المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    ارتفاع رقم معاملات السلطة المينائية طنجة المتوسط بنسبة 11 في المائة عند متم شتنبر    إيداع "أبناء المليارديرات" السجن ومتابعتهم بتهم الإغتصاب والإحتجاز والضرب والجرح واستهلاك المخدرات    بلومبرغ: زيارة الرئيس الصيني للمغرب تعكس رغبة بكين في تعزيز التعاون المشترك مع الرباط ضمن مبادرة "الحزام والطريق"    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الرباط.. إطلاق معرض للإبداعات الفنية لموظفات وموظفي الشرطة    بوريطة: الجهود مستمرة لمواجهة ظاهرة السمسرة في مواعيد التأشيرات الأوروبية    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    ‬النصيري يهز الشباك مع "فنربخشة"    الجمارك تجتمع بمهنيي النقل الدولي لمناقشة حركة التصدير والاستيراد وتحسين ظروف العمل بميناء بني انصار    عبد الله بوصوف.. النظام الجزائري من معركة كسر العظام الى معركة كسر الأقلام    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    عمليات تتيح فصل توائم في المغرب    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة        المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء    التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي    اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور        قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب        19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الهدية الأخيرة» لمحمود عبد الغني:
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 11 - 10 - 2013

عرفت الرواية المغربية المكتوبة باللغة العربية تراكما حيويا، وبدأت تبحث لها عن منافذ أخرى وجاذبية خاصة، وبدأت تتخلص تدريجيا من التجريب وتعود إلى أهمية الحكاية، وبالضبط إلى سؤال الكتابة. فجل الكتابات الروائية الراهنة تطمح إلى خلق لغة أدبية قادرة على استيعاب لغات المجتمع المتداولة، لكنها تسقط في إعادة إنتاج مضامين وإن تبدو جديدة، بلغات مجتمعية وكتابة نمطية. وعليه، تصبح الكتابة الروائية كتابات أدبية، بل هي الأدب في تباعده عن الإطار الشكلي بنوع من السخرية حينا وبنوع من الالتزام حينا آخر. فإشكالية الرواية اليوم قد تتلخص في إشكالية اللغة، بتعبير آخر، كلما توارت اللغة وازدادت ارتيابا، كلما تصالحت لغة الكاتب مع لغات المجتمع في حدودها القصوى، عوض التصالح مع معايير ونماذج الكتابة. لهذه الاعتبارات، نلاحظ أن الرواية المغربية اليوم، لا يكتبها فقط الروائيون بل المؤرخون والقصاصون والحقوقيون والنقاد والشعراء كحالة كاتب نص «الهدية الأخيرة» محمود عبد الغني أو حالتي حسن نجمي ومحمد الأشعري وغيرهم، وهذا التنوع عنصر إخصاب للكتابة. لهذا أصبحنا نحتار في تنميط وتصنيف هذه الكتابة في خانة محددة، بحيث لا نستطيع تحديد خاصية نصية عندما يتجاور التجريب مع الحكي التاريخي والسيري التخييلي والأسطوري والرحلي والفلسفي والشعري والفني.. الخ. لكن بالمقابل، نلمس على أن الكتابة الروائية أصبحت تُعد تنظيرا قبليا Pré-théorisation لكل بحث يهتم بالإنسان وقضاياه، بل أصبحت الكتابة امتصاص للهوية الأدبية لأي عمل من هذا القبيل. لكن المفارقة، هي أن الروائي