لم يعرف الأدب المغربي نظيرا لجرجي زيدان ولا مثيلا لنجيب محفوظ ،لقد كان الإنتاج شبه الروائي المعنون :" وزير غرناطة" لعبد الهادي بوطالب (1)، أول محاولة مغربية في السرد الروائي ذي الطابع التاريخي (2) , وبصفته الإنتاج الوحيد لكاتب مهتم بالتاريخ فقد تضمن بالإضافة إلى امتياز السبق تعثره ، خاصة وأنه صدر في فترة كانت فيها التجربة الروائية المغربية تخطو خطواتها الأولى وهي متشبعة بالأنواع السردية العربية القديمة،كما يدل على ذلك أيضا العمل شبه الروائي لآمنة اللوه :"الملكة خناثة " الصادر سنة 1954(3) . 1- سياق الإنجاز لم تعاود الرواية التاريخية الظهور في الحقل الثقافي المغربي ، إلا في أواخر الستينيات من القرن العشرين مع "الثائر المهزوم" لأحمد عبد السلام البوعياشي (4) ، تلتها بعد عشر سنوات رواية " المعركة الكبرى" لمحمد أحمد اشماعو(5) ، وبما أن هاتين الروايتين لم تطورا أسلوب الكتابة التاريخية ، كان لا بد من انتظار صدور رواية "مجنون الحكم" لبنسالم حميش (6) في التسعينيات من القرن ذاته ، ليتجاوز النسق الأدبي المغربي أسلوب الرواية التاريخية التقليدية التي لم يكتب لأسسها أن تترسخ داخله، وذلك في سياق توظيف الروائيين المغاربة لآلية التدارك التي مكنتهم من تحقيق تحول نوعي سريع الإيقاع في تفاعله مع تحققات الفن الروائي العالمي والعربي على السواء .حيث "اتجهت الرواية -المغربية ? في أبرز نصوصها نحو الابتعاد الكلي عن المعيارية وعن افتراض وجود ماهية مسبقة وقارة لجنس الرواية . وغدت شعرية الرواية و جماليتها تنبعان من تضافر عناصر ومكونات من أبرزها : - تذويب الحدود بين الأجناس الأدبية واللاأدبية للإفادة من طاقات التعبير وإمكاناته في مختلف الأشكال والخطابات ، وهو الأمر الذي مكن من توسيع دائرة المرجعية التي هي منطلق التخييل وتعيد الرواية بنينتها وتأويلها جماليا . - إعادة التوظيف الإبداعي للموروث السردي العالم والصوفي والشعبي في محاولة لتوليد شكل روائي يعيد الاعتبار للذاكرة الجمعية أو لما هو منسي أو مقصي في مستوى الذاكرة الرسمية. - استدعاء المكونات السير-ذاتية في محاولة لإعادة اكتشاف الأنا وسبر العلاقات الغامضة للحياة الداخلية ولقلق الوعي الإبداعي وتوتراته "(7). هكذا استطاعت "مجنون الحكم "- وبخلاف النصين " وزير غرناطة" "والملكة خناثة " اللذين لفهما النسيان تقريبا و النصين "الثائرالمهزوم" والمعركة الكبرى " اللذين لم يحظيا باهتمام يذكر من قبل النقاد - (استطاعت) أن تنقش عنوانها في سجل الروايات العربية المتميزة في توظيفها للأسلوب التراثي في الكتابة الروائية بحصولها على جائزة الناقد إثر صدورها سنة1990 . وقد تعزز هذا الأسلوب بصدور رواية "العلامة " التي تتخذ من سيرة ابن خلدون موضوعا لها سنة 1997 (8) ، وهي نفسها السنة التي شهدت ولادة كاتب مغربي آخر تميز في مجال التخييل التاريخي: فالحداثة التراثية بلغت في نظر الناقد أحمد اليبوري نضجها في روايات أحمد التوفيق التي ابتدأها برواية "جارات أبي موسى".(9) وبما أن السؤال الذي نناقشه في هذا البحث هو سؤال حوار التاريخي مع الأدبي - الذي يندرج ضمن تداخل الاختصاصات والتفاعل بين الأدب والعلوم الموازية نرتئي محاولة الإجابة عنه بواسطة تتبع آليات وطبيعة هذا الحوار داخل الكون الروائي. 