وقف عباس على المرتفع، وقد "كسا نفسه الريش على سَرَقٍ من حرير". وتطلعت الأعين إلى الرجل الطائر يفرد جناحيه للتحليق. ثم كانت المفاجأة! فقد طار ابن فرناس مسافة بعيدة قبل أن يقع على ظهره عند الهبوط. ولك أن تتخيل المشهد في القرن التاسع الميلادي بقرطبة؛ إذ يقفز العالم الموسوعي من الجرف العالي موقنا بقدرة الإنسان على التحليق والطيران. ولم يكن "حكيم الأندلس"، كما تسميه المصادر، مجرد مغامر يبحث عن الأضواء، بل إنه عمد قبل المحاولة التاريخية إلى دراسة حركة الطيور في السماء وثقل الأجسام وضغط الهواء ومقاومته. وحين اقتنع بجدوى حساباته، لبس الجناحين وجمع الناس، ثم قفز! والراجح أنه أصيب بكسور لم تفض إلى وفاته، بل عاش بعد ذلك أعواما أخرى يكتب الشعر، ويلحن الموشحات، ويعزف على العود، ويخترع الساعات المائية، ويعد الآلات لمراقبة الكواكب، ويصنع الزجاج من الحجارة، ويستخرج الأدوية من الأعشاب، ويعرض أقلام الحبر الأولى في تاريخ الإنسانية! ليس ذلك فحسب، فقد كان صاحبنا مهندسا معماريا. كما أجاد اللغة اليونانية، ومنها نقل كتب الموسيقى إلى العربية. وفي بيته، صنع قبة على هيئة السماء، تدخل إليها فترى–رأي العين-نجوما وغيوما ورعدا وبرقا. أما هو فيستدعي انبهارك بظواهر الطبيعة إذ يحركها بواسطة آلات صنعها في بيته، كأنما هو في "قمرة البث" يرسل الصور عبر التلفزيون وأنت وراء الشاشة تتابع في اندهاش! ولولا أن محاولة الطيران كانت وراء شهرته لكان يكفيه أنه لمَّ الإبداع الإنساني من طرفيه، وهما جانب فنون القول والموسيقى، بما فيها الشعر والعزف والتلحين، وجانب علوم الطبيعة والفلك والطب والهندسة والاختراعات. فكأنه قد مزج الإحساس الفني بالمنطق العلمي في توليفة عجيبة أنتجت عبقريةً بذكاءين، هما ذكاء العقل وذكاء الوجدان. وفي بداية القرن العشرين، صنع الأخوان رايت أول طائرة مزودة بمحرك. وخلال التجارب، كانا يأخذان خمسة نظائر من معدات الأجزاء، لأنها عدد المرات التي سيتحطم فيها نموذج الطائرة! وبعد محاولات مضنية من عاشقي الميكانيكا، حلقت الطائرة وتغير مجرى التاريخ. ويتساءل الكاتب الأمريكي سيمون سينيك لماذا استطاع الأخوان رايت اكتشاف كيفية إقلاع الطائرة ذات المحرك الواحد، فيما كانت هناك فرق أخرى مؤهلة أكثر وممولة بشكل أكبر لكنها لم تستطع تحقيق حلم الطيران مثلما فعل الأخوان رايت؟ وهذا سؤال وجيه. ولعل عند سلفهما عباس بن فرناس عناصر إجابة. إنه–على الأرجح–شيء لا يرتبط بالإمكانيات المادية المتاحة، بقدر ما يتصل بحجم الشغف الذي يدفع والباعث الذي يحرك. ومن هنا تبدأ فصول النجاح، كما يقول سينيك. وفي ذلك الوقت، أي في بدايات القرن الماضي، كان السعي حثيثا لاختراع "الآلة التي تطير". وانكبت العقول العلمية النيرة على البحث والتجريب-مدججة بالشهادات العلمية والإنجازات الفكرية-وسط اهتمام إعلامي متزايد. ولكن أحدا من أولئك لم ينجح في اختراع الآلة الطائرة. فكيف نجح إذن فريق الأخوان رايت (بلا أي شهادة جامعية لأي منهما) في تحقيق ما فشل فيه الآخرون؟ ومن عجب أن كل مقومات النجاح كانت متوفرة لدى منافسيهم، أعني "وصفة النجاح" بما تعنيه من خبرات وكفاءات ودعم وتمويل. أي سر في هذا الحدث الذي صنعه فنيا الدراجات الهوائية أورفيل وويلبر، فغير وجه العالم؟ إنه يكمن في كلمتين: قوة الشغف!