أصبح يتموقع في وضعية متناقضة وهو يحاول إعادة تكسير الزمن الخطي مثلا أو يحاول تغييب الحكاية أو مزاوجتها لخلق زمن متجانس خاص بعالم الرواية، فتكون النتيجة هي أن تصبح مادة الحكي غير مُلزمة بقواعد الشكل، ولا تستطيع أن ترقى إلى تجاوز أسطورة الأدب، وإما أن يعترف الروائي ضمنيا بطراوة الواقع المعيش وتجدده المستمر واللامتناهي، ولكي يتم التقاطه لا يجد بوسعه إلا لغة متجاوزة ومتهالكة أو ينفذ إلى هذا الواقع من بوابات أخرى. وهو يفعل ذلك، يبدأ يُلامس المفارقة الكبرى بين ما يكتب وبين ما يُعاين، لكنه في الوقت نفسه يحاول محاكمة الكتابة الروائية ليمنح لها حكما بوقف التنفيذ من خلال استعمال لغة قائمة وكائنة. فوضعية الرواية اليوم تلخص وضعية المجتمع، فهي بحث استباقي لحالة تجانس في مجتمع يغيب عنه هذا التجانس. لهذا نجد كتابتنا الروائية اليوم مرهونة بنزعتين: أولها حركية القطيعة مع ما هو كائن ثم حركية النزوع نحو التجديد والتجاوز. فهذه الكتابة الروائية قد تحمل في مشروعها استيلاب وحُلم التاريخ معا. فهي كضرورة قد تكون تؤكد على تمزق اللغة والكتابة الملازم لتمزق المجتمع والفرد، وكحرية فهي وعي بهذا التمزق ومحاولة لتجاوزه.
يمكن إذن أن ندرج نص «الهدية الأخيرة» الحائز على جائزة المغرب للرواية سنة 2013 في هذا السياق. فهو نص يتأسس من خلال مقاطع التخييل البيوغرافي والعمل الفني المتخيل من خلال شخصية أحادية «سعاد حمان» تقدم نفسها بشكل تلقائي: «اسمي الحقيقي هو سعاد حمان، لكني غيرته عندما أصبحت عارضة أزياء فأصبحت أعرف في هذه الأوساط براضية محجوب» (ص9). هذه الازدواجية الأونوماستيكية (الإسمية) إشارة دالة على وجود نوع من التباعد بين الذات والذات وبين التصوير الفوتوغرافي المبتذل والمنحصر في عرض الأزياء وبين التصوير الفوتوغرافي الذي تحول من موهبة إلى احتراف ثم عشق فجنون. فعنوان «الهدية الأخيرة» هو مدخل لعرض مقارن قام به المصور الفرنسي ريمون دي باردون (Raymond de Bardon) بين عمله وعمل المصور الأمريكي ستيف شور، فتلقفته الراوية والمصورة الفوتوغرافية باعتباره الهدية الأخيرة التي عادت بها من البرتغال. انطلاقا من هذه الإشارة نلمس أن الرواية تدور حول فن التصوير الفوتوغرافي وأدبياته، وقد نفهم هذا الاهتمام بالفن الفوتوغرافي من خلال مدلولات الصورة الفوتوغرافية وليس من خلال أدلتها (Sa)، لأنها تُمسرح موضوعاتها من خلال أفكار وتماثلات واستيهامات، فكلما بدا الدال (Sa) ثابتا كلما ازداد المدلول حيوية وحركية (Se). فعشق البطلة للصورة الفوتوغرافية نابع من المفارقة التي تتأسس عليها أساليب الصورة من وضع الأشياء والوجوه في إطار ثم التعالي بها من منظور جمالي وصولا إلى قياس المسافة بين الموضوع والمصور بنوع من التباعد، ولعل هذا ما يفسر تصدير الرواية بعتبة لجون هاوكس:»لا يوجد الجمال في عين المشاهد، كما يقال، بل في عدسة آلة التصوير. عين الآلة هي العين الوحيدة التي ترى الجمال الحقيقي، أي جمال المرأة». كما يفسر في الوقت نفسه العلاقة المزدوجة بين البطلة وآلة التصوير: «ثم نشأت بين يدي وآلتي علاقة غريبة شاذة وعنيفة، علاقة رفض طرف لآخر.» (ص11). فالرواية إذا وظفت العمل الفني التخييلي الفوتوغرافي في بُعده الثقافي وليس في بُعده الموضوعي كحامل لموضوعة ما.
