يزج بنا الشاعر و الروائي التونسي عبد الجبار العش من خلال روايته « وقائع المدينة الغريبة» في عوالم تشذ عن المألوف، و تجعلنا نتأرجح بين ما هو واقعي وغير واقعي. فالغريب ينطلق من العنوان، حيث هو ميثاق يعقده المؤلف الضمني مع القارئ المفترض الذي يتوجه إليه النص. بل قد نقول الراوي (نذير الحالمي) المدفوع بواجب غامض لرواية كل ما حدث، و المخاطُب كبنية نصية داخل هذا المتخيل الحكائي. ولئن كانت الرواية في بنائها السردي تتكئ على بناء تقليدي، فإنها تنزع إلى خلق عوالم مفارقة للواقع منذ الوهلة الأولى ، فإنها مع ذلك تظل مرتبطة بالواقع الحقيقي. ولعل عنصر الغريب هو العنصر المهيمن في النص و المفتاح الذي يقود إلى تأويله في سياق القراءة الاستقرائية للنص في كليته.لكن لنصدق الحكاية ونكذب الراوي على حد تعبير فورستر. تحكي الرواية قصة جماعة من الشعراء و الفنانين و المفكرين تؤمن بالموت قبل فوات الأوان، و تنتحر، ملقية بذواتها في نار تكون الكتب و القطع الفنية حطبا لها. وبعد الانتحار، يقع حادث غريب يتمثل في غور عروق قدمي فنان فاشل في الأرض، و يلتصق بالأرض ولن يبرحها إلا ميتا. بعد ذلك تستشري الآفة في المدينة، و بمقتضى ذلك تتغير القوانين والنصوص لضبط المجتمع بعد حدوث انقلاب سياسي تقوده الجبهة الدينية، بالإضافة إلى الهجمة الشرسة للتكنولوجيا و مظاهر العولمة التي تنذر بخواء الروح، واللهاث خلف المال مع الضرب بعرض الحائط كل القيم الإنسانية. و ليس هذا فقط، بل تجتاح المدينة آفات أخرى مثل استحالة فتح الأقفال و الأبواب، وما شابه ذلك من لعنات. و لمواجهة ذلك، يلتجئ الناس إلى ممارسات غيبية لرفع هذه اللعنة، ليسدل ستار الرواية، وتظل دار لقمان على حالها. تلكم هي القصة المصفاة من الخطاب الروائي. لكن قبل الحديث عن ذلك، لنستقرئ العنوان باعتباره مفتاحا و عتبة لولوج عوالم النص، و أعلى اقتصاد له. قد نقرأ العنوان بصيغتين مختلفتين. وقائع المدينة الغريبةُ أو وقائع المدينةِ الغريبةِ. قد تحيل لفظة الغريبة إلى كل من الوقائع و إلى المدينة. فالوقائع غريبة و كذلك الأمر بالنسبة للمدينة. و لعل عدم وضع حركات على اللفظة الأخيرة ‘الغريبة’ تنكير للمدينة بوصفها مدينة غريبة لا اسم لها. كما أن الوقائع غريبة تستدعي استكناهها بهدف الوصول إلى الدلالة الثاوية خلفها. يقول تودروف:» إذا ما قرر القارئ أو الشخصية أن قوانين الطبيعة تظل ثابتة، و تسمح بتفسير الظواهر الموصوفة، نقول إن العمل الأدبي يرتبط بجنس آخر هو الغريب»l?étrange» (مدخل إلى الأدب العجائبي،ص.46). و إذ نسلم بذلك مع هذا الباحث، نقول إن الوقائع الغريبة لا يمكن تفسيرها إلا بالنظر إلى السياق العام الذي يحكم النص في إطار حركة دائبة من الخارج إلى الداخل و العكس. ولئن كانت المدينة الغريبة و المجهولة الاسم تجد نظيرها في الواقع الحقيقي من خلال قوانينها و أمكنتها و شخصياتها، فإن ذلك لا يصل بها إلى درجة البعد العجائبي أو الخارق. كما أن بعض الأحداث المرتبطة بها ذات علاقة بواقع الحياة العادية للشخصيات داخل المجتمع، أي أن الشخصيات ذات مرجع واقعي من خلال أسماءها، و كذلك البنيات التحتية للمدينة: