ذ.الكبير الداديسي ظل الشعر يتربع على عرش الثقافة العربية منذ ولادته ناضجا شيخا كاملا متكاملا في العصر الجاهلي .. وبقي النقد العربي صارما في التمييز بين الشعر والنثر يرجح كفة الأول على الثاني.. رغم وجود بعض الإشارات لتوظيف بعض الشعراء للحكي والقصة كما في أشعار امرئ القيس و عمر بن أبي ربيعة .. لكن قلما وقف النقد القديم عن حضور الكتابة الشعرية في النثر إذا ما استثنيا ما كتب عن الإعجاز القرآني ... وفي العصر الحديث ظهر أجناس أدبية زاحمت الشعر في ريادته.. بل تمكنت الرواية والقصة من التسلل تدريجيا إلى اهتمامات القارئ العربي الحديث والمعاصر .. وأضحت تسحب البساط من تحت أقدام عرش الشعر.. بل يمكن القول أن الشعر لما شعر بالبساط يسحب من تحت أقدامه تدفق على باقي الأجناس الأخرى، معلنا تحطيم الحدود الصارمة بينه وبين الأشكال النثرية الأخرى... فتسللت الشعرية إلى مختلف أنواع الكتابة ، وأصبح بالإمكان الحديث عن شعرية القصة، شعرية الرواية ، شعرية المسرح ، شعرية النقد... وأصبح لا ينظر إلى الشعر (إلا باعتباره تنويعا تزيينيا للنثر .. ) في نظر رولان بارت و(معادلة تزيينية تلميحية أو مشحونة لنثر محتمل يرقد بالجوهر وبالقوة في أية طريقة من طرق التعبير ...{إنها } انعطاف لتقنية لفظية تتمثل في التعبير وفقا لقواعد أكثر جمالا ) [1] وإذا كانت الرواية العربية في نشأتها الأولى كانت واقعية تاريخية حاولت رصد تقاعلات الواقع بلغة تقريرية مباشرة .. قبل أن تهيمن عليها نزعة ذاتية غنائية مغرقة في تصوير لواعج الذات مع الكتاب الرومانسيين خاصة جبران خليل جبران بين الحربين... فإن الرواية عادت في السنوات الأخيرة – بعد هيمنة الاتجاه الواقعي غداة الحرب الكونية الثانية - للاحتفال باللغة أكثر من سرد الأحداث والوقائع.. ، في تجربة يمكن الاصطلاح عليها بشعرية الرواية العربية كما تجلى في كتابات أحلام مستغانمي ، حيدر حيدر.. وكأن في ذلك عودة لطريقة كتابة رواية جديدة: رومانسية من حيث اللغة واقعية من حيث الأحداث ، وهو ما نتج عنه ما يمكن الاصطلاح عليه بالواقعية الشعرية في الرواية العربية، و تبدو المسألة أكثر وضوحا بعدما تمكن عدد من الشعراء الولوج إلى عوالم السرد والرواية .. كما تجلى في رواية ( القوس والفراشة ) للشاعر المغربي محمد الأشعري .. فهل في ذلك أية إشارة على انتدحار الرواية العربية؟ و هل تساعد الشعرية على ( إقصاء البذاءة أو الابتدال وتقريب المنتوج الأدبي من ماهية الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه على حد تعبير جورج لوكاتش؟؟[2] لما للشعر من حدة وكثافة نوعيتين لا تدعان مجالا لبقاء ما هو مجرد (حي) أي ما هو تافه من الوجهة الدرامية؟؟ وما هي مظاهر الشعرية في رواية القوس والفراشة؟؟؟ ( القوس والفراشة) رواية للشاعر والكاتب المغربي محمد الشعري .. فازت مناصفة مع رواية طوق الحمام للروائية السعودية رجاء عالم بجائزة البوكر العربية الدولية للرواية سنة 2011 وهي المرة الوحيدة التي تم فيها تتويج روايتين مناصفة بالجائزة منذ أطلاق النسخة الأولى لجائزة البوكر سنة 2008 إلى أن توجت رواية فرانكشتاين بآخر نسخة في بغداد سنة 2014 صدرت الرواية سنة 2010 عن المركز الثقافي العربي في 335 صفحة من الحجم المتوسط مقسمة على