امتدت يدي إلى الرف تبحث عن عنوان جديد، فتشممت العطر النافر من الكتب. وإنه ليبعث في ذهني نشوة أشبه بالخدر اللذيذ. وطافت عيناي أرجاء المكتبة الواسعة حتى أعياها الطواف. ثم بدا لي أن أقف قبالة مصفوفة كتب متوسطة الحجم.. وقرأت على غلاف الكتاب: توفيق الحكيم. وقد كانت أولى قراءاتي للحكيم. ولعلها إحدى مسرحياته.. وأنا لا أذكر عنوانا بعينه، لأني قرأت كل ما حوت الخزانة البلدية من مسرحيات هذا الكاتب وخواطره ونقدياته!.. ولئن حق لي أن أقول، فإنني أزعم أن حيزا واسعا من ثقافتي وميولي وشخصيتي إنما هو صنيعة هذه المكتبة بمدينة تاوريرت، على ضفاف وادي زا. وفي ذلك كتبت.. قبل اليوم: كانت الانعطافة الكبرى في حياتي يوم اكتشفتُ المكتبة البلدية. في ذلك المساء، كنا نحتفل بنهاية السنة داخل الفصل الدراسي. وضعتُ ليمونادتي على الطاولة، وجعلت أنظر إليها ولا أجد إلى فتح سدّادتها سبيلا. وفتحتها بعد لأْي، لكن المعلم استشاط غضبا. وقد عدّ سبقي إلى الاحتفال إهانة لسلطته داخل القسم. وما كان هذا الاحتفال سوى قارورة ليمونادا وقطع بسكويت ثم انتهى! وسرعان ما طوينا صفحة الليمونادا والبسكويت، وشرع المعلم يحدثنا عن قصص الأطفال المتداولة آنذاك. في تلك الأثناء، التقطت أذني ما لا يزال قابعا في ذاكرتي العميقة: ثمة مكتبة بلدية لا تبعد كثيرا عن المدرسة. وي! ونقرأ فيها الكتب مجانا! وقد كانت كلمةً لم يلق إليها المعلم بالا صنعت مني ما أنا عليه اليوم. ثم شعرت بأن حوصلتي أكبر من قصص الأطفال. وسألت القيّم على المكتبة سؤالا طفوليا لا يزال يرن في أذني: - أبحثُ عن كتب تنتمي إلى "الثقافة المتوسطة".. وكنت أقلب النظر في الكتب المعروضة على الرفوف فلا أرى سوى كتبا ضخمة يدوخ رأسي بمجرد النظر إليها، ثم ألقي بصري على طاولة مستطيلة فأرى قصص أطفالٍ لم تشبع نهمي إلى المعرفة وتذوق الجمال قطّ. ولذلك، سألت القيّم ذلك السؤال الطفولي، الساذج والعميق في آن، عن "الثقافة المتوسطة" البعيدة عن طلاسم الكتب الكبيرة وعن سخافات قصص الأطفال. وكنت أخجل - وأنا الطفل الصغير – أن أزاحم الكبار في قاعة القراءة، فأتخذ مكاني قرب مكتب القيّم. وكان وقورا تبدو عليه سيما المثقفين. وقال الرجل، وهو يضغط على الكلمات: - ابحث بنفسك - ولوحدك - عن الكنوز الكامنة في بطون الكتب. ثم اكتشفت رف الأدب. وجعلت أستل الكتب منه. وكان أول لقاءاتي الأدبية مع مسرحيات توفيق الحكيم. ولقد أنستني نشوة القراءة خجلي، فصرت أزاحم على المقاعد في قاعة القراءة، غير آبه بالكبار ولا بالصغار. وكانت إضاءة القاعة الطبيعية تضفي سحرا خاصا على المكان. وكان خيالي يشتعل، فأتحرر من كثافة جسدي وأخالني روحا هائمة تعيش مع شخصيات الحكيم. وقرأت الروايات، ففرحت وحزنت، وضحكت وبكيت. وشعرت، حقا، بأنني إنسان.. وكنت أقول، كأنني أخاطب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وغيرهم: - سأكتب يوما مثل ما تكتبون..