في سنة 2004 طلع علينا اسم أحمد لكبيري بأول رواية له موسومة ب"مصابيح مطفأة" نالت التفاتة من بعض النقاد. بعدها أصدر رواية ثانية تحت عنوان "مقابرٍ مشتعلة" في طبعة أنيقة تسر الناظرين. عنوانا الروايتين متباعدان، متقاربان في ذات الآن. بين الانطفاء و الاشتعال حوالي أكثر من سنتين. وكذلك الأمر بالنسبة للمصابيح و المقابر. ولأن إدراك الظلام لا يتحدد إلا بالنور و العكس صحيح،و العلوي بالسفلي، يمكن المجازفة بالقول إن الرواية الثانية امتداد للأولى في سياق نية كتابة نص ثالث حتى يتسنى للروائي تأليف ثلاثية كبيرية،و هذا ما نأمله. لكن لماذا التحول من الانطفاء إلى الاشتعال، ولماذا المقابر المشتعلة، علما بأن العنوان مأخوذ من آخر جملة من النص الروائي أو هو ما تنغلق به الرواية؟ تحكي الرواية ظروف عودة الراوي محجوب من فرنسا بعد زواج فاشل من فرنسية من أصل يهودي. بعد أن يلتقي بها بوزان خلال أحد فصول 1986، و هو في سنته الجامعية الأخيرة، يتعرفان على بعضهما، يغرم الواحد بالآخر، و يلتحق بها في باريس ليتزوجا هناك و يرزقا بطفل لا يحمل اسما. لكن عندما تضبطه متلبسا بخيانته مع نورا، تقرر الانفصال عنه ليعود إلى المغرب. يعيش في عوالم سفلية ملؤها الإحباط و الاغتراب بعد أن خسر كل شيء؛ و هو ما يعلن عنه النص من خلال معجم لغوي يهجس بذلك :" فسبب عودتي و ألمي و ناري و تيهي و ضياعي و إحباطي و جنوني و تذمري و نقمتي و كل العذاب الذي أنا فيه هو إيزابيل"(ص,100). تأتي الرواية في شكل تداعيات يرسلها الراوي خلال التذكر، بحيث يتجاذب النص طرفان: طرف التذكر و طرف الحكي من قبل الآخرين. هذان الطرفان هما ما يسمح بصوغ الحكاية و اتساع دائرتها. لكن ما يظل مبأرا هو الراوي باعتباره الشخصية المحورية التي تتكفل بسرد سيرتها في علاقتها بواقعها و في علاقتها بالآخرين. وإذا كانت حكايات الآخرين ? حكاية الأب، حكاية عبد الصمد، حكاية الشاب المثلي،الخ- هي المحفز على فعل التذكر، فإن هذا الأخير هو ما يتبقى للراوي بعد أن يخسر كل شيء. إن فعل التذكر هنا هو مقاومة النسيان بعد أن يجد في المقبرة خلاصه. يشكل الانسحاب إلى فضاء الأموات، موتا رمزيا، بعد العجز عن المواجهة الناتج عن إدراكه على عدم التغيير، و من ثمة الرضوخ إلى الواقع. و هكذا يكون الخلاص في الانحراف، أو السقوط في الانحراف الذي يمس معظم شخصيات الرواية في أبعاده الاجتماعية و السياسية و الدينية. فبعد أن يلطخ شرف البناء الخمار، عندما يكتشف الجندي عدم بكارة الزوجة الجديدة، تبيت الأسرة دون أن تصبح في الحي، على اعتبار أن البكارة قيمة محددة للشرف و هي الضامن الوحيد لأواصر العائلة التقليدية. إن انعدامها يعني أن الفتاة قد استعملت من قبل في سياق غير شرعي. كذلك يشكل استحضار انفجارات 16 ماي 2003 خلاص هذه الفئة في تدمير ذاتها و تدمير الآخرين. وإذ يدرك الراوي مغزى الجماعة الإسلامية التي ينخرط فيها- و هو تلميذ في قسم الباكالوريا- يبتعد عنها، حيث يعتبر في نظرها آلية من آليات التدمير. كما سبقت الإشارة، يأتي الحكي في شكل استعادة الذات الراوية لسيرتها في زمن الطفولة و المراهقة والنضج، حيث يتداخل زمنان: زمن الماضي و زمن حاضر الحكي:" مرت حوالي السنتين على تلك الأيام المهترئة، و لست الآن إلا حفار قبور ممتدة في الفجاج، لست أكثر من شريد بأنفة لقلاق لا يأبه لبذور حديثة التيه بين طوب و ماء."