الشوارع، و بعض الفضاءات ، مثل المقهى الذي يتحول جزء من داخله إلى مرحاض يجلس عليه صالح العوادجي المصاب الأول بآفة الالتصاق. تشكل كذلك صورة الغلاف مكونا هاما لولوج عالم النص. فهي لرجل جالسن عاري الرجلين حتى الركبتين، مائل برأسه إلى اليسار، بابتسامة عريضة غامضة، و يشير بسبابة يده اليمنى إلى من يأخذ الكتاب بين يديه. و ربما تحيلنا هذه الحركة إلى تلك الصورة/ الإعلان الذي ذاع صيته خلال الحرب العالمية الثانية. و يظهر فيها جندي ذو رتبة هامة، يشير بإصبعه إلى أبناء وطنه، و فوق رأسه كتبت عبارة « وطنك بحاجة إليك». أما صورة الغلاف، فكأنما الرجل الجالس يقول للقارئ:» أنت !». ولعل هذه الإشارة ذات دلالة بحيث تستفزنا لقراءة النص. لكن حالة الانتهاء من فعل القراءة، قد نضيف إلى الضمير»أنت» ألفاظا أخرى لتصبح الجملة/ السؤال: « أنت ! ما الذي بوسعك فعله إذا ما وجدت نفسك في وضعية صالح العوادجي؟» هذه الفرضية تجعل الأدب، أو التخييل السردي بصفة عامة، يلتقي مع المعادلة الرياضية التي تفترض مثلا أن أ +ب = ج كنتيجة حتمية. و بالمثل، فإذا جاءت الشخصيات على الشكل التالي+ الأحداث و الوقائع، فإنها لا محالة تفضي إلى نتائج معينة. و إذا كان العنوان و صورة الغلاف، كما رأينا، قد ساعدنا على طرح أسئلة هامة لفهم النص، فإنهما غير كافيين لإدراك الأفق الدلالي، إذ لإدراكه، يتعين الولوج إلى النص و النظر إلى بنيته لاستكناه العلاقة القائمة بين الغريب و المعتاد. فالكاتب لا يصدر عن أشياء لا يعيها، وإنما عن أشياء ذات أهمية بالغة استضمرها النص. وهكذا، لا يمكن الوقوف على الدلالات إلا في سياق العلاقة التبادلية بين النص و القارئ و السياقات التي حكمت تخلقه. في بنيته،يتشكل هذا المتخيل الروائي من ستة فصول غير معنونة، و غير مرقمة، وفصول معنونة بأيام الأسبوع من الجمعة إلى الجمعة تصف طقوسا دينية و ممارسات غيبية معنونة بهذه الممارسات. و إذا كانت هذه الفصول الثمانية ترصد هذه الممارسات لطرد اللعنة، فالفصول الأخرى أي الأولى تجميع لحكايات، علما بأن الخيط الناظم للنص في كليته هو الراوي المتماثل القص، نذير الحالمي المدفوع بواجب غامض لرواية ما حدث. هذه الحكايات هي: حكاية الانتحار الجماعي، حكاية صالح العوادجي، حكاية زمبيطة، حكاية شتل، حكاية الرجل الذي تلتصق رجلاه بأرضية الجامع، حكاية الشيخ الثري الانتهازي، حكاية الرجل الذي يرهن سنوات عمره مقابل تأمين قوت عائلته، حكاية الرجل الذي يتجاهله الجميع، حكاية زوجة الشيخ الشابة و روفة رَزوار، و حكاية الحلم الذي يراه الراوي و المتمثل في القصة التي يرويها الشيخ في الحلقة عن شتل و نوويرة، دون أن ننسى بعضا من السيرة الذاتية للراوي، و واقعة الانقلاب الذي تقوده الجبهة الدينية لإحكام السيطرة على المدينة، و حكاية التحول الناتج عن دخول التحديث و العولمة. تستهل الرواية بفعل استباقي يحيل على الانتحار الجماعي لرهط من الشعراء و الفنانين و المفكرين. و بعد حادثة الالتصاق بالكرسي و بالأرض، وبناء مرحاض يجلس عليه صالح العوادجي المصاب، تعود الحكاية الأولى لتوسع من دائرة الحكي. لكن ما هي العلاقة بين فعل الانتحار، وانتشار عدوى الالتصاق بالأرض و الحكايات الأخرى؟ و لماذا تحويل الكتب و اللوحات و القطع الفنية إلى حطب مشتعل تشوى عليه جلود المنتحرين؟ ثم ماذا تعني الجملة المكتوبة على الورقة الصغيرة التي تتركها الجماعة المنتحرة:» عالمكم.. زمنكم.. خراء»(ص.31)، علما بأن الجماعة تؤمن بفكرة الموت قبل الأوان؟ و أي أوان؟ يمكن اعتبار هذه الجملة كعبارة مركزية في النص. ففوات الأوان متمثل في ما يحدث بعد ذلك من أحداث. و إذا كان الانتحار إحدى صيغ الاحتجاج، وبصقة في وجه الإله على حد تعبير إحدى شخصيات رواية «ذاكرة الجسد» ل أحلام مستغانمي، و إذا كان حرق الكتب و الآثار الفنية قتلا للمعرفة و الفن، فإن فعل الالتصاق بالأرض هو الحد من حريات الفرد و شل حركته. حين يقول الكهربائي إن عليه أن يعود إلى منزله باكرا « لأن زوجته لا ترحم، يعقب الراوي، نذير الحالمي، : « هذا في حاجة إلى مرحاض»(ص39). إذ بدل أن يذهب صالح العوادجي إلى المرحاض، يؤتى إليه به، و يظل جالسا عليه إلى أن يلفظ أنفاسه الأخيرة:» هل فكرتم كيف سيتغوط ويتبول؟ هل لديكم حل خاصة و أنه محكوم عليه بناء على هذا الوضع، بأن لا ينتقل إلى أي مكان؟»(ص32) هذا ما يقوله الطبيب. و بعد أن يؤول صالح إلى ما آل إليه، يدرك حقيقة الأشياء. يقول لنذير: «الآن أشعر بالندم، تبدو لي حياتي تافهة، لا حياة فيها.. كل شيء وفق نظام صارم.. أشعر الآن برغبة عارمة للمغامرة و الركض.. للمقامرة بكل شيء.. حتى بحياتي، و أكتشف، و كأنني أقف لأول مرة أمام المرآة. إنني خجول من نفسي خجول يا»سي نذير» لأنني لا أتذكر أنني فرحت فرحا كبيرا في يوم من الأيام، ولا غضبت غضبا حقيقيا.»(ص68) يدرك صالح العوادجي معنى الحرية، لكن بعد فوات الأوان؛ و بعد أن تستشري الآفة، و تبنى المراحيض في الشوارع و الأزقة، يصير العالم خراء، كما نبهت إلى ذلك جماعة المنتحرين. ثم أليس الالتصاق بالأرض سجنا؟ هنا نتذكر المؤلَف الأخير للراوي الذي يحمل عنوان « السجون عبر التاريخ» يتمظهر سلب الحرية، بما هو سجن، في السلطة على الجسد، بتعبير فوكو، في هجمة التحديث، حيث يحل محل تمثال شاعر تمثالا لرجل حديدي عملاق متوجهة نظراته إلى الغرب، و في مظاهر العولمة التي تخلق فراغا روحيا. يقول الحالمي:» صعقت و أنا أتأمل ذلك العملاق المعدني البارد، ذا الملامح القاسية، و الذي يتطلع نحو الغرب !»(ص93). ثم التغيير في الأسماء:» فالمواليد الجدد من ذكور صاروا يحملون أسماء لم نعهدها من قبل مثل مليار وبليون، و تلتخة، وكرزة أو كنز»(ص93)، و حتى الأطفال الذين يولدون برؤوس مطأطأة. ثم يقول:» على السطح كل شيء يوحي بالرخاء، والرفاه، و النظافة، وفي الأعماق ينغل الدود و السفليس و الديون و الكبت و الحقد و النهب.»(ص 93)، بل يصل الحد يالإتسان إلى رهن سنوات عمره مقابل حفنة من المال لتأمين قوت عائلته: « أعطني فضة و ذهب، و خذ ما تحب...الخ»(ص94). و لئن كان الانقلاب الذي تقوم به الجبهة الدينية يسعى إلى إعادة الأمور إلى نصابها، فإنه لم يزد إلا الطين بلة، حيث تقرر وزارة الدين» التكفل «بتجهيز البيوت بآلة استقبال مشفرة لمشاهدة القناة الرسمية الوحيدة...»