لا يزال موضوع التصوف يجذب إليه عموم الباحثين في أوراش العلوم الإنسانية والاجتماعية، وتغتني مساهمات هؤلاء برؤى منهجية تستجلي حضور الرمز والفعل في تصوف الشخصية المغربية، وتكشف ما تُسميه التاريخيات المعاصرة اليوم ب"التميز الروحي". ينصرف القصد هنا إلى الحديث عن تميز خاص جداً، صهر معاش المغاربة لتحقيق غايات ومقاصد الاجتماع البشري. وهو تميز يجعل من "مملكة الأولياء"، كما يشاع عنها بين المشارقة، متفردة روحياً وعقدياً، ويُؤهلها لتدبير إرثها الصوفي والعقدي وفق ما يُعرف باستراتيجية تدبير "الأمن الروحي"، بما هو إرث غني ومتعدد، يسمو فوق كل أشكال التطرف والانغلاق، ويُؤسس لثقافة الاعتدال والوسطية. تبعاً لذلك، كيف تُلتقط اليوم عودة الباحثين في حقل التاريخ والعلوم الإنسانية إلى إعادة استنطاق بنية الخطاب الصوفي المغربي بتشكلاته الأدبية والرمزية؟ كيف يمكن إعادة استنطاق المريدين الأوائل في محاولة لجم سلوكيات ما بعد الحداثة؟ كيف يمكن نقل التجربة الصوفية من عمق السياق نحو قوة الرمز والدلالة؟ وهل يمكن توظيف التصوف ليكون بديلاً عن تصحر السياسة وبرغماتية منستبيها؟ هل ثمة فروق بين تصوف أهل البادية وأهل المدينة؟ من حيث الاهتمام، يعود منعطف القرن السادس عشر الميلادي في المغرب إلى لحظة الاهتمام الأجنبي بسجل التصوف المغربي. من تلك اللحظة، بدأ التصوف يحضر ضمن شبكة تحليل تاريخ المغرب، وبدأ يُدمج ضمن الثالوث الفاعل في مسار صناعة التاريخ المغربي. والحديث عن بدايات الاهتمام يحيل إلى أسماء بعينها، مثل هنري تيراس وميشو بليير وجورج دراغ وبول أودينو وغيرهم. عموم هذه الاهتمامات أفرزت أطروحتين أساسيتين قد جسدتا نوعاً من التناظر التاريخي حول المنجز الصوفي المغربي: أطروحة الاندماج: التي دافع عنها كل من ميشو بليير وهنري تيراس وجورج دراغ، تنتصر هذه الأطروحة إلى أن تاريخ المغرب ككل لا يكاد يعدو سوى تاريخ الزوايا، وهي تقرن نشأة الدول الكبرى بالمغرب بالأضرحة والمارابوتيزم (Maraboutisme). أطروحة الاندماج التي دافع عنها هؤلاء قرنت بين السلطة والزوايا. أطروحة التمايز: التي نافح عنها بول أودينو، والتي تعتبر أن نشوء الزاوية يتم بفعل التناقض الحاصل بين المجتمع والسلطة، ومن ثم تظهر الزاوية كتجربة بديلة عن تحلل السدى الاجتماعي وتفسخ السلطة. من دون شك، يرتهن التصوف المغربي بقيم الصلاح والخير والإحسان والتكافل تارة، وتارة بالنزوع نحو النفوذ السياسي في لحظات الفراغ السياسي، وهو ما تشي به قراءة سريعة لتاريخانية التجربة الصوفية المغربية في علاقتها بالمخزن السياسي منذ بدايات تشكلها. علاقات تُوسم بالشد والجذب، بالمد والجزر، بالتعايش والتصادم، وهذه الثنائية واحدة من إواليات التجربة التاريخية المغربية بالأمس كما اليوم بتصور مختلف. هناك تفصيل أساس تفصح عنه تجربة المقدس المغربي، يكاد يمثل تماثلاً بارزاً ضمن هذه التجربة التاريخية، مؤداه أن التصوف بما هو خطاب وممارسة وتطلع سياسي ينتعش في لحظات الأزمة. أليس مغرب الأزمات العميقة في القرن السادس عشر هو من كان وراء بروز الحركات الدينية الطامحة إلى العرش؟ أليست لحظة الاصطدام مع الآخر الحداثي خلال القرن التاسع عشر هي من كانت وراء تبلور أزمة الضمير الروحي، وانتعاش الخطاب الصوفي الرافض للمدنية الأوروبية؟ بنفس المقياس، العودة إلى الروحي اليوم، والتمسك بترائبه، تتساوق مع تحلل السدى الاجتماعي، وتصحر الفعل السياسي، واستبعاد الفكر العقلاني، تحت تأثير ضربات عولمة الحياة الإنسانية. هكذا يظهر التصوف لصيقاً بزمانية الأزمات العميقة، حيث تصبو الذات البشرية إلى أن تتحصن من جاذبية المجون والظلال، من الفتنة والإغواء، من الغريزة والشهوة. إنه، كما يسميه علماء النفس، أشبه بعملية الكاثارسيس (التطهير)، محاولة التطهر والنقاء، والعودة بالنفس إلى صورتها الأولى. وفي تصوري، هو ما يجعل عملية تفكيك بنية الخطاب الصوفي مرتهنة بالحاجة إلى تفعيل الدرس التاريخي واللساني والسيميائي والأنثروبولوجي ضمن رؤية منهجية متكاملة. يجب أن ننطلق من فرضية أن الكرامة الصوفية تجسيد لولادة طبيعية وشرعية لمجموع تلك الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي عاركها المريدون الأوائل من أجل التغيير. إنها تأتي في سياق الإجابة عن نوازل تاريخية تهم الفرد والجماعة، رغم طابعها التخييلي الذي يبعدها أحياناً عن التصديق بحكم انطلاقها من معين التصوف الشعبي، أو ارتباطها بالمخيال الاجتماعي الشعبي الغارق في الميتولوجيا. لكن وجب التنبيه إلى أن التجربة الصوفية المغربية اهتمت بتحرير الفرد أكثر مما اهتمت بتحرير المجتمع والسلطة. تجربة تضع الفرد منسلخاً عن واقعه، ومنغلقاً على ذاته، وهو ما جعلها لا تُحاسب الظلم والاستبداد، ولا تتشابك مع القهر الاجتماعي والاقتصادي، بقدر ما كانت تخلق انتصاراً وهمياً على كل مظاهر القسوة الواقعية. لهذا السبب ظلت انتصاراتها محصورة في دائرة اللازمان، مرجئة الحساب والنقد إلى يوم البعث. (عبد الله بن عتو، التصوف المغربي: من عمق السياق إلى قوة الدلالة، ص 309). وبقدر ما يتراءى للبعض أن التصوف مجرد سلوكيات دينية يمارسها المريدون، تعبر عن رفض للواقع ومحاولة للتعالي عنه، فإنه يحبل من جهة ثانية بالطموحات السياسية التي يعبر عنها شيوخ الزوايا من حين لآخر حسب تموجات الواقع السياسي. هذه القضية بالذات، لحظة الانتقال من مؤسسة دينية مكلفة بأدوار روحية واجتماعية إلى مؤسسة ذات طموحات سياسية تنازع المخزن شرعيته، تظل مثيرة للانتباه في الزمن التاريخي المغربي، وعلامة فارقة في تاريخ التصوف المغربي، حيث الزوايا تتزيا بعباءة السياسة، والسياسة تتزيا بعباءة المقدس. توازن هش لكنه ظل فاعلاً في مسار التاريخ ومحركاً له. يُبدي المريد داخل نسق الزاوية استعداداً خاصاً للتعالي عن الحياة، والاستعداد للانصهار في الذات الإلهية. عليه أن يظهر جدية فائقة في تعلم الطقوس الروحية، أن يجعل جسده خاضعاً لجدبات وشطحات الحضرة. إنه انتقال من رفض للواقع بسلطويته الفجة، نحو سلطوية روحية جديدة، تضع الشيخ متعالياً عن باقي الأجساد الأخرى، وفق ما يؤسس له الفيلسوف الألماني إرنست كانترفيتش في كتابه المرجعي "جسدا الملك" (The King's Two Bodies). هروب من عالم مفروض إلى عالم متخيل، من أجل خلق نوع من الموازنة بين الواقع والمخيال. يشدد بعض الباحثين على أن مظاهر التصوف كالزهد والإفراط في الاختلاء بالنفس، والابتعاد عن الخلق، تمثل تجسيداً لألوان التعذيب النفسي على الذات، والتلذذ به عن طريق إكراه النفس على الجوع والمكابدة (عبد الله بن عتو، التصوف المغربي: من عمق السياق إلى قوة الرمز، ضمن مجلة المناهل، الزوايا في المغرب، الجزء الأول، عدد 80-81، فبراير 2007، ص 308). حيث تصبو الطرقية إلى البحث عن معنى للوجود، إلى إعادة الأمور إلى سابق عهدها، عبر التعالي عن الحياة اليومية، والانصراف نحو ما هو روحي طمعاً في الاتحاد بالذات الإلهية. يفيد الزهد برفض الوضع القائم، وعدم مجاراة العامة في نوازلهم. إنه سلوك فردي يختلف من زهد النخب العالمة إلى زهد العوام، بحثاً عن البديل والخلاص الدنيوي. هو يحيل داخل نسق العلاقات الدينية على هيرارشية بين الشيخ والمريد، حيث المشيخة تتطلب موهبة، وقدرة