(ص156) ولعل السنتين هنا هما الفاصل بين العودة و المقام في وزان. و إذا كانت الأحداث تقع في الزمن الماضوي، فإن زمن حاضر الحكي زمن سيكولوجي، من حيث هو زمن غير رياضي يجد فضاءه في فعل التذكر:" أتذكر الآن و أنا طفل صغير، تلك الدهشة التي كانت تعتريني عندما أحملق في وجه من تلك الوجوه اليهودية المغربية التي كانت تقطن بالملاح"(ص14). ثم " أتذكر جيدا أن هذا الرجل المعلم الخياط فيما مضى كانت داره هنا بدرب عين قلعة..."(ص25)، وكذلك:" تذكرت كل هذا دون أن أحكي بالطبع"(ص33)، ثم " وأسوأ ما استحضره الآن من ذكريات بهذا الخصوص، هو وجه ذلك الموظف الحقير"(ص37)؛ و" عندما أتذكر الآن ذلك اليوم الذي تعرفت فيه على إيزابيل، و كذلك اليم الذي توصلت فيه بالرسالة الأولى منها،..."(ص39)، ثم "بباب المستشفى تذكرت كل شيء."(ص52)، وكذلك:" وسرحت أسترجع ذكريات عديدة برقت في خيالي"(ص76). وأحيانا يرافق التذكر الاستحضار فعل التساؤل:" الآن أتساءل هل كان الطريق الذي سرت فيه لبعض الوقت مع أولئك الإخوان بريئا خالصا لوجه الله"(ص147). لعل ما يدل على فعل التذكر هو لفظة "الآن"، باعتبارها صيغة من صيغ التداعيات. على أن هذه الاستعادة غير خالية من الدلالة، لكونها تقيم تقابلا بين الماضي و الحاضر، أي الواقع الموجودة فيه الذات الساردة، الماضي بكل آماله و الحاضر بكل آلامه. فنقطة الخيبة تبدأ من العودة من فرنسا؛ غير أن عدم ذكر تجربته في باريس مع إيزابيل قد طمسها الواقع الراهن و كأن هذه التجربة تفوق الواقع:" من يصدق اليوم أن إيزابيل و أنا، أحببنا بعضنا حد الجنون.. و أن الحكاية ابتدأت في وزان لنتزوج ونعيش في فرنسا، و نرزق بطفل ثم نفترق ، لأجد نفسي الآن وحيدا أسير في نفق مظلم داخل متاهة الذكرى و الجنون، أطل من نفس المكان ، حيث كان النظرة الأولى، على خرابي الوشيك؟"(ص40). ولعل الوعي بالخيبة و إدراك مزالقها هو ما يجبره على عدم حكاية تجربته الماضوية :" لم أطلع أحدا هنا عما جرى لي بالضبط هناك مع إيزابيل"(ص48). بل يصل به الأمر إلى مواربة الأم و صديقه بوبكر:" أمي حاولت في بداية الأمر، و بكل ما تمتلك من دهاء وحيل أن تجر لساني لأحكي لها ما يدور في رأسين وما أنوي فعله، لكني كل مرة أجد الثقب الذي أخرج منه قبل أن تلتف حولي شباكها العصية..."(صص48-48). هذه المواربة سببها الخوف من تدمير الذات و تدمير الآخر، في تتمثل مواربة بوبكر في تقديم مبررات عامة دون التطرق إلى جوهر المشكل:" المسألة متعلقة بالكرامة آبوبكر، لقد تعبت .. صعب جدا أن يتحمل المرء الإهانة يوميا في العمل، في الشارع، في التلفزة، و في البيت.. لقد صار المهاجر هناك منبوذا..."