، فلا يسعنا، مع ذلك، سوى التسلح بالمزيد من التفاؤل والثقة في المستقبل، والأمل في تغير طرق تدبير أحوالِنا الثقافية العربية، ما دام أن ثمة كوةَ ضوء في الأفق. ومن مؤشرات هذا التفاؤل، مثلا، أن دولا عربية ذات الإمكانيات المالية، بدأت تُنْفِقُ بنوع من السخاء على مشاريع الترجمة، وتقديم المحفزات، وإحداث الجوائز. كذلك ينطبق الأمر على بعض المؤسسات والهيئات والأفراد. الحضور الكريم إن الطفرات الكبرى، والانتقال من طور إلى طور إيجابي في حياة الأمم، وفي حركات النهضة الاقتصادية والإصلاح الاجتماعي، قادها دائما فكر مستنير مستشرف للمستقبل، ورؤيا إستراتيجية رائدة، تولى تنفيذها جيل من الفنيين المتبصرين. صحيح، أن مهاما مثل هذه لا يمكن إنجازها إلا في ظل أجواء الحرية والديمقراطية والاستقرار، وهي متوفرة بنسب متفاوتة في مجتمعاتنا العربية، مع تفاوت من بلد لآخر، تبعا لظروفه. ومع ذلك فإنني أدعو، بروح متفائلة، الأنظمة السياسية العربية، والمثقفين المتنورين، إلى التحلي بقدر من الصبر والتريث، لمواجهة متطلبات التحديث، بانسجام وتعامل ذكي مع التشريعات المتوفرة، مع السعي إلى تحسينها، حتى لا يؤدي التحديث المبتغى إلى مزيد من الإغراق في التقليد والمحافظة. ومن أسبق الأسبقيات في مجال التدبير الثقافي، العمل بإرادة واضحة، على خلق الشروط الكفيلة بانبثاق أجيال متعلمة حقا؛ تمتلك رصيدا معرفيا حديثا، ووعيا نقديا بتراثها الوطني، ذاتِ قدرة على توظيف الموروث الثقافي، وإثرائه، ودمجه في مجرى الحركة الفكرية المعاصرة. سيمكن هذا الإجراء نخبَ المستقبل، إن أجدنا إعدادها، من المشاركة في ترشيد العمل السياسي بشكل عام، وضمنه الشأن الثقافي. ويتم الابتعاد عن دائرة الصراع المجاني والمزايدات الفارغة، قصد التوجه لتطوير سبل التعايش السلمي، وإرساء قيم الحرية والديمقراطية والتضامن والتعاضد الاجتماعي. حضرات السيدات والسادة لا يسمح الوقت بالتعرض إلى المظاهر الأخرى لأشكال تدبير الشأن الثقافي، في أرجاء الوطن العربي، ولا يجوز موضوعيا إصدار حكم أو تقويم أية سياسة ثقافية، وعلى ما هو حاصل في مشهدها الثقافي. لكن هذا الحذر المنهجي، لا يمنعني من القول إن التيار العام بدأ السير في المنحى المبتغى، مع تفاوت في السرعة والقوة ووضوح الطريق والرؤية. أستطيع، في هذا الإطار، أن أتحدث بعجالة عن تجربة بلدي، المملكة المغربية، بخصوص تدبير الشأن الثقافي. المغرب الذي أعرفه أكثر من غيره، يعرف تطورا متناميا في مجال التحديث والإصلاحات المؤسساتية الكبرى، بدأت تعطي ثمارها الأولى في أقل من عقد من الزمن؛ تطور يقوم على مبدأ الشراكة الشاملة بين الدولة وتعبيرات المجتمع، التي أخذت تحتل مواقع متقدمة في المشهد العام، مثل هيئات المجتمع المدني، والجمعيات الأهلية، بما يصدر عنها من مبادرات واقتراحات ودعوات جريئة، أنهت إلى حد كبير ثقافة الاتكال على الدولة في كل شيء، وحفزت الخواص على الاستثمار في المشاريع الثقافية، والميسورين على التبرع، ولو أن ذلك لازال يتم بشكل محتشم ومتردد، في كثير من الأحيان. وأمام هذه الصَّحْوة الفكرية، التي يقودها عاهلنا جلالة الملك محمد السادس، قامت الدولة المغربية بجهد كبير، فيما يتعلق بإخراج التشريعات المنظمة لقطاع