تزداد هذه العلاقة بين التصوير الفوتوغرافي وبين نص «الهدية الأخيرة» تماسكا من خلال قوة الصورة الفوتوغرافية على التسجيل والشهادة (ص21): «صورت مدنا كثيرة، مواقع كثيرة في المدن، قلاعا، وجوها، مساجد، معابد، أديرة، أحذية جنود.. كل شيء. وكنت أقف عند الضوء الذي يجعل من الصورة عملا ناجحا» (ص21) وقدرتها على قراءة ايقاع الزمن لأن «التصوير الفوتوغرافي أقرب ممارسة إلى الأدب» (ص25) «وإطارا خاصا للطموحات الشخصية». (ص32).
لكن للصورة وظيفة ترسيخية وتنفيسية لأنها تنتصر على الضجر، بل تنتج أحيانا تفاعلات لا تخطر على البال من قبيل الخوف كركيزة يتم من خلالها صناعة الفوز، أو من قبيل الاهتمام بتفاهات اليومي والسمو به: «عندما اجتنب المصورون مكبات النفايات والأسلاك، واللافتات المبالغة في ادعاءاتها (...) وكل ما يمكن أن يسقط تكوين الصورة، انكببت أنا على كل ذلك.» (ص144)
ارتبطت الرواية بالصورة كذلك من خلال أسماء بعض المصورين والنقاد كالمصور دوكامب صاحب المعابد المصرية وبول راي مصور الأحياء وادوارد يوبا، صاحب الاحتكاك الصاعق والشامل بالأشياء وجانول آيان عبقري صور الميترو وخاصة المصورة الأمريكية لي ميلر، التي من خلالها انفتحت الرواية على كل العوالم وأليكس كليو روبو ابنة أخ الشاعر الفرنسي جاك روبو. بالمقابل كانت لشخصية الناقدة الأمريكية كارمن بلوم وقعا على تحول مسار بطلة نص «الهدية الأخيرة» في محاولة من هذه الأخيرة للتخلص تدريجيا من شبح لي ميلر وللتأمل في مسألتي أحادية أو تعدد النماذج، هل هي امتياز أم عائق ومسألة الجسر كرابط وجودي لأي ثقافة. أمام هذه الإشارات المنبثة هنا وهناك، يبقى الأهم بالنسبة للبطلة العاشقة للصورة الفوتوغرافية هو «تصوير الجسد المتفحم، الجامد والجاف في الحروب والنحيل، الخائف والضامر في المعتقلات»، فسر هذا العشق للصورة وتقاطعها مع الرواية يكمن أولا في التقاط العتمات التي تظلل الحقيقة.
وكما تشتغل آلة التصوير، يشتغل الحكي بمنطق السرد البؤري (Narration focalisée) وبالضبط من خلال تقسيم النص إلى فصول سردية مصدرة بعتبات ثقافية وفنية متنوعة وفلاشات متوالية من خلال راوية واحدة مجنونة بالفن الفوتوغرافي إلى حدود التماهي مع المصورة الأمريكية لي ميلر، فراح النقاد يشبهونها بها: «كان هذا التشبيه بنية إثبات أنني نسخة ولست أصلا» (ص9). بل ودأبت سعاد حمان تبحث عن نفسها فيها، تدرسها، تحاضر عنها تزور المدن التي مرت بها، تروي علاقاتها بها وحركاتها في الزمان والمكان كأنها تحاول تجاوز النموذج وتحرير الذات من هوس التماهي الذي بلغ أقصى حدوده عندما: «بدأت الظلال تخلف وراءها الأحلام والمخيلة التي سرعان ما تتعب. والصورة المبحوث عنها تمضي في الاختفاء وراء الغيوم» (ص118).
