من أجل خلق رواية حداثية تراهن على الابداع وتتجاوز المعتاد وتعيد بناء شكل ومضمون المنجز الروائي، لابد من خوض غمار التجريب و التجديد، بأن يمزج الكاتب المبدع بين مجموعة من الأجناس الأدبية في إطار تقاطعي تتقاطع فيه الرواية مع الشعر مع المشهد السينمائي مع الحوار المسرحي مع اللوحة الفنية........وحينها يتجاوز المألوف ويعري عن اللغة المحنطة ويكشف أسرارها، ويحثها على التناغم و التماهي في قالب جديد يستوعب العالم باعتبار الرواية اختصارا للعالم . و المنجز الروائي الذي نحن بصدد دراسته في ضوء هذه النظرة الحداثية هو منجز"ظلال امرأة عابرة"للأديب زين العابدين اليساري. والرواية مكونة من مقاطع ومشاهد روائية كل مشهد بعنوان،وكل عنوان هو مقطع من قصيدة يكتسب طابعا شعريا،وكما هي مقاطع شعرية فهي في نفس الآن ميكرورواية، كل مقطع يعتبر رواية في حد ذاته، يختزل العالم ويروي رواية،وما يجمع هذه المقاطع هو المرأة"حواء" وعلاقتها بالرجل"آدم" ونظرة هذا الأخير إليها وعلاقته بها. وهذا لا يعني أن الرواية تحاول هدم الشعر،بل إنها تحاول توظيف اللغة الشعرية في المنجز الروائي، و البحث عن اللغة الشعرية يسير بموازاة مع السرد الروائي،ويصبح السارد في هذه الرواية يلعب على الحبلين حبل الإبداع الشعري وحبل الكتابة الروائية،فهو من جهة يبحث عن شعرية الشعر، ومن جهة أخرى يبحث عن روائية الرواية،فالروائي يبحث لنفسه عن نمط معين في الكتابة الروائية،أو تجريب ما يمكن تسميته تجاوزا بالكتابة الشعر-روائية،وهي التي تقدم للمتلقي متعة الشعر وجمالية السرد الروائي القائم على الحكي . إذن نحن هنا أمام كتابة روائية تسير بشكل متواز تجمع بين الشعر و الرواية، لأن طبيعة الموضوع الذي تعالجه الرواية هو موضوع مرتبط بذات الإنسان في علاقته بالمرأة، و السارد يعتمد في سرد أحداثه على ضمير المتكلم لكنه لا يتحدث عن نفسه وإنما يتحدث بلسان القارئ "آدم" وحواء نفسها ليست هي حواء التي في ذهن السارد وإنما هي حواء التي تشغل بال القارئ"توغلت..... ص15" "وأنا....." ص19. ولهذا فإنه من حين لآخر ينسحب السارد ليترك المجال للقارئ ليملأ الفراغات التي تتخلل الحوارات داخل فضاء الرواية "توغلت في رماد عينيها حتى أشتعل قنديل الصبح"ص15 فالمشهد الروائي هنا انزاح إلى لغة الاستعارة التي تجلب اهتمام القارئ وتثير فضوله،فالجملة هنا استعارة مكنية شخص فيها السارد العينين وجعلهما مكانا غارقا في الظلام وهو كناية على شدة سواد العينين. و الجملة هنا تستفز القارئ وتدفعه إلى التأمل بدوره في هذين العينين السوداوين مثلما شخصهما السارد،وهي درجة عليا من درجات الاستعارة،حيث تصبح اللغة الروائية الممزوجة بلغة الشعر أكثر حركية ودينامية،إلى درجة أن السارد أصبحت له القدرة على سماع الصراخ الذي يتأجج داخله من شدة ما أثارته فيه هذه المرأة من حيوية وما تحبى به من جمال"في غياب أذن يمكن أن تسمع صراخي الداخلي"ص15 وهنا السارد يبدو أنه واع بوظيفته داخل الرواية ويعرف كيف يمشي حال شخصياته ويدبر أمورها. وتزداد الرواية توثرا عندما يدخل السارد في حوار مباشر مع حواء"حواء اقتربي،اقرئي لي هذا النص الذي أحب أن تسمعه أذني بلسانك.....النص غير مكتمل سيدي"ص17. فالحوار هنا يورط القارئ في الرفع من مستواه التأملي الذي يعطيه القدرة على تمثل هذه اللحظة الحميمية،وتكون له القدرة على إنتاج لغة موازية للغة الرواية المشحونة بالجمل و المقاطع الشعرية،لأن الحوار مفتوح على كل الاتجاهات،حوار مستفز يورط كل من قرأ الرواية ويشترك في تأثيث فضائها. وهكذا يصبح المتلقي مجبرا على التماهي في الرواية و استيعاب أحداثها ولغتها التي تنهض على لغة الشعر في شقه السريالي،حيث إن لغة الرواية تعرف مجموعة من الانزياحات، انزياحات على مستوى المضمون حيث لا يمكن الفصل بين هاتين البنيتين بنية الداخل"الشكل"وبنية الخارج"المضمون". وهكذا يجد القارئ نفسه أمام لغة من نوع خاص قريبة من لغة التشظي،لكن ليس التشظي بمفهومه السلبي وإنما التشظي من أجل إعادة بناء اللغة،إنها عملية خاصة خاضعة لقانون الجدل الهيجلي الذي يعتمد على الهدم من أجل البناء"ابتسامة عريضة محترمة تخفي خلف عينيها سفرا طويلا في عوالم البعد من سلطة القرب الذي لا يقترب"ص17. فعملية الهدم و البناء تتم من خلال مستويين،مستوى التخيل ومستوى الواقع،حيث يتوارى وينهدم المتخيل ليترك فسحة لدخول الواقع،تنهدم ظلال المرأة لتبقى المرأة الكيان و الجسد"إلى أن تدرك إني التوازن وإني نصفك الذي دونه لن تكون،فلا تقل إني ظلك،فالظلال التي تلبسها ذاكرتك تميل نحو الغرق أسفل بحر من الظلال..."