ثماني فصول متفاوتة من حيث المساحة الورقية .. اختار السارد لكل فصل عنوانا وهذه الفصول هي : 1. الورطة حسب الفرسيوي من ص 7 إلى ص 54 2. حجر الزاوية من ص 55 إلى ص 74 3. الحالمون ... وغيرهم من ص 75 إلى ص 114 4. معجزات الحيات الصغيرة من 115 إلى ص 160 5. فسيفساء نحن إلى الأبد من 161 إلى ص 198 6. كتاب المراثي من ص 199 إلى ص 250 7. الغربان من ص 251 إلى 286 8. الفراشة من ص 287 إلى ص 333 تحكي الرواية حياة ثلاثة أجيال ( الجد الابن والحفيد) من أسرة آل الفرسيوي المنحدرة من قرية بومندرة بالريف والمستقرة بزرهون ، وتمكنها بالارتقاء اجتماعيا - بعد عودة الجد من ألمانيا متزوجا بألمانية- من خلال شراء أراضي وعقارات مكنته من منافسة شرفاء المنطقة: - الجد محمد الفسريوي من الجيل الأول الذي هاجر إلى أوربا ؛ قضى 20 سنة بألمانيا تأثر خلالها بالشعر الألماني وعاد إلى المغرب متزوجا بديوتيما الألمانية رابطا بين أصله الأمازيغي والجرمان حالما باستعادة مجد الأمازيع كما كان خلال حكم جوبا فاختار وليلي فضاء لاستعادة هذا المجد الغابر بنبشه في فسيفياء المدينة العريقة وتماثيلها وأقواسها.. انتهى نهاية مأساوية بعد انتحار زوجته .. وفقده لبصره في حادثة سير واشتغاله مرشدا سياحيا ضريرا في موقع وليلي - الأب يوسف الفرسيوي بطل الرواية وسارد أحداثها عاش فترة من حياته في ألمانيا متأثرا بأمه وعند عوته للمغرب استهوته السياسة فانخرط في حزب يساري ممتهنا الصحافة يكتب عمودا في جريدة ناطقة باسم ذلك الحزب ، مما عرضه للسجن بسجن القنيطرة مدة .. تميز بكونه صاحب مواهب أدبية مناضلا متمردا رافضا للاستقرار انفصل عن زوجته بعد مقتل ابنه ياسين ورغبة زوجته في الإنجاب فعاش متنقلا بين المقاهي ،الفنادق ومدن مراكش، البيضاء، الرباط ... - الحفيد ياسن الفسريوي : بعد تفوقه الدراسي كان يتابع دراسة الهندسة في فرنسا.. ليتفاجأ والده يوسف الفرسيوي بوفاة أبنه بعد التحاقه بحركة طالبان في أفغانستان عندما حاول منع صديق له من تفجير نفسه فقضيا معا في الانفجار، وكانت وفاة ياسين سببا في إدخال الأب ضمن سلسلة من التحقيقات البوليسية.. ورغم وفاة ياسين فقد ظل طيفه يحضر أمام الأب ويكلمه في القضايا عاشها... وبما أن الرواية لشاعر أعنى الخزانة العربية بعدة دواوين شعرية منها : صهيل الخيل الجريحة 1978.- عينات بسعة الحلم 1981.- يومية النار والسفر 1983.- سيرة المطر 1988.- مائيات، 1994. – سرير لعزلة السنبلة 1998 – حكايات صخرية 2000 – قصائد نائية 2006 – أجنحة بيضاء في قدميها2008 ...) اكيد سيتسرب بعض الشعر لأعماله الرسية ، والمؤلف مجموعة قصصة وروايتان هما جنون الروح 1996 و رواية القوس والفراشة 2010 لذلك سنحاول الاقتصار في هذا المجهود المتواضع على مقاربة بعض مظاهر الشعرية في ( القوس والفراشة ) متجاوزين المفهوم الضيق للشعرية أو البويطيقا الذي يربط المفهوم بالشعر فقط كجنس أدبي له خصائصه التي تفرده ... وإنما كظاهرة شاملة لكل أبداع أدبي يحقق متعة ولذة نصية بتوفره على أبعاد فنية داخلية ، ونظر لتشعب وهلامية مفهوم الشعرية كمفهوم نسبي يتفاعل في رصده عوامل خارج نصية مرتبطة بالمبدع، والمتلقي ... وعوامل داخل نصية كثيرة كالألفاظ، الإيقاع، الأسلوب وطريقة الكتابة وتشكيل