(ص194)، و يصل الأمر إلى حد تلقيح المرأة «بمصل الحمل الذي انكب على تركيبه علماء الخليفة، و بهت حما المرأة و تلد الأطفال ذوي الظهور المنحنية و الألسن المقطوعة، و الرؤوس المطأطأة.»(ص208)؛ ثم حرق الكتب. يقول شتل للراوي:» في الليل.. حرقوا جبل كتب...»(ص170). هكذا، يتمثل الإبستيم المهيمن هنا في السلطة على الجسد و الفكر. الجسد بكل غرائزه الطبيعية، والفكر بكل حرياته. و هكذا، ففعل الالتصاق بالأرض، ورمزية انغلاق الأقفال نتيجة طبيعية لوأد الحريات. من هنا تتمظهر رمزية الوقائع الغريبة، وقد تجد عبارة صالح العوادجي مبرراتها. يقول لنذير:» الموت أهون يا «سي نذير» الموت أهون.»(ص80)؛ثم الدلالة المستخلصة من الاسم الشخصي للراوي. من يقف على النقيض من ذلك زمبيطة و شتل، باعتبارهما في نظر المجتمع صعلوكين، بسبب خروجهما عن آليات الضبط المجتمعي و الأعراف التي يصيغها المجتمع لإحكام سيطرته على الفرد. فسلوكهما غير المرتهن بهذه الآليات يتملص من التنشئة الاجتماعية، و يعيش حرياته. لم يترك زمبيطة مكانا في جسده بدون وشم. يقول لنذير:» ألا تريد أن تمتلك جسدك، و أن تفعل به ما تريد؟ (ص 89)، ويقول له أيضا:» لم أجر عملية تجميل لأتبرأ من جسدي، فمن فسخ وشما، محا لحظة حرية.»(ص90) إن امتلاك الفرد لجسده يعادل النبذ الاجتماعي، بحكم هذا التملص من التنشئة الاجتماعية التي سلطتها اللغة المراقبة اجتماعيا. ويضيف زمبيطة في حواره مع الراوي حول حرية الجسد و اختياراته، قائلا:» الناس يخافون ممن يملك جسده...»(ص90)؛ و هذا ما تؤكده سلمى حين يزورها نذير بعد موت زوجها، صالح العوادجي:» مرحبا بك.. و لكن أرجوك...(صمت) الجيران لن يرحموني...»(ص129). لكن حين تحرر جسدها، وتعيش لحظات جنسية تعترف للراوي الذي يقول:» اعترفت لي بأنها بلغت ذروة اللذة معي لأول مرة منذ أن استوت أنثى، وأنها ما خبرتها قط من قبل؟»(ص138). على أن شتل هو من يختزل في سلوكاته كل ما يتعارض مع مقررات المجتمع و آلياته السلطوية على الفرد. إنه على حد تعبير الراوي:» الذي يرشدنا إلى الرائع فينا»(ص95). ففي صعلكته، إنما يجسد بمعية زمبيطة التي أدركت الحقيقة و انفصلت عن المجتمع. و إذ يودع في» ملجأ المجانين، وأودعوه جناح الرجال، الذي يفصله عن قسم النساء، سور عال، يكاد يلامس الغيوم»(ص115)، إنما هي محاولة لإعادة إدماجه في المجتمع.و بهذا يشكل لاوعي الفرد، أي ما يستبطنه، لكن المجتمع يقمعه. فمن التبول على الأوراق النقدية إلى القيام بإيحاءات جنسية أمام المسجد، إلى إرسال رسائل إلى نوويرة إلى وضع رأس ديك يضع في حلقه حصاة ويربط منقاره بخيط ويخفيه في جذع شجرة جوفاء لتمويه الجماعة، إلى تغيير صوت الآذان بصوت الشاعر قباني. كل هذه التصرفات لا تمثل الاتجاه المعاكس للمألوف بقدر ما تمثل الجانب الخفي في المجتمع و الذي يفضحه شتل بصورة ساخرة تعري المظهر الحقيقي. و هذا ما تفصح عنه الممارسات التي يقوم بها البعض في الفصول المعنونة بأيام الأسبوع. و إذا كان شتل و زمبيطة يقفان على طرفي نقيض مع أعراف المجتمع و مقتضياته، فإن الراوي بما هو شخصية متماثلة القص (راو مشارك في اللعبة السردية) يعرف كيف يوارب السلطة، و يعيش حرية مشروطة. وإذ ينجو من الآفة التي تداهم سكان المدينة، فلكي يتنقل و يحكي و يؤرخ لما يشاهد، من حيث هو مدفوع بواجب غامض لفعل ذلك. هذه المواربة تكشف عن معرفة الراوي لآليات السلطة و اشتغالها لإحكام السيطرة على الفرد. حين يستفزه المخبر، يقول:» نبست بهذه الكلمات درءا لما بدا لي فخا منصوبا في وداعة السؤال.»