لعلَّ أهمّ ما مَيَّز تجربة الراحل الفنان (أبي) الطيب الصديقي هو تلك الرَّغْبَة العارِمَة في التَّحَرُّر من الأشكال المسرحية القديمة، أو من المسرح، كما كان سائداً قبلَه، أو حتَّى في زمنه. فهو رغم دراسته في فرنسا على يَدِ كبار مُعَلِّمِي المسرح، في العصر الحديث، ورغم أنَّه تلقَّى دروس الإخراج والتمثيل، من هذا الغرب الذي كان نموذجاً، في ما عرفَه المسرح من جُرْأةٍ في اخْتِلاق منظوراتٍ جديدة لهذا الفن القديم، فهو لم يَبْقَ مَشْدُوداً لهذا الغرب، ولا لنظرياتِه، طويلاً، بل اسْتطاع، في فترة وجيزة، أن يَخْرُج من مرحلة الاقتباس، والترجمة، أو التَّوْليف، إلى مرحلة التأمُّل، والبحث، والتأليف. الذي اسْتَغْرَق (أبو) الطيب الصديقي هو مشروعه الشَّخْصِيّ، توقيعُه الخاص، وبَصْمَتُه هو كمَسْرَحِيّ مغربيّ عربي، وهو ما انْتَبَه إليه جاك لانغ في كلمته التي كتبها عن الصديقي. السؤال الذي، ربما، كان أرَّقَ الصديقي، أو شَغَل ذِهْنَه، هو: «ما الشكل الذي يمكنه أن يجعل هذا التوقيعَ مُمْكِناً، أو يجعل المسرح يَتأصَّل في تُرْبَةٍ لم يكن المسرح ضمن ما تَهْتَمّ به، باعتباره فُرْجَةً؟». سيُدْرِك الصديقي أنَّ في هذه التُّرْبَة ذاتِها ما يُمْكِن أن يكون بُذُورَ أشكالٍ مسرحية جديدة، وأنَّ الفُرْجَةَ والاحتفال موجودان في كثير من الطقوس التي مارَسَها المغاربة عبر تاريخهم، وكانت جزءاً من تراثهم الشعبي، أو جزءاً من الثَّقافة المغربية، التي تشَكَّلَتْ في هذا السِّياق. وهذا ما جعل الصديقي، في بَحْثِه، يَنْتَبِه إلى أنَّه في طفولَتِه كان شَغُوفاً بالفُرْجَة في مدينته الصويرة، التي منها تَحدَّرَ، في «الحَلْقَة» بشكل خاص. فالمُدُن المغربية العتيقة كُلُّها كانت تَحْفَل بهذا النوع من الاحتفال والفُرْجَة الشَّعْبِيَيْن، ما سهَّل على (أبي) الطيب الصديقي، أن يَجِدَ في «الحَلْقَة» و «البساط»، مثلاً، الطَّريق المَلَكِيّ لِلْمَسْرَح الذي كان يرغبُ فيه. لا يمكن لأيّ شخص يَرْغبُ في «التَّأصِيل»، في المسرح، أو في غيره، من أشكال الفُرْجَة، أن يَفْعَل هذا، دون أن يكون، أوَّلاً، مالِكاً لِزِمَام المسرح، في أصوله، وفي أهم قواعده، وأسَاسَاتِ بنائه، في الإخراج، كما في التمثيل، وأيضاً، مُثقَّفاً مفتوحاً على التراث الشعبي والعالِمِ، وعلى غيره من الأشكال التراثية التي كانت تخرج من الحِسِّ العام المُشْتَرَك بين المغاربة، بمختلف طبقاتهم، وانتماءاتهم الجغرافية، في الاحتفال، أو في طقوس هذا الاحتفال، وفي اللباس، وفي تأثيث الفضاءات، وفي الإيقاعات المختلفة، وأشكال الغناء، أيضاً. والصديقي كان، بثقافته المزدوجة، وبحِسِّه الفَنِّيّ الاخْتِلاقيّ المُبْدِع، وبجرأته في كَسْر الحُدود، وفي الابتكار، وتحرير الأشكال من نمطيتها، وتَعَدُّد مواهبه، واستعداده للعمل بأكثر من يَدٍ، وبأكثر من عَيْن ورأس، وهو ما سَيجعل من عَمِلُوا معه يعتبرونه «دكتاتوراً»، وهو ما كان كتبه الراحل العربي باطما في سيرته، يتدخَّل في كُلِّ شيء، ولا يترك شيئاً يخرج من يَدِه، لأنَّه، كما تأكَّد في ما بعد، كان يحرص على وضع أُسُس مسرحٍ، لا عَهْدَ للمسرح به. فحتَّى الذين عملوا معه، كممثلين، وَجَدُوا أنَّ التمثيل، مع الصديقي، يفرض الخروج من جَسَدٍ إلى جَسَدٍ آخَر، ومن ملامح وديكورٍ ولباس إلى ملامح وديكور ولباس لم يعْهَدُوه، ولم يكُن وارِداً في خيالهم. إنَّ الصديقي كان يُوَظِّف في مشروعه المسرحي الفني الكبير كل أشكال الفن، والمعرفة، لتحقيق الفُرْجَة، من منظور مُغايِرٍ، فيه إحْداث وابتكار، وفيه تحرير للمسرح من المسرح، لوضعه في سياق الفُرْجَة التي هي «إمتاع ومؤانسة»، كما فعل مع التوحيدي، ومع بديع الزمان الهمداني، وسيدي عبد الرحمن المجدوب، وغيرهم، ممن وَجَدَ فيهم الصديقي ما يَسْعَفُه في بناء هذه الأسُس، أو الأساسات التي باتَتْ اليوم معروفة بالطيب، والطيب معروف بها. في مسرحياته وظَّف الغناء، والأدوات الموسيقية التقليدية، ومجموعة «ناس الغيوان» خَرَجَت من مسرحية «الحرَّاز»، التي لعب فيها بوجميع والعربي باطما أدواراً مهمة. كما وظَّف التشكيل والخط، وهو خطَّاط، له أعمال كاليغرافية، جُدْران بيته تزخر بالكثير منها، وقد استعمل الكاليغراف حتى في اللباس. ومن بين الأمور التي جعلت الصديقي يكون مفرداً بصيغة الجمع، هو جمعُه بين التأليف، والإخراج، والتمثيل، وصناعة الديكور، أو وضع تصاميمه، والملابس، فهو كان حين يكتب النص، يُخْرِجُه، في ما هو يكتبُه، ويضع له كُل سيناريوهات الإنجاز. مَثَّل الصديقي بالفرنسية، بلغة موليير، كما مثَّل