المكتوب ... فسنحاول في هذه القراءة البسيطة التي سنصدرها في حلقات مقاربة الرواية من خلال محاور نلامس من خلالها تلمس بعض مكامن شعرية هذه الرواية بالتركيز على : شعرية العنوان/ شعرية الأحداث/ شعرية الفضاء الروائي/ شعرية الأشخاص / شعرية اللغة ونختم بخلاصة تركيبية نبرز فيها أهم ما ميز شعرية رواية القوس والفراشة : 1 - شعرية العنوان : أول ما يستوقف قارئ هذه الرواية هو عنوانها ( القوس والفراشة) عنوان يحيل على تيمات الفروسية( القوس) ، الجمال والحلم والرومانسية ( الفراشة) وتجعله يتساءل عن أية علاقة قد تجمع بين هذين العنصرين اللذين قد لا يجمعها رابط .. مما يخل منذ البداية فجوة وتوثرا لغويا لا يوجد إلا في الشعر.. ويفتح باب الاحتمال والتأويل على مصراعيه.. لكن عند الغوص في أحداث الرواية خص الفراشة بفصل خاص هو الفصل الأخير فيما اكتفى ببعض الإشارات للقوس في فصول سابقة وبذلك يكون العنوان علاقة بمضمون الرواية أول من حيث الترثيب ذكر القوس أولا والاختتام بذكر الفراشة .. لكن سرعان ما يخيب أفق انتظار قارئ الرواية بخروج القوس والفراشة عن استعمالهما الحقيقي وتوظيفهما للتعبير عن غير دلاتهما الحقيقة .... أ - القوس: تم التركيز عليه في فصل ( الحالمون ... وغيرهم) وهو فصل له دلالته الشاعرية.. بإحالته على الحالمين.. ورد فيه القوس من خلال طيف ياسين في غمرة تفاعل الأب يوسف الفرسيوي مع التحولات التي تشهدها العاصمة الرباطة والمشاريع المهيكلة التي شهدتها مع قدوم المالك الجديد محمد السادس وكان من تلك المشاريع التي يحلم بها البطل إنشاء قوس يربط ضفتي نهر أبي رقراق ويكون مدخلا للمدينة وواجهة بحرية يكسر النمطية التي عرفت بها المدينة في تاريخها الطويل : ( لا يوجد حتى الآن قوس مجنون.. القوس يمكن أن يكون كذلك .ز يمكن أن يكسر الحساب الصارم للربح والخسارة يمكن أن يخرج المدينة من نسق العمران البحث إلى نسق الخيال البحث )[3] وحدها الشعرية قادرة على تكسير الحسابات الصارمة ألم يقل البحتري كلفتموني حدود منطقكم والشعر يغني عن صدقه كذبه فالقوس سيغرق المدينة في عالم الخيال البحث .. (وإنجاز القوس سيدخل مدننا في تجربة جديدة ربما تفتح ثغرة في التقليد الجاثم على صدورنا) [4] وقادر على توطيد العلاقة بين الأب والابن ( إذا قبلت الفكرة وصار القوس جزءا من ملامح المدينة.. علاقة أخرى أكثر تعقيدا ستنشأ بيننا..) [5] اقوس إذن كما هي الأشياء في الشعر حبلى بالتناقضات .. فهو سيكسب المدينة رونقا ما حلمت به لكنه عاجز عن إشباع البطون الجوعى تساءل الابن تساؤلا إنكاريا يعرف جوابه مسبقا ( والقوس هل تظنه سينقذ الجماهير الشعبية الكادحة..؟) وعلى الرغم من كون القوس مجرد فكرة خيالية .. فقد تشعب النقاش بشأنها بين هيىآت المجتمع المدني ( رحنا نخطط للقوس ..