قبل ما يزيد على أربعين عاماً، طرح رولان بارط على نفسه سؤالاً شهيراً أبت مجلة Poétique الفرنسية إلاّ أن تدشن به ميلادها في 1970، ألا و هو?: Par où commencer و قد كنت دائماً أعزوه إلى تعدد البدايات الممكنة التي تلوح أمام الكاتب، سواء أكان مبدعاً أم كان ناقداً، و التي تجعله في حيرة من أمره، لا يدري أي بداية يختار لنصه. و إذا كنت أزعم أنني، في قراءاتي النقدية السابقة لبعض النصوص الروائية، قد استطعتُ، بالمراوغة و التحايل، أن أتغلب على صعوبة هذا السؤال، فأنا أعترف اليوم بأنني، حين كنت عاكفاً على قراءة رواية محمد الأشعري: «القوس و الفراشة» (المركز الثقافي العربي، بيروت ، الدارالبيضاء، 2010)، أحسستُ بأنّ من دونها خَرْطَ القتاد كما يقال ! وفي ظني أنّ السبب لا يعود إلى ما يمكن أن يكون تكثيفاً هيرميسيّاً للنص أو تلبيساً له بالفراغات و البياضات الدلالية قد يكونان من اختصاص الشعر (و الأشعري شاعر أصلا ً! ). فالرواية لا تناصب القارئ أية معاندة أو مقاومة. إن السبب يكمن بالأحرى في ثرائها الفكري و في كيفية تدبيرها لهذا الثراء. فلا شك عندي في أنّ المؤلف قد ضمّنها لا عصارة خبرته بالواقع المغربي المعقد فحسب، بل كذلك خلاصة تصوره للكتابة الروائية. بل يتخيل لديّ (وهذه نقطة سأعود إليها بالتفصيل) أنه، حين كان يكتب «القوس و الفراشة» ، كان تحت ضغطٍ أو هاجسٍ خاصّ مقصودُه أنه يكتب الرواية الثانية و الأخيرة بعد «جنوب الروح» (دار الرابطة، الدارالبيضاء، 1996). لذلك احتشدتْ فيها موضوعات وقضايا وأزمنة وأمكنة جعلتها تهَبُ نفسها للقارئ من منافذ متعددة، من غير أن تكون هناك باب واحدة أو رئيسة تفضي إليها. ومن ثم، كان السؤال المشكل: من أين أبدأ ؟ خيبة العنوان فكرتُ أوّل الأمر في مداهمة نص الرواية من هوامشه وحواشيه علها تسعفني بالجواب. فتأملتُ أولاً في العنوان كما ينص على ذلك علم العنونة ( La titrologie). افترضتُ أنّ بين رمزية «القوس» و «الفراشة» من جهة، ومنطق اعتمال الرواية من جهة أخرى علاقةً ما. لكن تخميني سرعان ما خاب: فإذا كان «القوس» في بعض الأساطير يرمز إلى حالة محددة هي التوتر الدينامي لغرائز البشر الذي ينتهي بتصعيد هذه واستنفادها بكبتها، فإنه في النص يعني بمنتهى البساطة نُصباً فولاذيّاً مقوّساً هائلاً يوحد فضاءين متباعدين، حيث «يجمع الضفتين (...)، ويفوق في علوّه قصبة الأوداية، تبدأ قاعدته الأولى في ذراع المصبّ بالرباط، ثم يعلو منها إلى أعلى نقطة في مساره قبل أن ينزل صوب قاعدته الثانية على الضفة المقابلة » (ص . ص . 107 - 108). هذا إضافة إلى أنّ الناس اختلفوا في تفسيره : «نشأ خلاف حاد في الصحافة بين من (...) دعا إلى اعتبار القوس المفتوح على المحيط دعوة لاعتناق المطلق ومن اعتبره تعبيراً عن فوبيا المغاربة من كل فضاء لا تحكمه الأبواب و الأقفال » (ص. 111). أما «الفراشة»، فإذا كانت ترمز في المخيال الإنساني إلى الخفة و النعومة و البراءة، فإنها في الرواية كناية عن القبح و الشراهة و المال الحرام كما