ماذا بوسع الكاتب الذي لا يملك إلا حبره وذلك الامتداد الهائل من البياض فعله؟ ماذا بوسعه وهو العاشق للمتخيل المكتوب والمرئي أن يجسد ذاته في جسد الكلمات والرؤى؟ كيف يواجه القارئ المستهلك للحكاية فقط؟ كيف يحارب النسيان، هذا القدر المحتوم ؟ عديدة هي الحكايات، لكن نادرة تلك التي تستمر في القارئ، وتصير جزءا منه، تخلل وعيه وتقلق سكونه المتكاسل.نؤكد على ما يلي منذ البدء: رواية «وقت الرحيل»، التي صدرت عن وزارة الثقافة المغربية ضمن سلسلة إبداع (2007) للكاتب والباحث المغربي نور الدين محقق، بعد مجموعته القصصية الرائعة «الألواح البيضاء» التي صدرت عن مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب (2006) والتي رحب النقد المغربي والعربي بها كثيرا، هي من هذه النصوص المشاكسة والمتشاكلة، المقلقة والفاعلة في آن. لن نستطرد في ما يحبل به كون كاتب رواية «وقت الرحيل» شاعرا بامتياز، فقط نحيل إلى بعض رموز الشعر العربي الحديث، الذين أبدعوا في مجال السرد الروائي: سليم بركات الشاعر يكتب «فقهاء الظلام» و«أرواح هندسية»، محمود درويش الشاعر مؤلفا «ذاكرة النسيان»، أحلام مستغانمي في «ذاكرة الجسد» و«فوضى الحواس» و«عابر سرير»، إبراهيم نصر الله في «طيور الحذر» و«براري الحمى» ومحمد الأشعري مبدعا في «جنوب الروح» وحسن نجمي في «الحجاب»، وغيرهم كثير، إضافة إلى كونه ناقدا سينمائيا مهووسا بالفن السابع ومتابعا لمستجداته، نشير هنا إلى أسلافه ألان روب غريي، نجيب محفوظ وغارسيا ماركيز وسواهم كثير أيضا. إن للمبدع نور الدين محقق مكانه في هذا المشهد الأدبي الرحب... تتألف رواية «وقت الرحيل» من عشرة فصول، لكل فصل منها عنوانا مميزا، وينحو النص في مجمله منحى الكتابة الروائية التي تتوسل الاتصال والانفصال، إذ تمكن قراءته في تناميه وفي اتصاله مع الفصول الأخرى، أو في عملية انفصال كل فصل منها بذاته، وقدرته على تحقيق الامتلاء السردي والتيماتي معا، وهذا نلاحظه في كتابات ادوار الخراط وإبراهيم أصلان بالخصوص وبعض كتابات نجيب محفوظ المتأخرة. وهي خاصية تجريبية بامتياز. تبتدئ الرواية بفصل «رسائل الحب» وتنتهي بفصل «كذبة أبريل» وتمر بكل من الفصول الآتية: «سطوة الأحلام»، «صخرة الألم»، «هديل القلب»، «ترويض الأفعى»، «تفاحة العشق»، «رقصة الأشواق»، و«زوار الليل»، مما سهل على كاتبها نور الدين محقق نشرها متفرقة في بعض أهم الصحف والمجلات العربية مشرقا ومغربا. هنا قراءة لها في اتصالها وانفصالها في الآن ذاته، خصوصا وأنها حققت تواجدا ملحوظا في المشهد الثقافي المغربي منه خاصة والعربي في عمومه، وهي موزعة في هذه الصحف والمجلات، وبمناسبة صدورها مجتمعة في كتاب مؤخرا عن وزارة الثقافة المغربية، ضمن سلسلة إبداع، لسنة 2007. اختار المؤلف شكل الكتابة بالمقاطع القصيرة المكثفة وهي مشاهد يصل بينها سرد متنام لحياة عادية، يعيشها طالب مغربي، يتابع دراساته الجامعية العليا بالديار الفرنسية، حياة بسيطة بكل ما يتخللها من إغراءات واٍكراهات الإقامة والرحيل. فيها وصف لليومي بلغة الشاعر الذي خلص السرد من وهم الواقعي مما أعطى للأحداث المعاشة تناغمها الخاص، بعيدا عن التكلف في الصنعة أو إغراق الرواية بالخطابات النظرية الواصفة. سوف ينصب اهتمامنا على البناء التأليفي للرواية وصياغتها الأسلوبية ومضمونها الذي ينم عن اهتمامات السارد الأثيرة: من أنا؟ من أكون؟ كيف أكون؟ تتميز بنية السرد في رواية «وقت الرحيل» بكونها تطوع أشكالا تأليفية وسيطة من ضمنها اليوميات والمذكرات الشخصية، مع تحييد للعلامات الخارجية من تواريخ الأيام والشهور، وكذلك بهيمنة الاعتراف-الاستبطان، وتحيين رواية التعلم والتكوين. وقد عمد المؤلف إلى قلب مبدإ الاعتراف والاستبطان المنبثق من التقليد الأجناسي القديم، وجعله وسيلة وتقنية لتحقيق التنامي السردي والتيماتي كذلك. وإذا كانت الذات الساردة في هذا التنويع السردي الغني تتوجه إلى ذوات متعالية في شكل التداعيات الاستعارية، فاٍن الكاتب قلب مبدأها المؤسس، وجعلها تتجه أفقيا إلى الآخر المثيل، هذه الذات التي تصف نفسها أمام مرآة نفسها ومرايا الآخرين وتصير تحت أنظارهم (الأصدقاء، سيدة كروس، كرستين، الفتاة العربية، الخ...)