في هذا الإطار تزور سعاد/ الراوية المصورة مجموعة من المدن كالقاهرة، وباريس ولوديف ومونبوليي وبورطو بالبرتغال، تشارك في ندوات ومعارض (الفن الفوتوغرافي والصحراء كمثال بالقاهرة)، تحاضر عن قرينتها لي ميلر، تتخيل مواقف لي ميلر وسلوكياتها، وتفترض ردود أفعالها. وهنا تتخذ المدينة بعدا روائيا وجماليا بحيث تصبح القاهرة مدينة الضوء الحاضر والغائب والطاحونة الصامتة، المدينة الشبح في الحلم، ثم باريس التي تشبه عقل إنسان (ص65) عاصمة الضحك والرموز وديكور رواية لن يكتبها أحد، بل هي مدينة تتحول إلى مدينة مجردة ولوديف المدينة القلقة ذات العمارة الذكورية ومونبوليي المدينة المتوسطية التي التقطت معالمها من خلال وصف الأماكن القابلة للتعاوض كالجسور والمراكز والقطارات وغرف الفنادق..الخ، ليبقى القاسم المشترك بين هذه الأمثلة هو التحولات التي تعرفها المدن من مدن ايكولوجية إلى مدن إسمنتية بل وطروادية ينخرها الألم فتصمت.
من خلال هذه المدن نتعرف كذلك إلى شخصيات أخرى في النص تتراوح بين الصديقة الصحافية (هالة قباج بالقاهرة)، والمصور الفوتوغرافي، والناقد الفني ومؤرخ الفن، وهي شخصيات تختلف من مدينة إلى أخرى. على هذا المستوى بين المحور والهامش، تتشابه المرويات على لسان سعاد/الراوية في المدن المختلفة. ففي كل مرة ثمة صديقة تتفقد معها الأمكنة، ثمة ناقد فني أو مؤرخ فن تتجاذب معهما
الحديث، وثمة طقوس سياحية تمارسها، ودائما ثمة لي ميلر تستحضرها من الزمان وتقتفي أثرها في المكان وتكاد تتقمص شخصيتها حتى تتحول إلى عبء يثقل كاهلها وتود التحرر منه، وهو ما ستحاوله لاحقا بالكتابة كنوع من السمو بالتماهي واللعب الجدّي، حيث ينقلب مجاز اللعب بخطية الأمكنة من خلال أفقية الزمان وتعدد الخطابات عن لي ميلر.
رافقت هذه الدينامية النصية، قضايا فلسفية ومجتمعية وسياسية وثقافية راهنة تنم عن ذاكرة مقروئية غنية. إلى جانب سؤال التماهي وحدوده، أثيرت العديد من القضايا كقضية الوحدة التي اعتبرت شكلا من أشكال الإحساس بغياب الآخر في حضوره (ص85) كما أثيرت قضايا من قبيل الفن الملتزم من خلال نموذج المصور جاكوب رييس وروني ويلي وقضايا إنسانية أخرى مرتبطة بالوجوه العابرة إما بغرض مساءلة الواقع المعيش أو بغرض امتصاص كآبة اليومي وتفاهاته (ص72-73) ومن خلالها، يتم إعادة الاعتبار إلى البعد الايكولوجي في حياتنا اليومية المثقلة بالهموم والانكسارات (أهمية النباتات- أهمية القط في حياة الراوية وخطوط التماس بين الحيواني والإنساني والنباتي).