يتمثل في عمارة بشعة شيدها مقاول وصولي في مراكش «لتخرجها من نكهة الماضي السحيق وتضخ فيه نصيباً من الرعونة تكسر صرامة الحمرة والنخل»، وتكون ذات «هندسة خارجية بهيئة فراشة ضخمة محلقة ما لبث المراكشيون أن أطلقوا بسببها على العمارة اسم بوفرطوطو» (ص 291). مرآة هولدرلين المحددة ثم تأملت ثانياً في النص الإيبيغرافي الذي يلي مباشرة نص العنوان، وهو من بنات أفكار الشاعر الألماني فريديريك هولدرلين، ويقول في ترجمته إلى العربية: «ليس شيئاً بالنسبة لي ما لا يمكنه أن يكون لي كُلاًّ إلى الأبد ! ». فوجدت أن هذا النص يمكن أن يعكس في حدود ما بعضاً من مضمون الرواية، وهو هيام السارد بالمطلق و تعلقه بجميع الرهانات حتى ولو كانت خاسرة. كما وجدت أنّ محبوبة هولدرلين، التي تغنى بها في قصائده وكذا في روايته «Hyperion» (1799) قبل أن يفترقا، وأنّ زوجة محمد الفرسيوي الألمانية، التي ستُشغف كزوجها بالماضي الروماني لمدينة وليلي قبل أن تنتحر، تحملان نفس الاسم، وهو (هل هي محض صدفة ؟) ديوتيما ! لكنني سرعان ما عدلت عن هذه الوجهة التي كانت ستجعلني أقرأ رواية الأشعري في مرآة قول هولدرلين، وهو ما لا يخلو من تمحل و إسقاط. بين المطلع و المقطع ثم تأملت ثالثاً و أخيراً في العلاقة التي يُفترض أن تنعقد بين بداية الرواية ونهايتها. فباعتبار المطلع فضاء استهلاليّاً يدشن فيه النص وجوده ويتناصّ فيه مع نصوص أخرى، خاصة منها «نص» الواقع، وباعتبار المقطع فضاء اختتاميّاً يستنفد فيه ذلك النص إمكانيات وجوده وينقطع فيع عن كل النصوص، فإن من المناسب و المنطقي - كما يعتقد نوع من النقد السوسيولوجي ذي المنحى السيميولوجي - أن يرتبط كل منهما بالآخر ضمن علاقةِ تَصَادٍ وتفاعلٍ عضوية. و هو ما لم ألمس أي أثر له في ما بين الجمل الأولى والجمل الأخيرة للرواية. في فلك رواية الأصول إزاء إخفاق مقاربة النص هذه من حواشيه وهوامشه، بحثت عن إمكانيات أخرى لمقاربة مختلفة، مع احتمال أن أعثر في النهاية على ضالتي أو أن أضل عنها. لذلك، و بإمعان النظر في ربيكة الموضوعات و القضايا و الأزمنة و الأمكنة التي يستوي عليها نص الرواية، و التي تجعل جهات النفاذ إليها متعددة، تبين لي أنّ بينها قاسماً مشتركاً يمكن له، في أحسن الأحوال، أن يتكفل بالإجابة عن السؤال: من أين أبدأ؟ ، وهو انسجامها إلى حد بعيد مع مفهوم «رواية الأصول» الذي وضعته مارث روبير مكافئاً لمفهوم «الرواية العائلية» عند سيجموند فرويد . ففي تصور الناقدة أن فن الرواية عرضة لتجاذب ثابت ودائم بين نفي للواقع لا ينفصل عن مؤسسة العائلة التي تتهددها في كل حين أزمات الفقدان و التشتت و الإفلاس من جانب، واعترافٍ به لا ينفصل عن تاريخ الشخص المحروم من هوية أصله و المجبر مع ذلك على معرفة العالم من جانب آخر. وبالاستناد إلى «القوس و الفراشة»، يتضح أنّ لهذين الموقفين أبطالاً يمثلونها خير تمثيل، وذلك في ظل مؤسسة سلالية تختزلها عائلة الفرسيوي التي هاجرت من الريف إلى زرهون - وليلي، والتي ستتعرض لنكبات عديدة ومتواترة يوحدها الفقدان - «لا يبقى في الذاكرة سوى الإحساس بالفقدان ! » (ص . 