بلغة الضَّاد، لا فَرْق، فهو في الحالَتَيْن حَرِصَ على أن يكون هو نفسُه، بنفس إيقاعاته وألوانه. كما كتب باللُّغَتَيْن، وله أعمال منشورة، بينها روايته «موغادور فابور». من يقرأ النصوص المسرحية التي كتبها الصديقي، سيكتشف أنَّ الصديقي، بقدر ما كان يكتب بلغة عربية فيها شعرية وعمق لغوي وتصويري بديعَيْن، بقدر ما كان يستعمل العامِّيَة، في سياق السخرية التي كان يقتضيها السياق، أو كانت جزءاً من مشروعه النقدي السَّاخِر، ولو بنوع من السخرية المُرَّة السوداء، التي توازي ما نُسَمِّيه، بحكم العادة، السُّمّ في العَسَل. سيبدو الصديقي، في فيلمه الوحيد «الزّفت»، مسرحياً أكثر منه سينمائياً، لأنَّ من عرفوا مسرح الصديقي رأوْا في كثيرٍ من لحظات الفيلم بعضاً من مسرحيات الصديقي، أو من تقنيات عمله، ومن ذلك الدَّم الشخصي الذي بَثَّه في مشروعه الفني الكبير. لم يكن الفيلم بذلك النجاح الكبير، لكنه كان اسْتِكمالاً لمشروع الطيب المسرحي، لكن هذه المرة، في مساحات أوسع، وفي فضاء، سيعرف الصديقي كيف يَسْتَثْمِرُه، خُصوصاً حين شَرعَ في إنجاز «الملاحم»، ذات الطابع الوطني، بعدد هائل من الممثلين، وبمخرج واحد، هو الصديقي، الذي كانت تجربتُه قد بلغت نُضْجَها، ووصلتْ إلى ذِرْوَة الحُلُم الذي كان هو ما يأْكُلُه في نومه، كما في يَقَظَتِه. الميخالي "سيرة المهجّرين بين الأسماء" …حين تمتلك الذاكرة الجرأة الكافية والقناعة الشافية لفتح صفحات الماضي لقراءتها قبل طيّها، كما هي في معدنها الخام ومادتها الغفل دون رتوشات طمس أو مساحيق تناس، حينها يحصل الانتقال من الندوب إلى الجراح الأصل في تفتقها المتعفن وعلل ألمها الحاد والحي، فينسحب الرقيب الاجتماعي وتختفي أناه الأعلى، فتشرع الأذرع لضمّ حنان الألم والمعاناة، تلك الراقدة في جحيم البدء المستعر، لإعادة الإحساس بها وجعا يسكن المفاصل في كتابة تتداعى فيها النقط والفواصل، ويشدّ أزر بعضها بعضا، علّها تحدث التطهير اللازم. كتابة تدوّن الكلام المباح وقد أذن له الصباح بالاسترسال في القول دون خوف من الكلمات. بهذه الذاكرة المفتوحة على مصراعيها انبرى عبد الرحيم ناصف ومصطفى ستيتو لكتابة «سيرة المهجّرين بين الأسماء»، سيرة الطفولة المعذبة بين ردهات «الجمعية الخيرية – الدارالبيضاء- المغرب»، وهي السيرة المحمّلة بالدمع والألم والأنين والحرمان وأخيرا السخرية من عبث الأقدار بين الأشباه وهم كثر، أولئك الذين وجدوا أنفسهم دون مقدمات بين جدران باردة عالية تعلو بكثير عن قاماتهم الصغيرة جدا، والتي بالكاد تسمح لهم باجتياز العتبات السفلى باستحياء خوفا من صفعة طائشة أو ركلة رعناء تفجّر حقدا وخيبة من واقع مزر يطال كل المعطوبين، يقول المؤلّفان بصوت واحد: « …ونحن كنا البعيدين كل البعد عن نموذج الإنسان السوي». ذاكرة متوثبة لسيرة بمذاق مر عاشها المؤلّفان بصمت تفرضه الجدران، ثم لما أشتدّ عودهما أعاداها سردا مجرّدا من نفاق الحياء ورياء الخجل، تعرية يمارسها القلم ويعانقها الكبد الممزّق تسجيلا صادقا لمنعرجات العنف في دور الخير والإحسان، فكانت السيرة وضع الأصبع الصغير على تكبير المفارقة بين يافطة الحنان وليل الطفولة البئيسة حدّ اليأس بفعل فاعل يتقن لعبة التمويه، فهما ليسا مهاجرين، بل «مهجّرين»، ليسا فاعلين بل مفعول بهما، غير مخيّرين بل مجبرين، تقودهما بقهر أفعال لا يد لهما فيها. جرمهما الوحيد أنهما لا خيار لهما إلا الشارع المتغوّل وهو يمارس بلا شفقة اغتصاب الطفولة، وهنا يصبح العقاب متسوّلا يبحث بلهفة عن جريمته بقلب واع للمعادلة الجنائية المألوفة. بين الاسم البرّاق والسيل الجارف من المعاناة، والصمت المفروض بحدّ السيف والضرب المبرح كانت الملائكة قد أدخلت بجور إلى الجحيم، يقول المهجّر الأول: « نبرة الغضب التي صرخ بها أجفلت «الصحاح» الذين كانوا يعلّقونك في الفضاء، صوت الارتطام على الأرض، الصراخ، ثم الركلات التي تنهال عليك بعد الركل والرفس جاء دور اللكمات، تنهال وتنهال وتنهال…»، هو التفنن في أشكال من التعذيب لأطفال صبية طرية من طرف «مربّين» احترفوا ممارسة السادية المقدسة بما هي سلوك عدواني لتقويم الاعوجاج ب «العصا الخارجة من الجنّة». إنه عبر تناوب بين ضمير المتكلم وضمير المخاطب، وعيا من المؤلفين/ الساردين أن «الأنا» في السيرة الذاتية هي «آخر» يخوّل المسافة بين المعيش والمحكي، ظلّ الكاتبان على طول السيرة يحترفان السرد دون الوصف. سرد مكثف يسمح ببوح الذاكرة الموشومة شلالا من الوقائع المتتابعة تتابع الركلات على جسد الطفل الذي كاناه، وهو يحلّ ب «الخيرية» وبين الأسماء عار إلا من اسم اجتهد في وضعه المجتهدون في وضع الألقاب بما يتماشى وأمزجتهم. جسد بريء تتقاذفه الأرجل لا يحتمل شغبه حتى إذا أطعمناه كان ذلك من باب الخير الذي ليس حقا له، إنما هو «خير» يجود به «عمر» إذا جاد الله، من هنا كان يتمتع اللاجئ في كل فصل باسم … أسماء جريحة تمزّق الهوية وتفتحها على المجهول مع كل ارتقاء من سلك دراسي لآخر، غير أنه ارتقاء نازل من الجهة الأخرى لاكتشاف الحقائق المرّة: سيرة الأصل وجريمة ما قبل تاريخ الطفل: أم معلولة وأب مجهول، وعار يطارد شرف القبيلة، و»الميخالي» يمارس هواية الغوص داخل «بركاصة» الميسورين غوصه المحموم لمعرفة الحقيقة المرّة دون أن يفقأ عينيه، لأن من يقتات على فتات موائد اللئام لا يخشى الحقيقة التي بكبرياء شامخ يدين بها العالم كله، ولأنه ببساطة غير محاسب عليها يوم الحساب. وإلى ذلك الحين ستظل ردهات الصمت تردد صدى صوت المهجّر الثاني وهو يودع أمه أمام باب «الخيرية»: لا تبك يا أمي حين تعودين إلى البيت، لتجيبه أمنا جميعا بكل ثقل المأساة: ستبقى وحيدا هناك يا ولدي إلى أن ينتصب القصب. الشعر النسائي المغربي وتحولات القصيدة قبل الحديث عن الشعر النسائي المغربي أودُّ أن أشير إلى أن الأدب جوهره إنساني لا يختصّ بالذكورة ولا بالأنوثة. والشعر محرّر الروح من الكراهية وإلغاء الآخر. وهو حالة وجدانية شعورية يشترك فيها الرجل والمرأة على السواء. ومصطلح الشعر النسائي، كما هو متداول في الدراسات النقدية، لا يعني أي سلبية أو دونية للمرأة، ولو أن المرأة الأديبة والمبدعة عموماً لا زالت تعاني من هيمنة الذّكورية وسلطة النّظام الأبوي البارز على جانبيه الإبداعي والنقدي. والأدب النسوي بصفة عامّة يرتبط بمرحلة عصر النهضة في العالم العربي، أي بحركة تحرير المرأة. وهي المرحلة التي خوّلت للمرأة المشاركة في الحياة الاجتماعية والثقافية، بما فيها الإنتاج الأدبي. وتحيل دلالة هذه التّسمية على الشعر الذي تكتبه المرأة كذات منتجة، وليست المرأة بصفتها تيمة أو صورة إبداعية. والعديد من الكاتبات يجدن في هذا إعادة اعتبار وتقدير لإبداعات المرأة العربية.وإذا كان الشعر أسمى فنّ احتفل به العرب، فشعر النساء لحقَه الكثير من الإهمال قديماً وحديثاً. وقد اهتمّ النقد العربي القديم بإبداعات المرأة من خلال بعض المصنفات الأدبية وكتب التراجم لابن طيفور وابن عبد ربه والجاحظ والأصفهاني والمارزباني وغيرهم. والمتصفّح لحماسة أبي تمام والبحتري أو مختارات البارودي لا يجد فيها إلا قصائد معدودة للمرأة الشاعرة.ولكن في عصر النهضة العربية ظهرت شاعرات رائدات، وبزغت إلى السطح العديد من الصالونات الأدبية لشاعرات مرموقات كصالون ألكسندر الخوري، وأماني فريد، وكوليت خوري، وجورجيت عطية، ومريانا مراش، وماري عجمي، وعائشة التيمورية، ونظلة الحكيم وغيرهنّ. وأشهرهنّ مي زيادة، التي اشتهرت بصالونها الأدبي الذي كان يؤمّه كبار الأدباء والشعراء. وقد أرّخت نازك الملائكة لمرحلة شعرية جديدة، بالإضافة إلى العديد من الشاعرات كفدوى طوقان، ولميعة عباس، وسلمى الخضراء الجيوسي وغيرهن. وتبقى التجربة الشعرية المغربية متأخّرة مقارنة بالتجارب العربية سابقة الذّكر. وقد بدأ نشاطها يزدهر في العقود الأخيرة. وهي تجارب فردية تخصّ شاعرات من أجيال مختلفة. وقد برزت شاعرات مغربيات كثريا السقاط، ومليكة العاصمي، وحبيبة البورقادي. كما شهدت الحركة الشعرية النسائية اتّساعاً ونهوضاً في العقود الأخيرة حينما دخلت المرأة فعلاً معترك الحياة، ومُنِحَت الحرية الكاملة في الكتابة والإبداع، ممّا أدّى إلى ظهور العديد من الأصوات الشعرية النسائية كوفاء العمراني، والزهرة المنصوري، وثريا مجدولين، ووداد بنموسى، وإكرام عبدي، وصباح الدبي وغيرهن. بالإضافة إلى بعض الأسماء الجديدة التي تُنبئ بمستقبل شعري زاهر. فلكل شاعرة فرادتها من حيث لغة القصيدة وأبعادها الفنّية. وشعرهن متأثّر برواد الشعر العربي في المشرق والمغرب، وكذلك بالتجارب الشعرية العالمية. وهنا يمكن أن نثير العديد من الأسئلة قوامها الكشف عن الأنساق الثقافية والمرجعيات الفكرية في الصراع المحتدم بين الأنا والآخر من خلال المنجز الشعري للنساء الشواعر من قبيل: هل يساير الشعر النسائي المغربي تحوّلات القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة؟ وما الذي يثيره النص الشعري من تجديد وتصوير وخيال باعتبار الخيال هو المنتج للصور والمنتج للمعرفة؟ وهل يمكن أن نتحدّث عن تجارب مكتملة في الوعي الجمالي الحداثي لشواعر المغرب على المستويات الفنية المختلفة من حيث الثقافة والفكر وجمالية اللغة؟ وهل ترقى هذه النصوص الشعرية إلى مستوى السؤال المعرفي في النقد والنّظرية الأدبية؟ وما الجديد الذي أضافه الشعر النسائي المغربي إلى المنظومة الشعرية العربية وغير العربية؟ هذه الأسئلة تقتضي دراسة مستفيضة وتعمّقاً في الشعر النسائي المغربي. فالإبداع الشعري للمرأة المغربية لم ينل الاهتمام الكافي من قِبل الدّارسين، ويحتاج إلى منهجية علمية رصينة ودراسة موضوعية بعيدة عن المجاملات لتدارك هذا التقصير في حقّ الشعر النسائي المغربي والاهتمام به كشعر حداثي مختلف يقتضي نقداً مختلفاً بعيداً عن النّمطية والمتداول. وبعيداً عن النقد الصحافي الذي لا يتفاعل فيه القارئ مع النص فيبقى بعيداً عن الخصوصية الفنّية والجمالية للمادّة الشعرية بدعوى الغموض، مع أن الغموض الذي يلفّ قصيدة الحداثة لا يُنقص من شاعريتها، لأننا نعجز عن الإمساك بمعاني النص الشعري ودلالاته. فللنّقد شروطه وصرامته المعرفية، وكلّ قصيدة تفرض منهجيتها ومقاربتها الخاصة. والقصيدة حركة متطوّرة مختلفة المعايير الفنية والجمالية. لها خصوصيتها اللغوية والفكرية. وإذا كانت القصيدة بهذه المواصفات، فهي ضرب من المعرفة الإنسانية في أبعادها ومستوياتها المختلفة. والشعر النسائي المغربي مستويات متعدّدة، فهناك إنتاجات شعرية تمتاز بقوّة الشاعرية وجمالية اللغة والنّضج المعرفي. كما تمتاز بالتحوّلات الفنية الجديدة التي يعرفها الشعر العربي من حيث بنيات النصّ الشعري المعاصر، والصور الشعرية المرئية والمسموعة، بالإضافة إلى التحوّلات الإيقاعية. وبالمقابل هناك العديد من الشاعرات تحتاج أشعارهن إلى مقوّمات الكتابة الشعرية رغم كثرة إنتاجاتهنّ، لأن الشعر ليس مجرّد عاطفة، ولكنه ثقافة وفكر ومسؤولية. فلا يمكن حصر شعر المرأة في خانة الأنوثة والنّعومة التي تحصره في العاطفة الجيّاشة. وترى عائشة عبد الرحمان (بنت الشاطئ) أن العاطفة عنصر أصيل في شعر المرأة وإذا كان هذا موضع اتّفاق بين كل الأدباء والعلماء والفلاسفة فإن الاختلاف يقع بينهم حول سعة إدراكها ونضجها العقلي وعمق ثقافتها وغزارة علمها من حيث التّفاوت بين امرأة وأخرى وبين المرأة والرجل على حدّ سواء. ويمكن أن نقول إن الشاعرة المغربية استطاعت أن تُثبت جدارتها في هذا الجنس الأدبي. فرغم صعوبة الحديث عن تجربة شعرية نسائية مغربية لحداثتها، فالشعر النسائي المغربي لم ينفصل عن السياق العام الذي يندرج فيه الشعر العربي، فهو حاضر بشكل لافت في المشهد الثقافي العربي وغير العربي من خلال المشاركة الفعّالة للشاعرة المغربية في مختلف الأنشطة الشعرية والمهرجانات داخل المغرب وخارجه، من خلال العديد من الإصدارات والترجمات، وهي تجارب مختلفة من حيث التصوّرات الذاتية والنظر إلى الحياة والوجود. ومع تراجع قراءة الشعر في زمننا فلدينا نصوص طافحة بالجمال لأن هذا التراجع مسألة عالمية لا تخصّ بلداً ولا منطقة بعينها. ورغم الادعاءات التي تدعو إلى أن زمن اليوم هو زمن الرواية وليس زمن الشعر، فلدينا نصوص شعرية انتصرت لذاتها. إلا أن عملية النشر تبقى قليلة مقارنة بالحضور الذكوري، كما أنها لا تعكس المواهب الجديدة فعلياً في الساحة الأدبية المغربية. فالعديد من الأسماء تمتاز إنتاجاتهنّ بالسّطحية وعدم فهم مبادئ وقواعد الوزن الشعري وعدم الاطلاع على الموروث الشعري العربي. فلا يمكن كتابة الشعر في ظلّ غياب قواعده الجمالية، فالكثير ممّا يُنشر لا يرقى إلى مستوى الشعر الرفيع في ظل غياب لجن القراءة. وهذا لا يمنع من وجود دواوين أخرى على درجة عالية من الشعرية والتّميّز. فالقصيدة المعاصرة تحتاج إلى خلق لغة جديدة لترقى إلى مستوى التجربة الإنسانية. نحو أسلوبية اختصارية تتخذ الدائرة منطلق الشكل في لوحات المهدي مفيد، في الحال الذي تستقل فيه بذاتها داخل مربعات القماشات ضمن مجموعة من اللوحات الصغيرة والمثيرة ببساطتها، إذ ليس إدماج الدائرة باعتبارها الشكل الهندسي المطلق داخل آخر مُضَلَّع أقرب إلى الصفة نفسها (المربع/ السند) وحده ما يخلق متعة البصر، بل مصدر الإثارة يكمن في طاقة سواد الدائرة ورذاذها المتناثر من شدة الحركية، حركة اليد التلقائية والمُدَوْزَنَة في آن، ما يضفي على التركيب ديمومة الحيوية. إذا كانت الدائرة تتوسط المقاسات الصغيرة كعنصر أُحادي ومستقل في حالة دَوَران حول المركز، فهي الجوهر أيضا في الأسناد الكبيرة نسبيا، حيث تفرز فروعها وامتداداتها. في هذا التقابل التفاعلي بين الجزء والكل، ترتسم الوحدة التصويرية (Pictural) التي تمنحنا معيارية بصرية تشرك بين الأعمال المتقاربة على صعيد المظهر، والمنسجمة على مستوى المعالجة التكوينية الموسومة بالاختزال الذي تتبادل من خلاله أدوار الشكل والخط Ligne الذي يحدد مجال اللون والمساحة، بالقدر الذي يتشكل فيه كشظايا منبثقة من «كتابة» شذرية لا تُبْقي إلا على بقايا علامات ذات منحى حركي (Gestuel) تعكس رقص الجسد المحكوم بحدس مُراقَب. لكن هل يصح اعتماد عبارة «الكتابة» بمعناها المتداول في هذه الأعمال؟ بالرغم من البروز الخفيف والمكثف للحروف الصغيرة اللاتينية منها والعربية (بدرجة أقل) في مساحات الفراغ ضمن فرشة طِباعية Graphique، فإن ما يدفعنا للقول بِ»الكتابة»، إنما تتمثل في سطوة الأسود المنساب بالفرشاة العريضة والمُحاكية لقلم الخطاط العربي. فقط، التقطيع المنفرج Divergent هو ما يطمس شكل «الحرف»، وإن صح لنا اعتبار الدائرة ك»هاء» مفصولَة، ووَسَطِية في ازدواجيتها الولاّدَة كما نَلْحظ ذلك عبر المقاسات الكبيرة. من هذه المقاربة البصرية – بحسب تقديري- تُمْكِن ملامَسَة تشكيليَّة Plasticité مفيد، حيث يقوم الطراز على «كتابة» تجزيئية تبتعد عن النبر الكاليغرافي، بقدر ما تنخرط في تعبيرية حداثية تستقطب العين عبر تجريديَّتِها المَنيعَة. تبقى يناعة هذه التجريدية المفرطة موكولة لِلَعِب لوني مَحْسوب ومَحْسوم بدوره، من حيث الاختزال الذي يحكم كل العناصر، ومن حيث المعالجة الضوئية التي تهندس عوامل الشفافية التي تجعل الخلفية مندمجة كمساحات وأشكال تعمل على تلطيف العمق Profondeur إلى حد التسطيح، فيما تحتفظ بالظهور الخافت للموتيفات الخطية التي ترسم تفاعلاتها مع تعاريج وتناسل السواد الذي يؤلف التضادات الصاخبة مع الأبيض الرمادي، فيما تتآلف المفارقات والتجاوبات بين الأحمر والبرتقالي والأوكر والرمادي. إنها المتوالية التوافقية (Harmonie) التي تُضفي على التكوينات صفة الأناقة والصفاء. وذلك ما يحيلنا على مهارات الفنان والمستقاة من تكوينه في فنون الطباعة Les arts graphiques. حول اشتغاله يقول الفنان: «كل ضربة فرشاة هي عبارة عن تدفق، صرخة من العمق، تحرير. في الحال، تنبجس ولادة الجمال من العدم عبر شكل أو حركة أو لون، شيء ما تمليه سليقة تجتاح روحي، شعلة داخلية، احتدام، أشياء متعددة ولا متناهية تعجز اللغة عن توصيفها». يتضح من خلال التصريح، النزعة الشعورية التي تنعكس في لوحاته عبر الضربات العفوية والحركية التي تجعل المَشْهدية مفعمة بالحياة. في المقابل، يصعب تسجيل أي انزياح مرتجل يصدف عن القواعد التي من شأنها أن تخلق خللا في التركيب أو التوازن، ما يعني حضور اليقظة والدُّربة والعقلانية داخل ذات الفيض الحدسي. هكذا، وعبر الثنائيات التي تؤسس بناء العمل استنادا إلى الكشف والحجب، الميكرو والماكرو، التدوير والتسطير، التفريغ والملء… يعمل المهدي مفيد على الدفع بعمله نحو أسلوبية اختصارية تتوخى الوفاء لجمالية إقلالية Minimaliste نابعة من ميله الغرافيكي، ومن رؤيته المرتكزة على طرد الزوائد واعتماد أقل ما يمكن من العناصر. ومن ثمة، يقدم لنا «مربعاته» النورانية المُخْتَرَقة بسرعة السواد، حيث السواد يمسي هنا توقيعا ممتدا إلى حدود اللوحة وخارجها. أسئلة الكتابة في رواية «الحكاية الأخيرة» لعبد الحفيظ مديوني رواية «الحكاية الأخيرة» للأستاذ عبد الحفيظ مديوني رواية مركبة يمكن مقاربتها من عدة جوانب وفي عدة مستويات. لكنني سأقاربها من خلال أسئلة الكتابة التي تطرحها، وسأختار من هذه الأسئلة خمسة: أولها: مفهوم الكتابة: تقول لنا مقدمة الرواية: – «إن الكتابة رحلة في حلم – وإنها إبحار خارج أسوار المكان والزمان – وإنها إرساء في منازل هي أقرب إلينا من أية حارة تحيط بنا، وأكثر حياة من أي واقع يتحرك حولنا. – وإنها أن نفتح الذات على ذواتها الأخرى… على عوالم غير عالمها الفعلي… تلك التي لا ترقى إلى مساحاتها الحدود، ولا ترضى لأعمارها بما دون الخلود». الكتابة إذن حلم وإبحار وخروج… منازل غريبة قريبة حية متحركة داخلنا… ذوات أخرى داخل الذات… فوق الحدود، وخالدة. مفهوم الكتابة إذن أشبه بالحفر. إننا في الكتابة لا نستقبل إلهاما ولا وحيا.. علينا أن نحفر.. وأن نحفر في ذواتنا الداخلية.. لنصل إلى عمق لا حد له أولا.. وخالد ثانيا. الكتابة إذن أن تخرج من عالم الجماعة لتدخل عالم الفرد، وأن تبحث عن الغريب والمختلف، لكن الفاتن والمغري. ولن تجد هذا الغريب الفاتن إلا داخل ذاتك. لكن أجمل ما ستجد هو الإنسان لا الشخص. ستجد المغربي الإنسان داخل المغربي فلان. الكتابة إذن خروج عن العام إلى الخاص. ثم بحث عن الغريب والمختلف والفاتن داخل الخاص. ثم بحث عن العام داخل خاص الخاص عن الإنسان داخل فلان. ثانيا: ولادة الكتابة: كيف تولد الكتابة؟ بمنبه خارجي يحركنا؟ بكلمة (مكان أو اسم أو لفظ) (عفراء مثلا). وعفراء اسم ملتبس تحسبه لأول وهلة اسم امرأة.. ثم تكتشف أنه اسم بلدة. تعالوا نخلق هذه البلدة. إنها… وإنها… وإنها… لا ليس كذلك.. لا يمكن أن تكون كذلك.. كأنها.. وكأنها.. وكأنها.. لنتخيل.. ولنخلق.. ولكن علينا نحن ذوات الكاتب أن نتفق.. أن نتواطأ.. وأن نتذكر.. كان العرب قديما يقولون: إذا كنت كذوبا فكن ذكورا. ويبدو أن من الممكن أن نضيف: وكذلك إذا كنت كاتبا فكن ذكورا. لأن الكتابة كلام. الكتابة لا تنتمي إلى العالم الطبيعي الخارجي، بل تنتمي إلى الكلام.. إلى الثقافي لا إلى الطبيعي.. الكتابة بناء على ذلك إنتاج ثان وليس إنتاجا أولا.. وهي تحتاج إلى وسط ثقافي.. إلى كلام ورموز وثقافة لتكون. ثالثا: قانون الكتابة: هل للكتابة قوانين؟ يسأل «راوية» السارد وهما يشرعان في كتابة الرواية: «- هل تملك خارطة؟ فيرد السارد ب: – «كل ما عندي أفكار مبعثرة لم أفلح أبدا في تجميعها وترتيبها. – هكذا يكتب جل الروائيين». هل يكتب الكتاب، والروائيون خاصة، دون خارطة؟ وكيف يتقدمون في السرد دون هذه الخارطة؟ هل للكتابة قانون؟ «هكذا يكتب جل الروائيين» يقول راوية للسارد. ومعنى ذلك أن الروائيين يكتبون بدون خرائط.. ويبدو أن ذلك حال جميع الكتاب منذ عهد «الملك الضليل».. كلهم ضليلون.. كيف يهدون إذن؟ للسارد في رواية «الحكاية الأخيرة» رقيب عنيد هو «راوية» ضمير السارد وقانونه ودليله في صحراء الكتابة. يتدخل راوية أحيانا.. ويصحح للسارد بعض الوقائع.. يقول للسارد: – «لم أخبرك أنني أنحدر من عفراء» وإذن فصاحبنا «راوية»، ما دام من عفراء: فضاء الرواية المتخيل. صاحبنا راوية، إذن، ليس واقعا يصحح خيال السارد ويوجهه، بل هو جزء من هذا الخيال. هو واقع الخيال إذا شئتم.. هو كواليس المسرح، أو هو جسر التواصل مع القراء. هل هو قانون الفن؟ ولكن الفن حر بطبيعته.. هذا صحيح.. ولكن من أجل أن يتواصل مع الناس فالفن مضطر إلى اتباع قواعد كلاسيكية.. في الحجم.. في الحركة.. في النغمة.. في اللفظة والجملة.. محتاج إلى جسر.. «راوية» في روايتنا هو هذا الجسر. تعالوا نبحث في اللغة عن معنى السرد. السرد في الأصل هو النسج. هو على الخصوص نسج الحديد. وهل ينسج الحديد؟.. لا تعجبوا فنحن مع الكتابة.. مع أليس.. في بلد العجائب. كان القدماء يصنعون للحرب دروعا تقي صدور المحاربين. هذه الدروع كانت تنسج من خيوط دقيقة من الحديد الملين. والسرد هو نسج الدروع من هذه الخيوط. وقد كانت هذه صناعة النبي داود عليه السلام. قال تعالى في القرآن الكريم في سورة سبأ: «ولقد آتينا داود منا فضلا، يا جبال أوّبي معه والطير، وألنّا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد». وقدر في السرد، أي انسج بناء على تقدير وقياس وقانون.. وإذن فللسرد، سواء كان نسج دروع أو نسج روايات، قانون.. فيا أيها الروائيون.. قدروا في السرد. رابعا: سؤال الواقع والخيال: خلال حوار بين السارد وبين راوية سارد السارد أو ضميره أو قانونه، وبعد أن يصحح راوية للسارد، يقول السارد محتجا: – أنا لا أكتب تاريخا يا راوية. فيجيب راوية: – إذن أنت لا تستحق هذا الشرف. وإذن، فللكاتب أن يتخيل، ولكن عليه، أولا: أن يتبع القواعد، أو على الأقل أن يتبع قواعد. الكلاسيكيون يتبعون القواعد، والرومانسيون والرمزيون والتجريبيون لا يتبعون القواعد، ولكنهم يتبعون قواعد يخلقونها.. الفن دون قواعد ليس فنا. وعلى الكاتب ثانيا أن يؤمن بحقيقة ما يتخيل حتى ليعتقد أنه واقع، وإلا فلن يستحق شرف الكاتب. حين يقول الكاتب متشبثا بحريته: – أنا لا أكتب تاريخا. يقول له «راوية» ضميره السردي: – إذن أنت لا تستحق شرف الروائي. على الروائي أن يكتب وقائعه المتخيلة كما لو أنها تاريخ.. أن يؤمن بحقيقتها وحقيقيتها.. التاريخ الحقيقي هو ما يكتبه الكتاب لا ما يكتبه المؤرخون. الرواية تجعل من «راوية» جسرا بين الشفاهي والكتابي.. بين واقع الخيال وخيال الواقع.. بين قواعد الفن و»كيتش» الفن. يسمي ميلان كونديرا هذه الفنون المبتذلة المصطنعة التي تعتمد على التكنولوجيا والإشهار والسوق… بفنون الكيتش. والجميل أن هذا الجسر بين الواقع المتخيل وبين الخيال.. يكبح جماح الخيال بمواد واقعية: يأتي بخرقة ملونة قديمة يقول إنها راية «عفراء» البلدة التي يتخيلها السارد. تذكرت وأنا أقرأ ذلك في الرواية قصة قصيرة جدا لنجيب محفوظ في كتاب «أصداء السيرة الذاتية» تحكي قصة نجيب محفوظ عن رجل يرى في منامه شخصا يعطيه علبة فيها جوهرة ثمينة. وحين أفاق وجد العلبة فوق وسادته، ولكن وجدها فارغة. إذا كانت الجوهرة حلما يغيب في الصحو، فمن أين جاءت العلبة؟ إنها جزء من الحلم هي أيضا، فكيف تسربت إلى الواقع كراية «عفراء»؟ في الرواية إذن خيال. لكن ما أريد أن أشير إليه هو أن في الرواية أيضا «خيال الخيال» على غرار ما طرحه عبد القاهر الجرجاني في «دلائل الإعجاز» من أن هناك المعنى.. وهناك «معنى المعنى». السارد يلتقي بشخص غريب في المقهى ويتبادلان الحديث. السارد خيال والشخص الغريب خيال.. وهذا الخيال المزدوج يتخيل بلدة أشبه ب» الفردوس المفقود».. ب»ارم ذات العماد» أو بمدينة النحاس في ألف ليلة وليلة.. أطلنتيس التي ضاعت قديما في شواطئ المغرب. هناك خيالان يتخيلان إذن، ويصحح بعضهما للبعض ما يتخيلان. والتصحيح بمعيار متخيل أيضا. القارئ يدخل إلى مطبخ الكاتب ويذوق الطبخة قبل أن تستوي. وقد يقترح إضافة تابل أو تخفيف تابل. لذلك نحس ونحن نقرأ الرواية أنها روايتنا نحن أيضا وليست رواية الكاتب وحده. خامسا: سؤال المحاكاة: الفن محاكاة، قالها أرسطو أساسا، وقالها قبله فلاسفة آخرون. بالنسبة لأرسطو لا يحاكي الفن الطبيعة، بل يحاكي في قوانينه قوانينها، وعلى الفنان أن يراعي ما في الذهن البشري من الاحتمالات الطبيعية. «لا أستغرب أن يكون مصير المرء مهيأ سلفا» يقول فيصل ل»شاهد» في الرواية. هل هذا هو المكتوب أو «المكتاب» بلهجتنا المغربية؟ وهل الفن محاكاة لهذه التصورات في أذهان الناس.. بحيث يكون العالم في الفن مثل العالم في أذهان الناس مهيأ سلفا.. ويصير إلى مصائر حتى دون رغبة الكاتب؟ هل هي محاكاة مقلوبة؟ لأنها ليست محاكاة أرسطية لقوانين الطبيعة الفيزيائية الخارجية واحتمالاتها، بل هي محاكاة أساطير الناس وتخيلاتهم.. محاكاة ما يتخيل الناس لا ما يعيشونه.. ربما… لست أدري. تلكم أسئلة وإشكالات فنية تطرحها الرواية. هذه الرواية في اعتقادي مختبر فني للكتابة. ونستطيع، بتأمل ما تطرحه والتفكير فيه، أن نبتكر حلولا واجتهادات فنية لمشاكل السرد القديمة. لن أكتب القصص بعد اليوم «زوجته ما زالت بأخلاقها البدوية كيوم عرفها.. وهذا هو مبعث سعادته معها طوال هذه المدة من حياتهما الزوجية. لم يحدث من قبل أن اطّلع منها على ما يريبه أو يجعله يشك في وفائها له. رغم أنه بعيد عنها بسبب العمل، إلا أن جلسة واحدة معها تجعله يعرفها جيدا ويعرف كل ما قامت به في غيابه وكأنه يرى ذلك بأم عينيه. في كل مرة يرجع إلى البيت يشتري لها كل احتياجاتها على عادة أهل القرية، فلا يبقى لها من داع للخروج إلا حالات نادرة تبررها له عند عودته.. حتى علاقاتها في القرية محدودة جدا، هذا ما أمرها به قبل غيابه، خوفا من ثرثرة النساء التي تفتح عمل الشيطان.. تبدأ بالضحك والغيبة والنميمة وقد لا تقف عند هذا الحد.. من حُسن حظه أن القرية ليس فيها الكثير من العزّاب؛ فالجميع يغادر للعمل بالمدينة، إلا القليل من أصحاب الحقول. أولئك يمضون سحابة يومهم في العمل ولا يعودون إلا أشباحا تسبقهم البهائم في الظلام الدامس. لكن شخصا واحدا يثير في نفسه الريبة ويجعله مشوش البال.. يتذكره كلما هَمَّ أن يرسل شيئا لزوجته، لو أن في القرية ساعيا للبريد لكفاه هذه الشجون. لكن لحد الآن لا يزال مُقَدّم القرية نفسه هو الذي يتكفل بإيصال ما يرسل إلى زوجته. وهذا ما ينغص عليه حياته. يود لو كان بإمكانه أن لا يبعث لها شيئا على الإطلاق. وليبحث المقدم حينها عمن يحملق فيها بعينيه الجاحظتين.. أخبرته أنه أول مرة سلّمها رسالة، شكرته كثيرا وهو واقف بالباب.. ظل ينظر إليها وهو يبتسم كأنه ينتظر منها شيئا.. شكرته مرة أخرى دون أن يكون بإمكانها إغلاق الباب؛ إذ ظل متكئا على حافته يطالعها بعينيه، قبل أن تدخل لحالها وتتركه واقفا كتمثال. قبل هذا الحادث كانت الحياة عادية وجميلة وآمنة. لكنه بعد ما سمع من زوجته ما سمع، لعن الطريق التي أوصلته يوما إلى المدينة. وتمنى لو ظل يرعى نعجة أو نعجتين ولم يغادر بيته يوما. كيف يمكنه أن يوقف المقدم عند حده ويعلمه حفظ حرمات الناس، وهو كلب حراسة للسلطة، وبيده الأمر والنهي على مثله من الضعفاء، وقد يتدخل حتى لقطع رزقه؟.. سيدخل حربا هو الخاسر الأكبر فيها. فكر في زوجته الطيبة وأنه سيكون أبا بعد شهور قليلة، ثم توصل بهدوء إلى أن الحل هو تهشيم رأس المقدم إن بدر منه أدنى شيء مرة أخرى.. كانت هذه بداية ريبته وشكوكه.. لماذا يتدخل الشيطان دائما ليلعب لعبته المحببة ويعكر صفو العيش؟ هذا مما يعجز عن استيعابه تماما. مثلا لماذا لا يوجد ساعي البريد في قريته؟ كان بإمكانه أن يشتغل هو نفسه بهذه الخدمة دون حاجة للذهاب إلى المدينة أو إرسال الرسائل؟ ولماذا يتمتع المقدمون دائما بعينين جاحظتين أكثر من الناس؟ هل هي مواصفات مطلوبة لقبولهم أم يحدث هذا بكثرة تتبعهم لعورات الناس وأسرارهم؟ الدنيا بنت الكلب.. ملعونة.. لا تدوم على حال.. زوجته طيبة للغاية، ما زالت تغمره بالكثير من الرضا والحنان.. لكن الشيطان لا يعرف طيبوبة زوجته.. وإلا كيف يمكن تفسير ما وقع لها مؤخرا مع المقدم؟ كان قد حمل إليها رسالة زوجها الأخيرة. لكنه وجدها فرصة سانحة لما فكر فيه من قبل. دق الباب بلطف غير معهود منه، وتراجع إلى الوراء..» أحسست بألم في ظهري من فرط انحنائي على الورقة وأنا أكتب هذه القصة، اعتدلت في جلستي والتفت إلى الشخص الذي يجلس بجانبي.. أدركت أنه كان يقرأ كل ما كتبته دون أن أنتبه لذلك. التقت عينانا معا.. لم يبتسم ولم يقطب.. وإنما ظل يحدق فيّ بملامح محايدة وكأنه يستنكر توقفي عن الكتابة وقطع متعته في قراءة القصة.. يظهر من وجهه أنه بدوي مغرق في بداوته، وأنه على الرغم من أنه ركب معي من المحطة بوسط المدينة، إلا أنه ما زال لم يلطّف طباعه بمجاملات المدينة الكاذبة ونفاقها المستمر.. لا يزال ينظر إلي.. شعرت بالضيق من فضوله الوقح.. التفتُ إلى النافذة، كانت الحافلة تصرع السكون بزعيقها وتقصي وراءها أشجار الطريق باستكبار عنيد.. تراءى لي المكان منبسطا بمناظر ربيعية تقدح غرور الشعر والقوافي. أجَّلْتُ إكمال القصة إلى وقت آخر، وأخرجت ورقة جديدة وقد بدأت مطالع شعرية تتزاحم في ذهني.. تحاشيت نظرات جليسي المستمرة خوفا من أن تضيع مني فرصة القصيدة بسبب بدوي فظ. وما إن وضعت القلم على الورقة لأكتب؛ حتى تململ في ضيق ظاهر.. تنحنح مرتين بطريقة مصطنعة، وفرك يديه الخشنتين وكأنه يتأهب لصراع، ثم مص شفتيه وهو يلتفت إلي مباشرة ويفاجئني: وحكاية زوجتي لِمَ لم تكملها؟ ماذا عن المقدم؟ ظننته أحمق، لكن لا بد من الإجابة.. لذلك غالبت ذهولي، وقلت بشيء من اللباقة والهدوء حتى ولو لم يفهم : انظر.. الربيع في أيامه الأولى وإن كنت تحب الشعر فبعد قليل ستكون أول من يسمع قصيدتي الجديدة.. ثم سكتُ.. وبدا واجما كأنما لم يفهم ما قلت.. ربما.. أو لأني لم أرْوِ فضوله النهم. وحتى أغير طريقته البوليسية في الحديث؛ سألت: أنت من هذه القرية؟ طبيعتكم رائعة.. قاطعني غير عابئ بقولي الأخير: خَلّ عندك شعرك وبوحك. أريد أن أعرف ماذا فعل المقدم.. أظنك تفهم قصدي؟ الحق أني تأكدت أنه ليس أحمق فقط، ولكنه قاس وعنيف أيضا.. تمنيت أن أطلق فيه يدي، وأنفث في وجهه سبابي القديم. كانت الحافلة هادئة وبعض الركاب لوى النوم أعناقهم في وضعيات مختلفة.. بذلت ذخيرة هدوئي كاملة لأبتسم له وأداريه.. أمسكت بيده وأخذتها نحوي.. وقبل أن أنطق كان يوجه سبابته نحوي ويقول في انفعال: لا تحاول المراوغة.. لقد قرأت كل شيء.. لن أحاسبك على أنك تكتب عني دون إذن.. ولن أسألك كيف اطّلعت على هذا الأمر.. كل ما أريده هو أن أعرف الحقيقة فيما يراودني من شكوك.. ذاك المقدم ذئب شرس قادر على الإيقاع بالضعفاء.. لا تحاول أن تكتم عني شيئا. أُسقط في يدي، كَفَرت بحمقه وآمنت بأنه في تمام وعيه.. بل إنه قرأ ما كتبت وفهمه وهو يطلب المزيد. كان صوته يرتفع شيئا فشيئا، وبدت لي أعناق الناس تتطاول من خلف الكراسي مستفسرة عما يقع.. شجعته عيون الناس المسَلّطة عليه من كل جانب.. وبجرأة الممثل الذي يجد نفسه فجأة في قلب الحدث، ولا فرصة له للتراجع، أمسك بخناقي وهو يكزّ أسنانه: أتمم النهاية.. ماذا حدث لزوجتي..سأحرق القرية كاملة إن كان قد أصابها مكروه.. وستكون أنت فتيلها إن لم تكمل.. قل..أيقنت أن الأمر جد لا هزل فيه، وأن قارئي المفترض تحول إلى خصم لدود متلهف لمعرفة نهاية قصة زوجته التي لا أعرفها ولا أعرف قصتها.. لا واحد غير الله عالم بالأسرار.. وليس غيره يصنع أقدار الناس ويعلم البداية والنهاية.. اختلطت في داخلي مشاعر موؤودة من الدهشة والضحك والبكاء. كيف يمكن لقصة متخيلة أن تتطابق تماما مع تجربة حية؟ وحتى إن تطابقت فكيف للقاص أن يطّلع على الغيب ويصنع نهايتها الحقيقية مثلما ينتظر مني هذا البدوي المسكين؟ هل تحوّل القاص إلى إله صغير؟.. أستغفر الله.. فكرت هل يمكن أن تتاح للقصة هذه الإمكانية في المستقبل !! ربما.. فرحت لهذا الخاطر غير المتوقع.. لكنني تذكرت أنني في ورطة لا أحسد عليها، فأجلت هذا التفكير إلى أن أعرف إن كنت سأخرج حيا لأكتب قصة بعد هذا اليوم.