اغتنت هذه الدينامية النصية كذلك بمدخلات سردية متنوعة وبوليفونية كالحكي بالرؤيا (Le songe) وتفسيرها (ص13 وص14) وهنا، نستحضر رائعة أندري مالرو La condition humaine (ص78) «نمت وبدأت أرسم» بخصوص المراسل الصحفي الذي ينقل أحداث الحرب الأهلية بإسبانيا من دون أن نغفل أن لي ميلر قد عملت كمراسلة وكمصورة برفقة دافيد شِرمان لصالح مجلة Life و Vogue، كما ثم توظيف استحضار الماضي عبر الذاكرة الحالمة (ص22) واستثمار الوصف الوظيفي من خلال إطار النافذة كفضاء عتبة (ص78) برزت من خلاله ذاكرة مقروئية للراوية، بل وأحيانا تتحول الأمكنة إلى عوالم فانطاستيكية بمضاعفة الفراغ والظلام وهوس الازدواجية (ص177). بالمقابل توظف الناذرة (Anecdote) كمدخل للسخرية (ص88) كقصة المرأة الأمريكية الماكثة في مرحاضها لأزيد من سنتين: «كل الأشياء العجيبة تأتينا من أمريكا» أبعد من ذلك، ينفتح النص على إشارة ايروتيكية من خلال علاقة الراوية سعاد
بسعيد (ص90) ومن خلال موضوعة الحب المقترن بالموت (Eros?thanatos) لتختتم هذه الأساليب السردية بالحكي المعاود أو المعكوس بصيغة الحوار الضمني مع إبطال فعل السرد الرحلي (ص101). وبموجز ارتدادي وانعكاسي من خلال تصفح رسائل كارمن والكتب الموجودة بالغرفة ليتم إعادة تركيب جزء من الرواية عبر تأمل الصورة.
هذه الدينامية النصية مزيج من أجناس مختلفة، من سيرة تخيلية وأدب رحلات وانطباعات سياحية ومقاطع مكتوبة بحدة قصيدة النثر وتاريخ فن وأحكام نقدية وتغطية صحافية ودعاية وكتابة إشهارية ونوادر الخ.. لهذا السبب نتساءل، هل نص «الهدية الأخيرة» محاكاة لأعمال أنجزت عن لي ميلر من قبيل «لي ميلر، ملهمة وفنانة سوريالية» لابنها أنطوني بنروز Anthony Penrose ؟ أم هي إعادة كتابة للفيلم الوثائقي عن لي ميلر وعبور المرآة للفرنسي سلفان رونيل؟ أم هو نص العبور الأجناسي بامتياز؟ ليست هناك حكاية بالمعنى المتعارف عليه (مقدمة ذروة ثم حل) بل مشاهد مروية من خلال جولات مكانية وثقافية أفقية في مدن معينة لتصبح الصورة كرونوطوبا من خلاله تظهر شخصية محورية تتجاذبها رغبة في الاختلاط والنزوع إلى الوحدة. فغياب الحكاية بالمعنى البدئي لا يُفقد النص هويته، لأن الرواية حمّال أوجه، يستوعب بصيغة حكائية كل الخطابات الممكنة وكل السيناريوهات المحتملة للواقع في أدق تفاصيله. ولعل هذا ما خلصت إليه سعاد الراوية المصورة حين قررت الكتابة: «بدأت أؤمن بأن في الرواية أيضا يمكن العثور فيها على تلك العبارات المجازية القوية التي تضع في ذهنك نوعا من الوحي» (ص133).
ففي الرواية نجد المحكي الرحلي من خلال زيارة المدن، نجد الكتابة التراسلية في صيغتها الجديدة من خلال الأقصوصة التراسلية: «أنت تنام وحدك الآن، انتظرني حتى تنتهي الحرب وأعود إليك» (ص85) أو الرسالة الالكترونية كجنس وسائطي ووسيطي بين الشفاهي والمكتوب (رسالة من الروائية إلى حياة ثم إلى كارمن الناقدة الأمريكية). كما نقف عند بعض المقاطع الشعرية: «هذا الغياب هو الشيء الحي في بيتي» (ص71) «الأشجار واقفة بغربة بين الأزقة الصامتة» إلى جانب أن النص معبر لنصوص ومقاطع شعرية لشعراء مثل فيرنادوا بيسوا وأبولينر وغابرييلا مسترال: «وحين يغطي الليل البرية/ نتماسك بأيدينا منتحبين...» (ص43-44) وهو في الوقت نفسه معبر لتأملات نقدية ( (ص65) وضعية الشعر العربي بالمقارنة مع الشعر الغربي: حديث مقهى بلوديف) تتقاطع مع ما هو تخييلي وصولا إلى الإطار السردي للنص. هذا الأخير إذن، عمل مركب قائم على لعبة الأجناسية العابرة «Transgénérécité». وعليه، إذا افترضنا أن الجنس الروائي خاصية نصية «للهدية الأخيرة»، فربما سنخطئ التأويل، لأن جنس هذا النص ينشأ وينمو بفعل القراءة والتأويل، ليصبح الجنس الحقيقي «للهدية الأخيرة» خاصية تأويلية، لمسار القراءة التي توحي بالشعور المربك أن هناك لغزا بعيدا عن التناول، ولعل هذا ما يميز نص «الهدية الأخيرة»، كعمل غير مكتمل ومنتهي بإمكاننا إدراجه في مشروع نصي وتأويلي كانت «الهدية الأخيرة» أول حلقاته. هذا الانتقال من الخاصية النصية إلى الخاصية التأويلية تضمنه قرار البطلة مجازا، وذلك عندما اتخذت قرار التخلي عن التصوير الفوتوغرافي وتكريس حياتها للكتابة، لأن المصور يكون وحيدا مع آلته، لا يملك فكرة ولا موضوعا، وعليه، لن يكون أقوى من آلته ومما يصوِّره، في حين أن الرواية نفي لأي هوية حصرية وثابتة وانتصار على كل توق زائف إلى الكمال.
نشأ نص «الهدية الأخيرة» إذن في أحضان علاقة الرواية بالتصوير الفوتوغرافي، لكنه بدأ ينمو موازاة مع عناصر خارجية محافظا على ديناميته حتى وإن تغيرت المواقف والمواقع، إذ يحتوي على قدرة للتأقلم مع كل التحولات الطارئة. هذه الخاصية التي تميز نص «الهدية الأخيرة « هي خاصية المعاودة «La récursivité»، أي مزيج من عناصر ثابتة غير متغيرة وأخرى متوافقة مع كل التحولات. لا نغيب كون مسألة الجنس، صيغة أولية لكل إبداعي وتدخل ضمن أبجديات العقل الإنساني، إلا أن نص محمود عبد الغني يُعد مختبرا لإعادة بناء نماذج نظرية من خلال التمثلات والاستيهامات لشخصية أنثوية تسعى للتحرر من النموذج في علاقاتها المابين شخصية، وعليه فالنص هو مرداس أو مدحاة لحالات إنسانية على شاكلة نصوص بورخيس وموباسون وموراكاني هاروكي وآخرون، بالموازاة فمسألة جنس النص لا يمكن عزلها عن جنس الراوية كأنثى.
قد يكون هذا الاختيار لصيغة حكي أنثوي نابع من طبيعة المرأة المائل لليونة والانكسار وقابليته لتطويع الأشياء، فكلمة المرأة من خلال اشتقاقاتها اللغوية الغنية مرتبطة بالتمرُّأ، أي الخوض الانفعالي في مسائل دنيوية بالخضوع لفتنة ما، ولعل هذا ما يفسر جنون وعشق الراوية سعاد لفن التصوير وعوالمه التخيلية، ثم إن المرآة هي المرآة التي تعكس من خلالها صورتها الذاتية بين التماهي والتباعد ! «أليكس ولي ميلر وأنا، حواء وحواء» (ص97) فصيغة الانتصار إلى الأنوثة من منطلق الحكي رغبة لا واعية للتماهي مع المرأة الراوية والساردة بامتياز ألا وهي شهرزاد، أي أن وظيفة الحكي بالنسبة للمرأة شرط وجودي ينم عن إعادة الاعتبار للنوع (الأنثى) (Le gender) من خلال الجنس (Le genre).
لهذه الاعتبارات إذن يتعين التأكيد على أن «الهدية الأخيرة» وهي تتنفس من نوافذ مختلفة، قد أوجدت لنفسها إطارا للطموحات التأويلية وانخرطت بذلك في مشروع تنظير قبلي لمستقبل الرواية المغربية المكتوبة باللغة العربية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.