28) وما يدور في فلكه الدلالي من ظواهر و أحوال، بدءًا بالاكتئاب و الاغتراب والخسران والضياع، و انتهاءً بالعمى و الانتحار والاستشهاد. إنهم أبطال إشكاليون يؤلفون ما تدعوه الرواية ببراعة ب «فسيفساء النحن الأبدية» (ص. 161)، وهم الأب محمد الفرسيوي، و ابنه يوسف، وابن الإبن ياسين، وحولهم تعجّ شخصيات كثيرة ومتناقضة (ديوتيما و بهية و مهدي و عبد الهادي و هنية و إبراهيم الخياطي و الحاج التهامي وليلى و عصام وفاطمة بدري و عباس و المختار وأحمد مجد و الغالية و العبقري و مي وآخرون بمن فيهم من لا أسماء لهم) . وقد أمكن للمؤلف، بمهارة كثيرة أو قليلة (وهذه نقطة ثانية سأعود إليها بعد حين)، أن يتدبر أمر هذه المَنْمَلَة من الشخصيات، التي يلهج كل منها بحوافز ورغبات ولواعج وهلسنات، و التي لا يجمع بينها سوى ما يفرّقها، وهو أن «لا أحد يملك شيئاً لأحد» (ص. 14)، و أن «لا أحد، أبداً لا أحد، يحقق سعادته بالآخرين» ( ص. 14)، و أن «لا أحد يمكنه أن يفهم أحداً» (ص. 81)، وأن «لا أحد يحب أحداً» (ص. 89) ، وأن «لا أحد يعوّض أحداً» (ص. 136)، وأن « لا أحد يقرر في مكان أحد » (ص. 185)، وأن «لا أحد يستطيع أن يدل الآخر على نفسه » (ص. 208)، وأن «لا أحد يستطيع شيئاً لأحد» ! (ص. 301) ! وهو ما يجعلها جميعاً، سواء أكانت «أبطالاً» أم كانت شخصيات ثانوية، نماذج حية لسوء الفهم، فأحرى التفاهم، مثلها في ذلك مثل شخصيات بيكيت أو يونيسكو تماماً أو أكثر. تستهل الرواية قصة عائلة الفرسيوي بعثور الإبن يوسف، وهو السارد، على رسالة مفجعة، دسها مجهول تحت باب المنزل، تقول: «أَبْشِرْ أبا ياسين. لقد أكرمك الله بشهادة ابنك ! » (ص .15) . يتعلق الأمر بياسين، الإبن الوحيد ذي الأعوام العشرين، الذي كان طالباً متفوقاً بفرنسا في مدرسة كبرى للهندسة قبل أن ينخرط في حركة الطالبان بأفغانستان. وهو ما يعلق عليه السارد بمرارة: » لو قدر لي أن ألتقي ياسين في تلك اللحظة لقتلته. لماذا يفعل بي هذا الشيء القبيح و الساخر و المتجبر و المهيمن؟ لماذا يدفعني في الهوة التي وقفت على شفيرها طول حياتي؟ ثم متى حصل ذلك ؟ متى نبتت تلك البذرة المسمومة ؟ (....) لا يمكن أن يحدث ما حدث إلا إذا كنت كل هذا العمر في وجهة مغلوطة ! » (ص . ص. 16 17) . ونتيجة لذلك، فقدَ يوسف بعض صلته بالعالم من خلال فقدانه الغريب و المفاجئ لحاسة الشم، التي سيستعيدها بكيفية لا تقل غرابة و عجائبية حين سيشم، بعد سنوات و بالصدفة، ملابس ابنه ياسين ! كانت هذه الرزية أول إنذار ببداية حلول التراجيديا بالسلالة الفرسيوية، لاسيما أنّ ياسين لم تكن له غيرة على أصله الريفي ولا على محتده العائلي: «سأنجح دائماً من الإفلات من هيمنة السلالة. سأحلق لوحدي، وأسقط لوحدي كما فعلت دائماً» (ص . ص . 235- 236). على أثر ذلك، سيحل فقدان فادح آخر بالعائلة حين أقدمت ديوتيما، زوجة محمد الفرسيوي الألمانية، على الانتحار، لأنها أخيرا «فهمت أن هذه الأرض لن تقبل منها أبداً جذوراً في أحشائها» ( ص . 