(ص24) ثم يقول:» كنت طيلة الأيام الأولى للانقلاب، أواظب على أداء الصلاة حاضرة في المساجد الكبيرة لفتا للانتباه و تعمية الأبصار المتشككة، و قد جثم على كاهلي الشعور بالجبن والحقارة و تمنيت لو أعثر على «مراد» في مخبئه، إذ لم أجد في بيته و لم ألاق من يرشدني إلى مكانه»(ص148). ولعل الواجب الغامض الذي يدفعه لرواية ما حدث هو واجبه كمؤرخ:» لولا أنني كنت مدفوعا بواجب غامض لرواية ما حدث لحجبت كل الوقائع التي حصلت منذ تلك اللحظة لأنها من الغرابة إلى درجة أنني لو سردتها لبدوت في نظر الكثيرين دعيا و كاذبا أو حتى مهووسا أو ممسوسا»(ص12). لعل هذا ما يؤكد موثوقية الحكي:» لم يكن حلما أو وهما أو حكاية»(ص13). فالحكي من وجهة نظر الراوي وثيقة تاريخية، بوصفه مؤرخا، لكن من وجهة السياق الأدبي فهي الرواية تخييل يمتلك مشروعيته الأدبية من الإطار العام الذي تندرج فيه هذه الكتابة التخييلية الإبداعية، بوصف الراوي بنية نصية تستعير بعض خصائصها من العالم المرجعي الواقعي.فحين يلاحظ زمبيطة حيرة الراوي و يسأله:» خائف؟ !!! و صمت فقال لي الصمت ألا تريد أن تمتلك جسدك، أن تفعل به ما تريد؟»(ص89)، فإن مبرر التقية هو ما يحيل على طبيعة الراوي كطبيعة بشرية، و كمثقف يقف ندا للند مع السلطة ويدرك كيفية التعامل معها. وقبل هذا وذاك، تراهن « وقائع المدينة الغريبة» على كتابة إبداعية تميل إلى إسراك القارئ في استخلاص الأفق الدلالي في حركة دائبة من الخارج إلى الداخل و العكس في سياق تفاعلها مع المرجع الواقعي الذي يحكم بنية النص. فالتحليل المحايث يظل قاصرا عن إدراك الدلالات ما لم تتم الإحالة على الطبيعة السوسيوثقافية التي حكمت تخلقه. كما أن النظر إلى الجانب الغرائبي بمعزل عن السياق العام قد يخلق تشويشا عند القارئ؛ و لأن الرواية تكتب لكي تقرأ، ففعل القراءة هنا هو النظر إلى تشييدها من حيث هو تشييد إبداعي من جهة، و إحالتها على وضع ينهض منه فعل الحكي من جهة أخرى. إذ كل شيء في النص يهجس بالإيحاءات المرجعية، من الأسماء إلى الفضاءات( المقهى، البيت، الشارع، الشاطئ...الخ) و إلى دواخل الشخصيات. كل هذه الإيحاءات المرجعية تضمن للنص انفتاحه على الدلالات المستضمرة. ولئن كان الجانب الغرائبي هام سيرورة إنتاج المعنى، فإنه بهذه التقنية يمنح النص بعده الأدبي، بما هو دلالة على حقيقة التخييل، من حيث إن حقيقة النص هي حقيقة تخييلية تنزاح به عن الوثيقة التاريخية كما يوهمنا بذلك الراوي. و هكذا، فالأفق الدلالي لهذا النص الحداثي هو أفق قتل الحريات من طرف سلطة نافذة تسعى إلى تشكيل الفرد وفق أيديولوجية مسبقة، لا يدركها الفرد إلا بعد فوات الأوان، أو إذا أدركها قبل ذلك كان مصيره النبذ الاجتماعي. _________________ المرجع 1. العش عبد الجبار( وقائع المدينة الغريبة)