نؤسس الجمعية التي ستتكلف به ، نحدد الجهات التي سنطرق أبوابها .. )[6] كان البطل يعرف جيدا أن فكرة القوس طوباوية وكان يضع ذلك في اعتباراته لكنها الشعرية والرغبة في الخروج من المألوف كانت تدفعه بالسر إلى أقصى الحدود:( قلنا حتى ولو لم يتحقق القوس فإننا سنمنح لأنفسنا قضية تخرج عن المألوف قضية ذات أبعاد شعرية ربما تنجح في تحريك شيء ما لا يريد أت يتحرك) [7] بذلك يصبح مشروع عمراني مثل معاني الشعر يختلف القراء في فهم معناه وتأويل دلالاته : ( نشأ خلاف حاد في الصحافة بين من يعتبر القوس اعتداء على المجال التاريخي ، وبين من يعتبره إضافة فنية حديثة لهذا المشهد المجمد في ملامح الماضي .. وهناك من اعتبر القوس المفتوح على المحيط دعودة لاعتناق المطلق ، وهناك من اعتبره تعبيرا عن فوفبيا المغاربة من كل فضاء لا تحكمه الأبواب ، وهناك من اعتبره اقتراحا جريئا عن حاجيات جديدة في المجال الحضري، هناك من اعتبره تعبيرا عن أزمة اليسار لا يبتكر المشاريع ولمن يبتكر الألاعيب التي تشوش عليها .. )[8] وقل آخرون إن الفكرة قديمة جدا .. وان عملية سطو ساذجة قد تم تنظيمها على الفكرة للإيهام بأن جهة واحدة في هذا البلد تستطيع تخيل أشياء باهرة من أجل مجالنا الحضري) [9] إن الشعرية قادر على ليّ أعناق المتناقضات ، وتوسيع دائرة التأويل ، تجعل الأفكار شكلا لا تملأه التأويلات ، لكل وجهة نظره ولا احدة يملك الحقيقة .. وعندما عرضت فكرة القوس على الوكالة الحضرية للعاصمة لم يجد مهندسوها سوى الانفجار في الضحك والسخرية من هكذا مشروع واعتبار المشروع ضربا من اللعب .. وكان الرد ( إن هذا اللعب مكلف جدا ، وأنه في الوضعية الراهنة للمشروع لا يمكن إقناع أحد بهذا الإنفاق الضخم ) ب - الفراشة: الكلمة الثانية في العنوان خصص لها المؤلف الفصل الأخير بكامله وجعلها عنوانا لهذا الفصل .. والفراشة كما القوس خرجت عن معناها الحقيقي ودلالتها الحرفية إلى دلالة بعيدة عما قد يخطر ببال قائ ، فهي الشعرية تطوح بالألفاظ تكسبها معاني جديدة.. لقد اختار الكاتب لفظ الفراشة للتعبير عن عمارة ضخمة: ( على شكل فراشة ضخمة يحتل الملهى الليلي طابقها التحتي الأول ، والمطاعم طابقها الأرضي ، وقاعة الحفلات الضخمة ، والمحلات التجارية الطوابق الخمسة الأولى بينما تتوزع الشقق الفخمة الطوابق الباقية منتهي ومع ة بشقة مدهشة في مجمل الطابق التاسع تجعل الكتبية في كف من يتربع على شرفاتها الفسيحة )[10] ليكون بذلك للفراشة معنى شعريا ، وللعمارة شكلا شاعريا ( تبارت شركات أجنبية على إنجاز هندسة داخلية بلا ملامح ... وهندسة خارجية بهيأة فراشة محلقة ما لبت المراكشيون أن أطلقوا بسببها على العمارة اسم بوفرطوطو)[11] وكما هي المعاني الشعرية كان العمارة في شكلها الغريب محط تعجب الناس ( من انبثاق هذا المبنى في قلب المدنية التي يحرس عتاقتها جيش من المحافظين والمخبرين والفضوليين )[12] يتضح إذن أن عنوان الرواية مشحون بالدلات والإحالات الشعرية، فطرفيه استملتا بغير معانيهما الحقيقيتين، وكانتا تجديدا وتمردا على المألوف في العمارة، فكما وقف المحافظون في وده أي تجديد في الشعر قديما ( مع أبي تمام ) أو حديدثا (مع تجربة الشعر الحر ) كان القوس فكرة جريئة في الرباط ، والفراشة شكلا معماريا غريبا بمراكش ، وحتى إن لم يتحقق مشروع القوس على الواجهة البحرية ، فإن تحقيق مشروع الفراشة على تخوم الصحراء كان محط استهجان المحافظين، ورافق تشيده فضيحة عمرانية كبيرة، كما تخض المشرع عن افتضاح سر اختفاء تمثال باخوس الذي ظل البطل يبحث عن آثاره طيلة فصول الرواية.. دون أن يتمكن من إعادته إلى مكانه الذي سرق منه.. ودون أن تتمكن السلطات من العثور على التمثال أصلا ... يتبع .... انتظروا حلقات قادمة