71)، و«رأت ببصيرتها النفاذة أننا [ أفراد العائلة] نمضي نحو ظلام «دامس» (ص. 195) ، وذلك بعد أن أخلصت في حب أرض وليلي و خدمة أناسها، وبعد أن أخفقت في العثور تحت أنقاضها الرومانية على ديوان جدها هانس رودر الذي كان ضمن الأسرى الألمان الذين أستقدمهم الماريشال الفرنسي ليوطي بعد الحرب العالمية الأولى إلى المغرب من أجل «استخراج وليلي من أحشاء الأرض» (ص. 166). جرّاء هاتين النكبتين، أفلست الأمبراطورية التجارية و الصناعية التي كان محمد الفرسيوي، عقب عودته من بلده الثاني ألمانيا، قد شيدها في المنطقة، و تم اعتقاله بسبب اتهامه بجرائم قتل زوجته الألمانية و إخفاء أشعار جدها عنها و سرقة تمثال باخوس الذي يحرس وليلي. ثم أفرج عنه بعد تبرئته ليصبح، على رغم العمى الذي أصيب به في السجن، دليلاً سياحيّاً يعرّف الأجانب على مآثر وليلي الرومانية. هذا حسب الظاهر. أما في العمق، و بعد اعترافه لابنه بالمنسوب إليه، فهو السخرية من القضاء و الشماتة بعلماء الآثار: «يقول والدي عن هذه البراءة إنها أكبر دليل على حماقة القضاء. ثم ينطلق في تعداد ألف حجة ليس على تورطه في الجريمة فحسب، بل وعلى نجاحه الباهر في القيام بسرقة عظيمة لا يستطيع أحد فك ألغازها [ من أجل] إذلال الرومان وحلفائهم المعاصرين ( ...). لقد سرقت باخوس (...) ودفنته (...). ولو قدرتُ لدفنتُ وليلي كلها وزرهون أيضاً ! (...) دفنته في باحة مسجد مغمور. وها أنا أتفرج من الآن على ذهول علماء الآثار بعد بضعة قرون وهم يتساءلون عما يفعله باخوس، إلاه الخمر الروماني، في باحة مسجد مسلمين زراهنة من القرن الواحد و العشرين ! »( ص . ص . 67 68) . وسيختم هذا الاعتراف بما يعرّض «رواية الأصول» إلى التفكك و التفتت من خلال السخرية من أصله الريفي: «نهاية السلالة ! وماذا لو انتهت واضمحلت إلى الأبد؟ ماذا سيضيع على البشرية من إغلاق أرحام آل الفرسيوي؟ ( ....) السلالة ! يا له من اسم ضخم ! كأننا سنلد من جديد محمد بن عبد الكريم الخطابي ومن معه ! (...) المحارب الوحيد الذي أنجبته السلالة هو ياسين. ولكنه ضاع بدون أسطورة ولا أمجاد» (ص . 183). على أثر هذا، وبطريقة شيكسبيرية، ستبتلعه باحة المسجد إلى الأبد «ليتماهى مع الخراب» (ص . 197) وليختلط رفاته برفات باخوس: «أنا ممثلاً للجنس البشري في أسماله الأكثر فصاحة، وهو ممثلاً للخيال المنسي، للعلاقة بين الحلم والغرانيت» (ص . 258). أما آخر مسمار في نعش «رواية الأصول» تلك، فلا أحد سيدقه أحسن من يوسف الذي، بعد أن صرخ في وجه أبيه بطريقة مازوخية: «إنك لست سوى قاتل غبي وعنصري» (ص. 194)، سيعلن بطريقة أوديبية: «أنا أكره والدي وأكره البلد الذي قتل أمي» (ص. 73) . ألا تتناسب هاتان الطريقتان في بعض الأوجه مع مفهومي «الإبن اللقيط» و «الإبن غير الشرعي» اللذين تصورتهما مارث روبير في تحديدها لمفهوم «رواية الأصول» ؟ فيوسف، برفضه لنسبه، يتنكر أولاً لواقع الأشياء، متمثلاً بهولدرلين الذي، بالمناسبة، يحتار القارئ في نسبة الديوان الشعري المفقود هل هو له، أي للشاعر الألماني المتوله بديوتيما، أم هو لجد ديوتيما زوجة الفرسيوي، أم هو لهما معاً، ينضاف إليهما محمد الفرسيوي نفسه الذي يزعم أنه زاد فيه قصائد رثائية من تأليفه ! فيوسف، مثل هولدرلين إذن، سيستقيل أولاً من العالم احتجاجاً على ما يكتنفه من ظلم ورياء وشقاء. لكنه سيواجهه ثانياً بالحلم بتغييره من خلال الهيام بقيم الحرية و الحب و الجمال و الهارمونيا، تحقيقاً لما يدعوه ب «الخروج من النفق» (ص. 323) . فهل خرج منه فعلاً ؟ توحي الرواية في مقطعها، أي في صفحتها الأخيرة، بعكس هذا، لأنّ نفقاً آخر لا يقل عتامة سيتلقفه رفقة كاميكاز مطوق بحزام ناسف كان يتهيأ لتفجير نفسه في قصر المؤتمرات بمراكش حيث تجري فعاليات المهرجان الدولي للسينما( وهو ما سيذكّره حتماً بابنه ياسين، الذي تخيل مرة أنه يحذره من «ملحمة» انتحارية وشيكة بمراكش) : «ثم رأيته يقترب من حافة الصهريج (...) ويشرع في الصلاة دون أن ينزع حذاءه، كأنه في حرب. فكان هذا التفصيل بالذات هو ما تحوّل في داخلي إلى طاقة هوجاء لم أعد أستطيع معها (...) أن أتذكر شيئاً آخر غير كلمة سمعتها من ياسين قبل شهور ونحن نعود، ليلى و أنا، من عرض راقص: الآن ... الآن ! وانطلقت مثل سهم نحو الشخص (...) لأجمعه بين ذراعيّ وأندفع به نحو الصهريج (...) قبل أن تأخذنا غيمة بيضاء باردة في دويّها الهائل !» (ص.- ص. 331 332). فهل أكون إذن قد تغلبت على السؤال: من أين أبدأ؟ يترجح عندي أن هذه المقاربة لرواية «القوس و الفراشة» (التي قد تكون في بعض جوانبها اتخذت بلا إرادة مني هيئة تلخيص للنص أنا أرفضه ! ) قد ذللت صعوبة الاختيار بين زوايا نظر إلى الرواية متعددة ومتنوعة يفرضها تعدد و تنوع بنيتها الطيمية. * * * * * * * * * * واستكمالاً لهذه المقاربة، أرى من المناسب منهجيّاً الآن أن أنظر مليّاً في كيفية إدارة الرواية لثرائها الفكري الذي نوهت به سابقاً. وأستطيع أن أقول منذ البداية إن الأمر يتعلق بما يبدو لي أن الأشعري قد اجترحه في هذا النص على غير مثال سابق. وهو ذو بعدين. البعد السردي : مونولوج داخلي بصوت مسموع لنتأمل هذين المقتبسين: 1)« لماذا تسأل بجدية عن القوس؟ - لا شيء. فقط أعجبتني الفكرة. - لا أريد أن تقفز على الموضوع. لا علاقة إطلاقاً بين مشاريعي و مشاريعك. هل تفهم؟ - أفهم ذلك. ولكنك لم تعد هنا ! - أنت الذي لم تعد هنا ! - اسمع. هذا القوس لا تحتاجه أنت ولا أنا ولا أي شخص آخر. المشروع الجديد هو الذي يحتاجه (...). هل يمكن أن تفهم ذلك ؟ - نعم. أفهم ذلك. ولكن هذا السطو من قِبلك على الفكرة يزعجني ... » (ص . ص . 109 110). 2 ) « سألني عما إذا كنت خارجاً لتوّي من جنازة. قلت: - شيء شبيه بهذا ! - يجب أن تكون الآن على قدر كبير من الخفة. ألم تكن تحمل هذه العلاقة كجبل ضخم على كتفيك ؟ - ليس الأمر بهذه البساطة. إنّ ما يبدو خلاصاً لأول وهلة لا يمنعنا من الشعور عندما نفعله بأننا ندفن جزء منا. - إنك دائماً تبحث عن عنصر درامي في كل حكاية ! - معك حق. يجب في الواقع أن أحتفل بهذا الحدث السعيد. - أو على الأقل أن تعترف بأنك محظوظ نسبيّاً قياساً إلى الفرسيوي الذي يحمل حتى الآن جثة جدتي على ظهره. - - كلنا يحمل جثة ما على ظهره ! - أرجو ألا تكون بصدد التعريض بي. خالجني خوف مفاجئ. فسارعت إلى التأكيد : - أنت لست جثة كما تعلم. - والآن ... قل لي ماذا ستفعل؟ - سأتفرغ للإهتمام بنفسي. - قبل ذلك، عليّ أن أشركك في موضوع هام. - أرجو ألاّ تكون له علاقة بالوعظ و الإرشاد. - لا ... بل هو قضية حياة أو موت » (ص . ص . 120 121) . لأول وهلة، يبدو أن الأمر في هذين المقتبسين يتعلق بمجرد حوار عادي بين شخصيتين تكون وظيفته بكل بساطة هي بلورة سوء تفاهم أو تطوير الحبكة أو إبراز تعارض في المواقف و تنازع في المصالح أو تنويع زوايا النظر إلى حدث ما، وسوى ذلك من الوظائف المعروفة لدى مؤلفي الروايات. لكن إمعان النظر فيهما يكشف أن الأمر ليس تماماً كذلك. فالطرف الثاني في الحوارين ليس سوى ياسين - الذي سبق أن عرفنا أنه استشهد في أفغانستان - بدليل تلميحه إلى جدته ديوتيما، وإدراكه أيضاً بأنّ المقصود بالجثة هو جثته الشخصية. فهل هو ميت أم حي؟ وما يفاقم الحيرة هو أن السارد نفسه، و هو الطرف المحاوِر، يقول عن ابنه تارة إنه «لم يعد هنا» ، أي في الدنيا، وتارة أخرى إنه «ليس جثة» ، أي ما يزال حيّاً ! الحقيقة أنّ ياسين ميت فعلاً، وأنّ مَنْ يحاوره يوسف الساردُ ليس هو ابنه حتى و هو يحمل اسم ياسين ! فأي شيء تكون هوية المحاوَر إذن؟ شروعاً في الجواب، أقول إن الأمر في ذَيْنِكَ المقتبسين - ونظائرهما كثيرة في الرواية - يتعلق بتنوع فريّ وعجيب قام به الأشعري (وقبله الروائيون الجدد في فرنسا) على ما يعرف ب «المونولوج الداخلي» . ومن أجل تحديد طبيعة هذا التنويع، أشير إلى أنّ المونولوج الداخلي - كما مارسه روّاده أمثال إيدوار دوجردان و هنري جيمس و مارسيل بروست وجيمس جويس وويليام فولكنر وفيرجينا وولف ونجيب محفوظ وغيرهم - يعني تقنية في السرد تسمح للشخصية بعرض ما يعتمل في سريرتها من أفكار ورؤى وهلسنات في حال حدوثها التلقائي و العشوائي، بحيث يستطيع القارئ، وبدون وساطة سارد كلي المعرفة والقدرة و الحضور، أن يدرك الحوافز الخفية و الحاسمة التي تملي عليها أفعالاً أو انفعالات معينة. ويتخذ هذا العرض عادة شكل بوح ذاتي صامت تزاوله الشخصية ، بضمير المتكلم «أنا» ، في لحظات تتسم بالخواء الذهني و الاستيهام الحر، ويختلط فيها المتحقق بالمتخيل، و الإحساس الحاضر بالتذكر. أما التنويع أو التحوير الذي أجراه الأشعري ببراعة على هذه التقنية، فيتمثل في جعل السارد، من حيث هو الأنا الثانية للمؤلف، ينخرط في مناجاة للذات غير صامتة، وذلك بضمير يلتبس فيه «أنا» ب «هو» على نحو واضح وقطعيّ ظاهريّاً، ولكنه في العمق غير ذلك. ليس هذا فقط، بل إن المؤلف جعل كذلك شخصية السارد تتوقف مؤقتاً عن وظيفتها الحكائية الطبيعية لتناجي نفسها على نحو «يسمعه» القراء ولا «تسمعه» باقي الشخصيات المحيطة بها. وهو ما