«الذين لم يمسكوا قط آلة تصوير في حياتهم عليهم أن يفعلوا ذلك في حياة أخرى. آلة التصوير ، ذلك أفضل ما يمكن أن يشتريه المال » : على هدي هذه الجملة الابتدائية وما تضمره من احتمالات حكائية خصبة ومتشعبة ، يستهل الكاتب المغربي «المرتحل» محمود عبد الغني روايته الأولى ، الصادرة عن منشورات «المركز الثقافي العربي » ، تحت عنوان: «الهدية الأخيرة» ( الدارالبيضاء، 2012 ). وقد وسمناه ? «المرتحل» لأنه ابتدأ شاعرا من فرسان قصيدة النثر ، ثم عرج على كل من النقد والترجمة استجابة لمقتضيات إعلامية وأكاديمية ، قبل أن يطل علينا ساردا يمتلك بصمته الخاصة وكدحه الحكائي المتميز ، من زاوية الإضافة والاختلاف ، لا من زاوية الاجترار و الإقامة في الصدى، بحثا عن ما تمثله الظنون لا عن ما تتملاه العيون. وفي واقع المسار التخييلي لهذا العمل المركب، القائم على لعبة التّماهي والتضاد ، فإن الدعوة المتضمنة في عتبة المفتتح السردي ، لا تخص بالضرورة القارئ المفترض ، وإنما تتوجه بها الشخصية الرئيسية إلى نفسها وإلى النسخ المضاعفة التي سوف تؤول إليها . دعوة تسميها الرواية ? « الشرط الوجودي » ، وتتخذها بمثابة حيلة فنية دائرية لجري البطلة في مدار مغلق وراء سراب هويتها الضائعة وكينونتها المتصادية مع نساء أخريات على طريقة فرناندو بيسوا أو خوسي ساراماغو في اجتراح الأنداد واختلاق المصائر . فهي في بداية الأحداث كانت تدعى « سعاد حمان» ، لكنها تعمد إلى تغيير اسمها الحقيقي إلى « راضية محجوب » لمّا أصبحت عارضة أزياء ، وفي ما بعد « تتطابق » سيرتها وتفاصيل حياتها مع المصوّرة الأمريكية « لي ميلر » عندما بدلت مهنتها لتحترف التصوير الفوتوغرافي ، وفي ختام الوقائع الروائية تستعيد مرة ثانية اسم «سعاد حمان » حينما أدركتها حرفة الأدب وقررت أن تصبح « روائية » . غير أن « التطابق » المشار إليه ، والناجم عن تأويل مغرض من قبل » ناقد خبيث « كان قد كتب دراسة عن واحد من المعارض الفوتوغرافية للبطلة ، ظل لصيقا بها مثل اللعنة وتحول بمرور الأيام إلى عذاب ذهني يقض روحها ، لأنه » كان بنيّة إثبات أنها نسخة وليست أصلا « . من هنا ، وبغاية الخروج من جلد » لي ميلر « والتخلص من ظلها الملازم لها ، تبدأ الشخصية الرئيسية عبر فصول الرواية رحلة البحث عن ذاتها وهي تقفو الأماكن التي مّر منها » نموذجها « . عملية كانت أشبه بحفر البئر من الأسفل أو صعود النهر بمعاكسة التيار . لكن ، المرور بكل من القاهرة وباريس وبورطو لم يتمخض عن الأثر الارتكاسي المتوقع كي » تختفي الصورة المبحوث عنها « ، كما » لم يساعدها على نسيان هاته المرأة التي دخلت إلى عقلها واحتلته احتلالا إلى درجة أن جسد ذلك المحتل أصبح داخل جسدها كأنهما جسد واحد « ، بل على النقيض من ذلك عمّق أزمتها ا?نطولوجية ، وجعل نفسيتها تقف على الدوام خلف أسطورة المرأة التي سكنتها حد الحلول والتقمص. المرأة ذاتها ، التي اكتشفت ذات يوم » أن الجمال لا يوجد في عين المشاهد ، بل في عدسة آلة التصوير ، لأن عين الآلة هي العين الوحيدة التي ترى الجمال الحقيقي ، أي جمال المرأة « . هذا العجز المزمن على إثبات أنها » أصل ما بعده أصل « أو بالأحرى بأنها فعلا امرأة جميلة كما قالت » معلمتها الروحية « ، سوف يدفع بطلة رواية » الهدية الأخيرة « إلى التخلي نهائيا عن التصوير الفوتوغرافي وتكريس حياتها للكتابة الروائية . ومسوغها في ذلك » أن المصور يكون وحيدا مع آلته ، وحدة شبه تامة ، كأنه في قاع حفرة . وآلته هي من ينقذه . لايملك فكرة ولا موضوعا ولا نموذجا ولا مرجعا. عليه أن يكون أقوى من موضوعه ومما يصوره«، في حين أن الرواية نفي لأي هوية حصرية ، وانتصار على كل توق زائف إلى الكمال والنظام . كتبت رواية » الهدية الأخيرة « بإتقان فني محبوك وبلغة مضمخة بالمحكي الشعري كفلا انسيابية السرد و سريان الحبكة بكل سلاسة وتشويق ، كما أنها رفلت ? «المتناص الأدبي» ، الذي ?دمج الميتا - فوتوغرافيا والخطاب حول الصورة ضمن النسيج العام لعوالمها التخييلية، إذ نلتقط إشارات وامضة إلى مرجعية المؤلف العميقة بأسرار التصوير و وتقنياته وتاريخه وأعلامه شرقا وغربا ، كما نعثر بين ثنايا المتن على إحالات إلى المؤلفات الروائية العالمية التي اتخذت الفوتوغرافيا ثيمة مركزية لها وشكلت شجرة نسب لتشكل رواية «الهدية الأخيرة» وصياغة مفرداتها الثقافية ( نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر : «قبلات سينمائية» للفرنسي ?ريك فوتورينو ، «عدسة التصوير» للياباني هيتوناري تسوجي ، «رسام المعارك» للاسباني ?رتورو ريفرتي ، «المصور و نماذجه» للأمريكي جون هاوكس ، و «صور سطح السفينة» للنيكاراغوية جيوكندا بيلي...الخ ) . ثمة أعمال إبداعية تكمن قيمتها في ما توحي به من بياضات ، وليس في ما ترويه مما هو مطروح في الطرقات من حيوات ووقائع شائعة. ورواية «الهدية الأخيرة» لمحمود عبد الغني تنتمي إلى هذا الصنف تحديدا ، الذي يدفعك عند الفراغ من قراءتها إلى الشعور المربك بأن أمرا ملغزا، ساحرا ، مستعصيا على مرايا الحياة لا على ظلال المتخيل ، قد بقي في النص بعيدا عن المتناول ، أمرا كتيما كأنه « نمر متربّص بين أدغال الخيزران » كما جاء على لسان فارغاس يوسا وهو يقر? رواية «الموت في البندقية» لتوماس مان .