فائقة على التدبير، وكاريزما خاصة، وكرامات تشفع أمام الناس، إضافة إلى تكوين عميق في علوم الدين. وهو ما يجعل الشيخ يحوز سلطة مغلفة بالمعرفة، وبالسلطة أيضاً. فبعض الزوايا تبادلت المصالح والمنافع مع المخزن وفق مبدأ رابح-رابح. ولعل الملاحظة المثيرة للانتباه هي قدرة الزوايا على التعامل مع الحماية. فماذا يعني ذلك إن كان لا يعني سوى استناد الديني داخل الاقتصادي في خدمة السياسي. تبلور الطرقية ضمن المشهد التاريخي المغربي تجسيد لهزة وجدانية عنيفة تجاه الواقع، وتمثيل لرد فعل مجتمعي من صيرورة التحولات الجارفة. إنه، بتوصيف الباحث المغربي عبد الجليل حليم، رد فعل إزاء الأنوميا (حالة عدم الاستقرار والقلق من التحولات المفاجئة التي تعصف بالرصيد الأخلاقي للمجتمع). وبالتالي، يعدو اعتناق الطرقية من طرف بسطاء المجتمع ومهمشيه تعبيراً عن رفض التسلط والقمع والقهر من ناحية، وقبوله في شبكة النسق الديني من ناحية ثانية. وتلك أحد مفارقات السلوك الصوفي بمغرب الأمس. تفصح التجربة التاريخية عن تصادم بين الفقه والتصوف، تتأرجح بين المهادنة والمغازلة حينا، وبين الحوار والعنف حينا آخر. فالفقيه كان ينظر إلى المتصوف على أنه مارق عن الدين، خارج عن جادة الصواب، قائد للهلاك البشري، بينما المتصوف ظل يطعن في سلطة الفقيه، ويرميه بالانحراف، وبالارتماء في حضن السياسة وتلاعباتها. ونفس المعادلة تنسحب على علاقة المتصوف بالسياسي. فقد أوثر عن الغزالي قول في هذا السياق: "أن الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك". ما يشد الانتباه في الخطاب المنقبي هو إيغاله في لعبة الترميز. بل الترميز يكاد يكون أحد مرتكزات نظام التفكير الصوفي وبنيته الدلالية. فبدون توظيف الرمز تبدو المنقبة عبارة عن نص ركيك، فارغ من أي مغزى تاريخي، وغير منسجم مع واقعه التاريخي. وهو ما يفرض التسلح بأدوات الأنثروبولوجيا الرمزية، التي بإمكانها أن تنأى بالباحث عن تلك القراءات العصابية أو حتى التبجيلية، وتُقول الكرامة التي هي في النهاية إفراز لواقع اقتصادي وجماعي وسياسي ما لم تقله، أو تحملها ما لم تتحمله. عليه، دراسة مبحث المناقب يتضمن الإحالة على مجال ذهني واسع ومركب، جِماع سلوك وتفكير وممارسة تنهض على الفعل الخارق لنواميس الكون وقوانين الطبيعة. تتغذى على فجوة الأزمات وأشكال التسلط والقهر والتدهور الاقتصادي والأوبئة. باختصار، المناقب بما هو خطاب روحي، خطاب أزمات، وجزء من مبحث تاريخ العقليات والذهنيات الذي لا يزال في طور التشكل أكاديمياً. بيبليوغرافيا: 1- التوفيق أحمد، التصوف بالمغرب، معلمة المغرب، الجزء السابع، ص 2391-2396. 2- حجي محمد، الزاوية، معلمة المغرب، الجزء 14، ص 4602. 3- الزاهي نور الدين، الزاوية والحزب: الإسلام والسياسة في المجتمع المغربي، افريقيا الشرق، 2001 4- عبد الجليل حليم، الزاوية والتصوف/ عودة الروحي أم النزوع إلى النفوذ السياسي، ضمن مجلة المناهل، الزوايا في المغرب، الجزء الأول، عدد 80-81، فبراير 2007، ص 9- 21. 5- عبد الله عتو، التصوف المغربي/ من عمق السياق إلى قوة الرمز، ضمن مجلة المناهل، الزوايا في المغرب، الجزء الأول، عدد 80-81، فبراير 2007 ص 291- 311. 6- محمد مفتاح، الواقع والعالم الممكن في المناقب الصوفية، ضمن كتاب جماعي التاريخ وأدب المناقب، منشورات عكاظ. 7- Berque J, Uléma, Fondateurs, insurges du Maghreb 18 siècle, édition, Sindibad, 1982. 8- Hammoudi A, Maitres et disciples, Maisonneuve et Larose, édition Toubkal, 2001. 9- Wach J, Sociologie de la religion, édition Payot, 1955.