(ص98). و لأن الراوي مدرك لموارباته، يعلق قائلا:" لم يكن بالطبع هو المبرر الحقيقي لرجوعي إلى المغرب، وإن كانت فيه نسبة كبيرة من المصداقية.."(ص98). بل حتى المتلقي المفترض تتم مواربته، لكون الراوي يلخص عودته في مسألة الخيانة فقط، مع تصويره للامتثال ألقسري للاغتراب، و نفي الذات. إن فشل التجربة المأساوية من العمق بحيث يغلب على اللحظات السعيدة التي عاشها في باريس، لدرجة لم يعد يذكر سوى اسم إيزابيل، و نورا شريكته في الخيانة. تعادل العودة من فرنسا إلى المغرب التحول من الغربة إلى الاغتراب، حيث ينفي الراوي وجوده و يعيش مع الآخرين الذين ينسجمون مع الواقع بالرضوخ إليه، و يقف وجها لوجه أمام العدم. يعيش التهميش الذاتي، ويصير منفعلا غير قادر على التغيير، على أن يعيش هذا الاغتراب على صعيد المشاعر و الوعي كوعي بذنب يطارده، و هو ما يؤكده بقوله:" أخطأت عندما فكرت خيانتها مع نورا، فجعلتني أدفع ثمن خيانتي غاليا. كانت صدمتها يوم اكتشفت الأمر، فوق أن تتحمل. كل المبررات و الأعذار التي قدمتها لها كي تسامحني و تتجاوز عن غلطتي لم تقبلها.."(ص100). و لعل وطأة الذنب تصل إلى حدود عدم ذكر اسم الطفل:" حتى طفلي لم أفكر في ما سيعانيه بسبب غيابي، فالأفضل أن يعلم عندما يكبر أن أباه أخطأ حين خان، لكنه اختار الغياب على أن يواصل الحياة ذليلا مهانا..."(ص100). يتمثل هذا الغياب في مظهرين: مظهر الانفصال عن المؤسسة الزوجية على المستوى الاجتماعي، و الانفصال عن المجتمع على المستوى النفسي. يتجسد ذلك في الالتجاء إلى المقبرة كملاذ لخلاص سلبي:" فقط أنزل كل مساء إلى الشارع، و أجلس بزاوية يمر منها الناس، وأخرج من تحت أسمالي أشيائي و قنيناتي البلاستيكية و الزجاجية المملوءة بالماء و الكحول و الخمر إن وجد..."(ص156). هكذا، يفضي الإحساس بالذنب إلى تدمير الذات، خاصة بعد موت الأم كعضو ضامن لتماسك العائلة. و يصل الاغتراب إلى حدود تجليه في بنية المحكي، حيث تتداخل الأزمنة بمقتضى فعل التذكر، و الاستطرادات، و تذكير الراوي بأحداث نسيها، و التعليق على أحداث، و حكي بعض الشخصيات لبعض الأحداث، وكذلك تناسل الحكايات، حيث يحيل حدث على حدث آخر. مثال ذلك:" أتذكر الآن و أنا طفل صغير"(ص14)، حكي الآخرين:" و خاطب جمعنا قائلا:" سأحكي لكم قصة وقعت و كنت شاهدا عليها"."(ص76) ثم الاستطراد:"طفل جبلي جلس مع أبيه لأول مرة على جانب البحر..."(ص83( لكن يظل الزمن السيكولوجي التيار الناظم لفعل الحكي من حيث هو تجربة متوجهة إلى متلق مفترض في ذهن الذات الراوية. وهكذا فالبحث عن مسكنات هو اللجوء إلى البوح الذاتي كنوع من الهرب من واقع رفضه. و لعل هذه التقنيات المشار إليها هي ما يوسع من دائرة المتخيل الحكائي. ولئن جاء النص متمزقا في بنائه على المستويات الزمنية، فإن ما يضمن تماسكه هو مظهر الاغتراب الذي تعيشه جل الشخصيات المنتمية غلى العوالم السفلية. على سبيل المثال: العنطيز،و عزيوز،و طليقته،و بوبكر...