ليس من غير أن يذكّرنا بتقنية Laparté في العرض المسرحي، حيث يتوقف الممثل قليلاً عن أداء دوره ليباشر مُسَارَّاةً لنفسه بطريقة تجعل المتفرجين يسمعونه من غير أن يسمعه باقي الممثلين. وباستقراء كافة المواقع النصية التي أمكن فيها للسارد أن يستبطن ذاته بهاتين الطريقتين، يتبين أنه كان يجد نفسه أحياناً، في لحظات لا تتسم ب «الخواء الذهني»، بل على العكس ب «اتقاد الذهن المتوثب» (ص .11) و التوتر العاطفي، مَسُوقاً إلى هذا الانفصام الذاتي ليقوم بتقييم لوضع ما أو ليفكر في سلوك ملائم لمواجهة طارئ ما أو ليقوم بنقد ذاتي وسوى ذلك من البواعث. فكان، وكأنه أمام مرآة متوهمة، يحاور نفسه دون أي رأفة أو مداراة أو حياد. وأيّاً كان الباعث، فإن السارد يحرص دوماً على التمهيد لهذا الانفصام بطقس خاص هو استحضار صورة ابنه ياسين، وذلك من خلال قوله مثلاً: «جلستُ بعد إجهادِ نفسي بالمشي و الأفكار السوداء في مقهى قريب من النهر. هتفتُ لفاطمة، وقلت لها إنني أنتظرها هناك. وفي هذه اللحظة، ظهر ياسين وبادرني قائلاً (...) » (ص .109)، أو قوله أيضاً: «سألتني [ زوجته] وهي تنصرف بماذا أريد أن أحتفظ من أشياء ياسين. قلت ملتاعاً: بقطعة من ملابسه. تيشورت مثلاً أو قميصاً من قمصانه. [ ثم] ذهبتْ، فلم أتحرك من مكاني. [ حينئذ] نزل ياسين إلى الطاولة وسألني ( ... ) « (ص. 120) ، أو قوله: «في طريقي إلى المطعم، وخزني ياسين: - ماذا جرى لك؟ » (ص. 135)، أو قوله كذلك: «أوصلتها إلى سيارتها وقلبي منقبض. وما أن اختفت خلف سياج المطعم حتى اعتراني هلع كبير. ولولا ظهور ياسين في تلك اللحظة بالضبط لكنتُ (...) » (ص . 145) ، أو قوله أخيراً لا آخراً : «توجهتُ رأساً إلى غرفتي مصمّماً على النوم حتى يزِفّ الليل. [ عندئذ] وضع ياسين يده على خدي كما كان يفعل عندما كان رضيعاً. فتحتُ عيني مستنشقاً عبير طفولة بعيدة. وابتسمتُ له. قال إنه يظهر لآخر مرة في حياتي ثم سيختفي إلى الأبد. اسمعْ (...) (ص. ص .234 235). كم يحلو لي أن أشبّه هذه اللحظات الرهيبة - التي يكون يوسف مستوهماً فيها أنه يكلم ياسين، في حين أنه يكلم نفسه - بأنها القدر يخبط بيده الباب ليتوعده ، نفس القدر تماماً الذي تخيله بيتهوفن في الحركة الأولى للسامفونية الخامسة !إن ما يتحصل من ذلك التوليف الماكيافيلي المشروع بين تقنية le monologue intérieur في الرواية و تقنية L aparté في المسرح هو طبعاً انتفاء التعارض المؤسسي و الممأسس بين المقولات، فيصبح «الآخر» هو «الأنا»، و «الموضوع» هو «الذات» و«السيمولاكر» هو «الأيقونة» . وبتعبير أقل تجريداً، يصبح المسرود له هو «السارد»، ومن ثم « ياسين» هو «يوسف» ، بل وتصبح «الفراشة» نفسها في نهاية التحليل ، أي في نهاية التحليق، هي «القوس» الذي تخطئ نِبَا لُه ُطريقها إليها ! * * * * * * * * * * * نص القراءة التي شاركتُ بها في لقاء حول «القوس و الفراشة» بتطوان نظمته المديرية الجهوية لوزارة الثقافة في 6 يونيو 2010، بحضور محمد الأشعري و مشاركة محمد عز الدين التازي