، الذات التي تنشطر إلى سارد ومسرود له، بواسطة هذا القلب خرجت الرواية من شرنقة الصوت الأحادي حيث يظهر صوت السارد مغمورا بأصوات الآخرين، بل إن هذه الأصوات تضطلع في مواضيع كثيرة من الرواية بدور الرابط بين الذات الغارقة في تذكراتها ومناجاتها، وبين العالم الخارجي بأحيائه وأزمنته (الزمن اليومي وأشغاله، زمن الطبيعة بفصوله) وفضائه. ورغم أن السرد جاء بضمير المتكلم، فاٍن المؤلف جعل من «أنا» شخصية روائية وفق عبارة الناقد الفرنسي رولان بارت، إذ منذ الاستهلال عمد السارد إلى خلق لحظة اللقاء الفريدة بين الذات مع نفسها، لحظة الكشف، مستفيدا من التذكر كإجراء مفاعل للذهن وللمخيلة في مزج حميمي بين الحكاية باعتبارها محاكاة للكلام الشفوي وبين الوصف كمحاكاة لأشياء ومخلوقات العالم الخارجية، مستمرا الانزياح الذي يتيحه المنجز الروائي منذ البدء بواسطة المباعدة، إذ يقدم السارد وصفا لنفسه كما لو تعلق الأمر بشخص آخر.يقول السارد في هذا الصدد ما يلي: «في الذهن أشياء لا تريد أن تنمحي بسهولة، الجسد عالق بمقعد في إحدى الطاولات والفكر سابح في شتى الأمكنة». هذه المباعدة هي في حقيقة الأمر انعكاس للفارق المكاني بين «هنا» الحكي، أي ستراسبورغ، و»هناك»، أي مسقط الرأس، الدارالبيضاء، ويستمر الاعتماد على الانزياح في تجسيم وتشخيص مكونات الفضاء: «وأنا غارق في قراءة كتاب الفيلسوف الألماني كانط «نقد العقل الخالص» سمعت صوتا يناديني. صوت ذكرني بوجودي وأعاد المكان الذي كنت جالسا فيه إلي، بعد أن فارقني فترة من الزمن». وينسحب الإسناد المحلي المقلوب على أشياء العالم الخارجي إذ تصير لعبة الفليبير مثلا أفعى فأنثى، يجهد السارد في ترويضها، ويصير للأصوات جسما وللشجاعة أطرافا وما كل هذه الانقلابات في المنظور سوى تجل لمعاناة فرد يكابد وطأة الاغتراب. تتمثل الخاصية الأساسية لرواية «وقت الرحيل» في صهرها مواد بناء مختلفة، بقصدية خلق متعة الحكاية، إذ تم دمج عدة أساليب راكمتها الكتابات الروائية، عربيا وعالميا، وهي بذلك تدخل فضاء الحوارية من بابه الأوسع، حيث تنهل من مصادر عديدة نقتصر على ذكر بعض منها: الكتابة السيرية، مع التركيز على سرد فترة سنوات الشباب والتعلم والتكوين، إضافة إلى تحوير السرد-السير- ذاتي وعلامة التقارب في مسارات الحياة وحالة التطابق في الهوية والاسم مع تحريف بسيط له (نور الدين يصير نوري) واستثمار الكتابة عن فترة الشباب وبداية النضج ومالها من تأثير في مسارات الحياة وما تكتسيه من أهمية في مجال النقد الأدبي. وقد تبدى استلهام رواية التعلم في رصد الوقائعية الروائية مع التركيز على الانشغال بأسئلة وجود الفرد في الحياة الإنسانية وانخراط الذات في الكوني: أسئلة الهوية والكينونة والصيرورة، وهما يصيران موضوعا لغويا بالأساس، ومن هنا جاء توسل الكاتب بلغة تعود إلى ينابيع الألفة. تلك اللغة الشفافة، البعيدة عن كل زخرف زائد، لغة تصف الذات من خلال الاعترافات/التداعيات التي تعتمد على الآخر ولا تقصيه. وصف الذات من خلال تقديم متطلباتها البسيطة: الحاجة إلى الأكل والنوم والعلاقات الإنسانية والخلود للراحة والضحك والسخرية. ختاما، وإذا كان لابد من إيجاز عمل أدبي ما في بضعة كلمات، فاٍن «وقت الرحيل» للشاعر والروائي نور الدين محقق، هي رواية تحفل بالحوار (بالمعنى الأوسع): حوار النصوص: (حافظ الشيرازي، محمود درويش، ديوان جميل بثينة، سيرة حمزة البهلوان مثلا) وحوار الأمكنة: الشرق والغرب، وأخيرا وليس آخرا حوار الذوات، الأنا والآخر، اعتمادا على التسامح والتفاهم والبعد الحضاري الراقي.