أعرفني عاشقا للمسرح منذ طفولتي. وإنما ولد هذا الشغف خيالاتٍ في الكتب قبل أن يستحيل عروضاً على الخشبة. ولعل المكتوبَ يفوقُ المرئي سحرا، وإن كان لكل منهما شروطه وأدواته وتقنياته. ولكنَّ ما يقع تحت البصر-على المسرح أو في الشاشة–يقيِّد حركة العين ويمنع انطلاق الخيال. وأنت ترى حين تغمض عينيك – في لحظات صفائك– أجود وأعمق من رؤيتك والعينان مفتوحتان. وفي عصر التكنولوجيات، ما يزال الناس يقرؤون الكتاب ويستمعون إلى المذياع. وهما -معا- وقودٌ للخيال المحفز على الإبداع، على أن للمسرح تفرُّده الخاص بين كل الفنون. وأنت تقرأ المسرحية في كتاب وتشاهد فصولها على الخشبة، وليس ذلك متاحا في الرواية حين تحول إلى فيلم سينمائي، فإنها تصبح شيئا آخر كأنما تقفز في الفراغ. وقد كان نجيب محفوظ يقول إن ما يعنيه هو نصه المكتوب، أما السيناريو المستقى منه فهو نص آخر يعني كاتبه والمخرج في المقام الأول. والرواية الجيدة قد لا تصنع –عند تحويلها إلى سيناريو– فيلما جيدا؛ إذ إن كتابة الرواية عمل فني فردي، أما السينما فصناعة قائمة. ولكنني أقول إن الحدود الفاصلة بين الأجناس الفنية بالغة الهشاشة، وأزعم أن ملاك الأمر كله يكمن في تملّك التقنيات العابرة للأجناس الإبداعية، على أن تضيف إليها نفسك! ولعلك تلاحظ أن كتابة الرواية لا تستدعي–في الظاهر–سوى قلم وأوراق. أما كتابة السيناريو، فإنما هي مهنة ضمن عشرات المهن في الصناعة السينمائية. ولذلك، فإن السيناريست سينمائيٌّ أولا، ينبغي أن يعرف حركة الكاميرا ويفرق بين أحجام اللقطات ويفهم تقنيات الإضاءة وشيئا من المونتاج والتقطيع... وهلم جرا. ولهذا الأمر – ربما – فشل روائيون كبار في كتابة سيناريوهات ممتعة ومقنعة في الآن ذاته. ولعل سبيل النجاح يكمن في الإدراك العميق لأساليب "الإمتاع" الفني. أعني–ببساطة شديدة–أن يعرف الكاتب والسيناريست كيف يحبس أنفاس المتلقي. والحكاية شأن إنساني قديم. وهي مصدر متعة وإلهام. وقبل 25 قرنا من الآن، تحدث أرسطو عن الحبكة، وهي الأساس غير المرئي والسر الذي يجعلك مشدودا إلى العمل الإبداعي من بدايته إلى نهايته. وإنما تقوم هذه التقنية على ترتيب الأحداث الواردة في الفيلم أو في الرواية ترتيبا منطقيا وسببيا، ثم أشرِع نوافذك على عوالم الحلم والخيال! دعك من محاولات التجريب الحديثة من خارج هذا القالب الفني، فإنما هي محاولات بعضها جاد ولكنها تفتقد إلى الإمتاع والتشويق وشد الأنفاس وتستعيض عن ذلك بتطويع اللغة والنحت فيها. وهذا شأن الباحثين، لا المبدعين! ولحديثنا الفني بقية...