العرائش أنفو في عالم أصبح فيه الصدق عملة نادرة، وجد الدين نفسه ضائعًا بين الأيدي التي استغلته. لم يعد الإيمان في الكثير من الأحيان معركة روحية أو علاقة فطرية مع الخالق، بل أداة تُستخدم في الأسواق السياسية والاجتماعية، لبيع الأوهام وتحقيق المكاسب. أصبح الدين سلعة، يُشترى ويُباع حسب الحاجة، وتُرفع لواءاته في وقت الفتن ليتوارى خلفها الفساد. وبدلًا من أن يكون الدين مرشدًا للنفس وتهذيبًا للروح، بات وسيلة للاحتيال على القلوب وتوجيه العقول إلى مسالك مظلمة. الإيمان الصادق لا يحتاج إلى زخرف القول ولا إلى الاستعراض على مسرح الحياة. هو في جوهره صفاء، يضيء الروح بصدقها، ويهدي الإنسان إلى الطريق الأقرب إلى الله، الذي لا يراعي المظاهر ولا يبحث عن الزخرف. ومع ذلك، نجد أن الكثيرين قد استبدلوا البساطة بالجلبة، والصدق بالزيف. يتحدثون عن الفضيلة بألسنة قد غابت عنها أفعالها، وتعلو شفاههم كلمات الرحمة وهم لا يعرفون من الرحمة إلا ما تنقله الألسن. إنهم يجيدون فن الكلام، لكنهم لا يفهمون جوهر الفعل. بينما يدّعون أنهم يحملون لواء الدين، يكمن في قلوبهم السعي وراء السلطة والنفوذ، لا وراء الخير والعدل. الدين في أيديهم عباءة فضفاضة يخفون تحتها آلامهم وطموحاتهم الزائفة. يستخدمونه لتخويف الناس، لا لإرشادهم. يسخرونه لترسيخ الخوف بدل الأمل، والفرقة بدل الوحدة. وهذه هي الكارثة الكبرى: أن يصبح الدين سلعة تباع لمن يدفع الثمن الأعلى، بدل أن يكون نورًا يتسرب إلى القلوب ويضيء النفوس. والمجتمع الذي يقبل هذا النوع من التدين المزيف، يصبح مجتمعًا يعاني من ازدواجية القيم. يقدس المظاهر أكثر من الجوهر، ويسير على خطى الأباطيل التي يروج لها أولئك الذين يرفعون شعار الدين بينما لا يعكسون في حياتهم أبسط مبادئه. يتوزع فيه الناس بين من يعبدون القشور ويسعون خلف سراب النفاق، وبين من يصدقون أن الحقيقة قد تآكلت وسط هذا الضجيج. إن هؤلاء الذين زعموا أنهم حماة للدين قد ضلوا الطريق، فالدين لا يحتاج إلى ممثلين ولا إلى وسطاء. إنما هو علاقة طاهرة بين الإنسان وبين ربه، لا يراها أحد إلا الله. هؤلاء الذين يجعلون من الدين سلعة سيتضح زيفهم مع أول اختبار حقيقي، لأن الدين لا يُختبر بالكلام ولا بالشعارات. لا شيء في العالم يدوم إلا الصدق. والصدق هو ما يحتاجه الإنسان ليعيش الإيمان في قلبه لا في ظاهره. الإيمان لا يطلب منك شيئًا سوى أن تكون صادقًا مع نفسك ومع غيرك، وأن لا تستغل كلمات الله لتحقيق مآربك الخاصة. فإذا فقدنا هذا المعنى، وقعنا في فخٍ لا مفر منه. وأصبحنا نعيش في عالم من الأقنعة والشعارات المزيفة، حيث يتم التعامل مع الدين كما لو كان سلعة تُعرض للبيع في الأسواق، فترتفع أسعار المزايدات وتغرق القيم في مستنقعات النفاق. ثم، من يعتقد أن اللحية وأداء الصلاة هما رمزان للتدين، يعيش في حرب داخلية مع نفسه. فهو يتسارع مع نوازعه الخبيثة وأسلوبه الماكر، ظنًا منه أن هذا الالتزام الظاهر سيجعله محبوبًا في أعين الآخرين. بينما يغفل عن أن التدين الحقيقي لا يُقاس بما يراه الناس، بل بما في القلب من صدق وإخلاص. فمن يختبئ وراء ملامح دينية لتغطية فراغه الداخلي، لن يجد راحة إلا في صراع دائم مع ذاته، فهو في سباق مستمر مع نفاقه. لا يستطيع أن يجد حلاوة الإيمان إلا عندما يتصالح مع نفسه أولًا، ويترك وراءه كل الأقنعة والادعاءات. في النهاية، يبقى الإيمان كما هو: عميقًا، بسيطًا، طاهرًا. لا يحتاج إلى مهرجانات ولا إلى دعاوى فارغة. كل تدين مزيف، مهما حاول إخفاء زيفه، لا بد أن ينهار حينما يواجه الحقيقة. الإيمان لا يتطلب أضواءً ولا كاميرات. يكفيه أن يلمع في أعماق القلب، ويظهر في كل فعل بسيط، دون أن يتطلب شهادة من أحد. في زمن خُدعت فيه العيون، ظلت الحقيقة كامنة في قلب الإنسان البسيط. لا يُحتاج إلى الكثير من الكلمات، فقط قليل من الصدق يكفي ليعيد للروح طهارتها، وللحياة معناها.