ص24. وهكذا تجد رواية"ظلال امرأة عابرة"روائيتها في قدرتها على المزج بين الشعري و الروائي دون الغرق في الشعر،وفي نفس الوقت دون السقوط في رتابة وسيمترية السرد الروائي التي تتبع الشخصيات وكيفية تقديمها لأدوارها في فضاء الرواية. ولهذا فإننا نلاحظ بأنها رواية يغلب عليها الطابع الأسلوبي الذي يرجح الوصف على السرد و اللغة على البناء"عيناها متلألئتان،رقراقتان تحجبان ظلال رموش تمتد لتملأ قعر بحرها بالمرجان.....عيناها تكتب قصائد رومانسية،وتدعو الجميع لفك رموزها بإتقان...تدعو صاحبها ليقرأ الفنجان..."ص 101 . فالذي يغلب على هذا المشهد هو الوصف وليس السرد،فالسارد يأخذ وقته لتتبع المرأة ويذكر تفاصيلها بكل دقة،وهكذا يكون الوصف دائما قويا أكثر من قوة السرد، بل يعطي للقارئ فرصة واستراحة لتدارك سرعة السرد الذي تعرفه الكتابة الروائية. وفي النهاية نقول بأن"ظلال امرأة عابرة" رغم انزياح لغتها من لغة السرد الروائي إلى لغة الوصف الشعري، وانزياحها من تقنية السرد إلى تقنية الوصف،فإنها تبقى رواية حافظت على روائيتها،أي مايميزها عن باقي أنواع الخطابات الأخرى،كما أنها بالرغم من اعتمادها على الوصف فإنها حافظت على أصوات مختلفة عبرت عن الشخصيات التي أدت أدوارها بفعالية،كل شخصية حسب موقعا في فضاء الرواية الذي هو في الأول وفي الأخير فضاء المجتمع . وتبقى المرأة في النهاية هي البؤرة التي تدور حولها كل الأنظار،أنظار الشخصيات الورقية المديرة للحوارات، و الشخصيات القارئة المتلقية للخطاب الروائي،حيث تكون المرأة حاضرة بقوة في مخيال السارد كما هي حاضرة في مخيال القارئ،تحتل مكانا بارزا على مستوى عتبة الغلاف الذي يقدم للقارئ شكلا سميائيا لظلال امرأة عابر وكذلك على مستوى اللغة الواصفة للجسد وللمرأة عموما. و المرأة في الرواية هي مصدر السرد وموضوعه وتبيان ما سيحدث من تغيرات في العلاقات بين الرجل"آدم"و المرأة"حواء" "حواء لم تكن ذاتا مرئية،حواء كانت تلازمني،تسكنني،تتقاسم معي جسدي،وهي الأن تؤثث حقيبتها لتغادرضلعي...لأنها تدرك أن الجسد المشترك جسد متعفن"ص126. وتبقى رواية"ظلال امرأة عابرة" هي المرأة عموما و المرأة هي الرواية،وكأن الرجل"آدم"يكتب روايته كل يوم بلغته الذكورية،لأن السارد وهو يسرد الرواية،كان يسردها بعين المذكر الذي ينسجم مع عين القارئ،فهي رواية ذكورية بامتياز بالرغم من حضور المرأة كمحاور وكلاعب في مسرح الرواية خاصة ومسرح الحياة بصفة عامة، لقد كتبت بلغة شعرية لتتناغم مع نفسية الملقي و المتلقي. أما الواقع في الرواية فإنه يتمظهر من خلال اللغة،فهو واقع ملفوظ متخيل من خلال السرد الروائي،حيث استطاع السارد خلق واقع يعيشه مع قارئه في فضاء الرواية،واقع مختلف عن الواقع المعيش،واقع بلغة روائية،لأن الرواية هنا لا تنقل الواقع بشكل آلي وإنما تعيد تشكيله وتعيد صياغته انطلاقا من زاويته ومن رؤيته إلى العالم،إنها تنتج واقعا مفقودا يشتاق إليه القارئ "صباح بأنوار قزحية يحضنني بدفئه وإشراقاته"ص85. "الليل الخريفي يحتكر ساعاته لينام الطيرعلى راحته،وتنتشي أزهار الفصول الأربعة بانتظار بزوغ فجر قد يطول انتظاره"ص73. فواقع اللغة الروائية ليس هو واقع الواقع،إنه واقع من نوع خاص،واقع تتحكم فيه اللغة وتضبط آليته، حيث تصبح اللغة ولادة تخلق واقعها بنفسها تخلق واقعا ثالثا،ليس هو الواقع المعيش ولا واقع الرواية وإنما هو واقع يتسم بشعرية الواقع،يمزج بين الزمان و المكان،كما أنه واقع مشخصن،فالصباح في هذا المقطع يحتضن ويدفع وكأنه إنسان.والليل وكأنه تاجر يتاجر في الزمان و يحتكر ملكية الزمان حيث يوزعه بطريقة غير متكافئة يكون الطير فيها سيد الطبيعة.