الخ. " كلنا في هذه المدينة أصدقاء،و كلنا غرباء، بيننا علاقات ملتبسة تختلط فيها المحبة بالكراهية، والمنافسة بالحسد، والاحترام بالازدراء، و الحقيقة بالزيف. سلوك متناقض لكنه ميزتنا"(ص75). و إذ ينهض النص من معجم الخيبة و اليأس و محاولة الهروب من الواقع، فإن العجز عن التغيير يظل السمة الغالبة على الراوي:"هذا النوع من اليأس لا يدفع بي لوضع حد لحياتي عن طريق الانتحار، لكنه يجعلني غير قادر على فعل أي شيء من شأنه أن يغير نظرتي للحياة أو حتى إنهائها، أحسني متعبا، مغلولا الاستسلام."(ص106). هذا الاستسلام هو المشترك بين الشخصيات؛ يستسلم المعلم الخمار إلى قدره عندما يكتشف عدم بكارة ابنته، وتبيت أسرته دون أن تصبح و كأن الأرض ابتلعتها، لكون الشرف شأنا عائليا و ليس مسألة ف و منهكا"(106). ثم يقول:" لكن طول الطريق يضعف قوة الاحتياط و يعطل حاسة الخدر و يدفع بنا إلى رد. وهكذا تدفعه اللامواجهة إلى الاغتراب. و مثل محجوب الراوي، يفكر عزيوز في الانتحار، ثم يصرف النظرعن ذلك ويوثر الاستسلام المتجسد في النوم والحلم و الاستهتار: "عزيوز، ظل يحلم بالخاتم (السحري) كي يتحكم في سقوط المطر... كان يحلم بأن تكون في حائط بيتهم ثلاثة صنابير، واحد للحليب، و آخر للقهوة، والثالث للشاي و فرن للخبز الأبيض"(ص172).و عكس عزيوز الذي سيراوح مكانه، يهرب الراوي بحثا عن فرصة للخلاص إلى مكان مجهول:"خف الألم برأسين وطار السكر من عقلي، فتسللت في جنح الظلام إلى مكان آخر من فعلتي هاربا ، مخلفا ورائي مقابر مشتعلة"(ص175). هكذا، تفرغ الحياة من معناها أو بتعبير سارتر:" الحياة التي تخسر معناها هي نفسها وجود عدمي." وفقا لما سبق، يتشكل النص،إذن، كنص بسيكو-محكي(psycho-récit) يصف الحياة الباطنية للراوي في علاقته بالواقع، باعتبار أن الخيبة و اليأس المفضيين إلى الاغتراب هما المحفزان على التداعيات. و من ثمة إلى تشييد هذا المحكي التخييلي. إنه نص متوتر، قلق، سوداوي يسعى إلى مساءلة الذات عن جدوى الحياة عندما تصبح عاجزة عن اتخاذ موقف بهدف تغيير وضعها في سياق يحد من فاعليتها، كفرد فاعل و ليس كعضو خاضع لسلطة الواقع. و إذ يكشف النص عن هذا الخضوع و الانصياع، فإنما يروم ، من خلال تأويلهن التمرد عبر الكتابة الإبداعية كإحدى صيغ الحرية و حب الحياة. ولعل هذا ما دفع الكاتب إلى استهلال نصه باستهلال نصه باستشهاد للشاعر محمد الماغوط. تقول آخر فقرتين فيه :" أكتب للمطر للحب للحرية ... للربيع للخريف. أكتب لأعيش"(ص6). وهكذا، إذا كانت الكتابة فعلا ضد النسيان، فإنها من ثمة إعلان عن حب الحياة، وعن الصراع من أجل البقاء. ------------ أحمد لكبيري، " مقابر مشتعلة"، البيضاء، 2007. ? قدمت هذه القراءة خلال اللقاء الذي نظمته الجمعية البيضاوية للكتبيين، بمناسبة صدور الرواية، و ذلك في شهر أبريل2007 . وقد شارك في اللقاء إلى جانب الكاتب، الناقد محمد معتصم، والباحث عبد اللطيف حبشي.