الثقافة، حتى يستوعب المبادرات الخاصة، ويخفف العبء عن الدولة، التي يجب في نظري أن تركز جهودها على البنيات المادية الأساسية لأية نهضة ثقافية. ويكفي التذكير، هنا، بأن أغلب التظاهرات الثقافية المقامة اليوم ببلدي، ترعاها جهات خاصة، في إطار الاحتضان، أو بشراكة بينها وبين الدولة، إن على الصعيد المحلي أو الوطني. كذلك لابد من الإشارة هنا، إلى جزء آخر من التدبير الثقافي العقلاني في بلدنا، والإشادة به، والذي يرتكز أساسا على تدبير أحد مكونات ثقافتنا المغربية، واعتبارها جزءا مكملا ومثريا للثقافة الوطنية. ويكفي أن نشير، هنا، إلى إحداث "المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية"، و"الإذاعة الأمازيغية" و"التلفزيون الأمازيغي"، وتدريس اللغة الأمازيغية في المدارس، وذلك في إطار تعددية، تغني الهوية الوطنية والحقل الثقافي الوطني، وتخدم الوحدة الوطنية وتدعمها. ورغم ذلك، فإن المجتمع يطلب من الدولة توفير المزيد من الدعم المالي من أجل النهوض بقطاع الثقافة، ودعم المنتوج الثقافي العام، مثلما تدعم الدولة السلع والمواد الأساسية، لتستفيد منها شرائح اجتماعية واسعة. وما يجدر التنويه به هنا هو أن التعددية السياسية والفكرية، التي ارتضاها المغرب، منذ بناء دولته الحديثة، ساعدت إلى حد بعيد في إنجاح تجارب الشراكة في قطاع الثقافة . كل ما سبق يدفعني إلى التأكيد أن تدبير الشأن الثقافي لا ينحصر في تنظيم المكتبات، وترميم المتاحف وصيانتها، أي الاقتصار على الدور التقليدي الموكول لوزارات الثقافة، بل أرى أن التدبير، في معناه الشامل، أن تصبح الثقافة بمقتضاه رديفا للمعرفة والتنمية البشرية. لا بد من التأكيد ثانية، أن المال وحده لا ينتج الثقافة، بل هي الموَرِّدة للمال إذا صدُقت الإرادات الوثابة، التي تصارع المعيقات من كل نوع، وتتصدى لها، حتى يزدهر الفكر المبدع. ولهذا السبب شكل المثقفون الطلائعيون في تجارب الأمم "العين" التي تبصر بها طريقها نحو التقدم والمجد. السيدات والسادة الأفاضل أحسب أني توقفت عند بعض المبادئ المؤسسة لأي تدبير عقلاني للشأن الثقافي العربي، الذي لا يمكن أن يتحقق، مهما صدقت النيات، إلا إذا استند على أجواء الحرية، والانفتاح على القوى الحية، في الداخل والخارج. وفي هذا الصدد، أعتقد أن إعادة الاعتبار للثقافة، باعتبارها ثروة قومية، ينبغي أن يؤسس، من وجهة نظري، على دعائمِ ترسانة قانونية وتشريعات حديثة، تيسِّر التدبير الثقافي، وفق مقومات الحداثة والنجاعة التي أشرنا إليها. ومن شأن تلك التشريعات تحديد الأدوار التي ستظل موكولة للدولة، والمتمثلة في التنظيم والضبط والمؤازرة، من منطلق أداء ديمقراطي، وليس بالاعتماد على وسائل التحكم البيروقراطي الإداري. من بينها كذلك الإنصات للمبادرات الخاصة النابعة من الهوامش المحلية، ومن المجتمع المدني، والتخطيط لشراكات وتعاقدات محلية ووطنية، في أفق إنعاش الحياة الثقافية. ومن باب تحصيل الحاصل القول إن النهوض بتلك الأعباء غيرُ متيسر في ظل أجواءٍ تغيب عنها الديمقراطية، وحرية المبادرة، وخشية الإدارة من منتجي الأفكار ومبدعي أشكال التعبير الثقافي. أشكركم على حسن إصغائكم. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.