2- التفاعل النصي بين آليات التمديد والميتانص والتشخيص اللغوي 2-1 التمديد والميتانص تمثل" مجنون الحكم" و"العلامة" لبنتين أساسيتين في مشروع بنسالم حميش الروائي المتمثل في محاورة التاريخ من منطلقين: - منطلق المعرفة بوجود نقاط تماس بينه وبين الرواية ، من جهة انفتاح التاريخ على مختلف الأجناس و الأنواع و الحقول المعرفية علمية و فنية، ومن جهة كون الرواية فنا زمنيا أي تاريخيا بامتياز. - و منطلق الوعي بحدود الكتابة التاريخية وبسلطة الكتابة الروائية بصفتها ذاكرة مفتوحة تغوص بواسطة التخييل، الذي يتأسس على منطق الإحساس والتبصر والذاكرة والتجربة والمعيش(10) ، في المناطق التي لا قدرة للمؤرخ على الغوص فيها أو التي لا ينتبه إليها وهو يتعلق بالحقائق العامة دون الاهتمام بالجزئي والهامشي كما ذهب إلى ذلك أرسطو. والجدير بالذكر أن بنسالم حميش وهو يحاور في الروايتين معا نصوصا وأعمالا سابقة عنه بقصد توليد دلالات جديدة في سياق زمني مختلف ، سلك نهجين مختلفين بقدر ما يشير اختلافهما إلى تقدمه في اكتساب الصنعة الروائية بقدر ما يؤكد عزمه في رحلة تطوره على إغناء الفن الروائي المغربي عبر التوظيف الإبداعي للتراث . ويمكن الوقوف على هذا التطور بداية ? وهو لا يخلو من تكرار بعض الثغرات التي سبق للنقد أن توقف عندها في تناوله لمجنون الحكم من قبيل ضعف المستوى الدرامي في بعض الفصول - انطلاقا من المناص الخارجي الذي يمثله التحديد الأجناسي في العملين، حيث حرصت "مجنون الحكم " على تقديم نفسها للقارئ بصفتها رواية في التخييل التاريخي في سبيل لفت الانتباه إلى باكورة مشروع روائي مغربي تطمح إلى أن تندرج ضمن قائمة الأعمال العربية التي "توسلت بالتاريخ لتشييد التجربة التخييلية و لإثراء قيمها الرمزية ، والبحث عن إمكانات لنحت طرائق مستجدة في السرد والكتابة الحكائية " (11)، في حين اكتفت " العلامة " ?وهي مسنودة بأصداء "مجنون الحكم" في المشرق والمغرب- بتقديم نفسها على أنها رواية مراهنة على العنوان التراثي : "العلامة" لإحالة القارئ المطالب بالمشاركة في إنتاج المعنى على ضرب الإبداع . 2-1-1 اعتمد حميش في رواية "مجنون الحكم " على مصادر تاريخية عديدة لتجميع صورة الحاكم بأمر الله ومن بينها : "الخطط" للمقريزي ، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان و"بدائع الزهورفي وقائع الدهور" لابن إياس و"صلة أوتيخا" ليحيى بن سعيد الأنطاكي،و" النجوم الزاهرة" لابن تغري بردي، وهي في المجمل مصادرمعارضة للدولة الفاطمية ومتأخرة عن حقبتها اختارها حميش مرجعا له على إثر البحوث التاريخية التي قام بها قبل كتابة الرواية حول الحاكم بأمر الله وحول العهد الفاطمي تعميما كما صرح بذلك. (12) وقد صدر كل فصل من فصول الرواية المعنونة بشكل تراثي (الباب الأول : من طلعات الحاكم في الترغيب والترهيب ، الباب الثاني : في المجالس الحاكمية...) ، بنص تاريخي ? وأكثر- مواز يتفاعل بصفته خطاب التاريخ مع خطابات متعددة : الخطاب الديني (القرآن الكريم والحديث)، وخطاب الأصوليين والمتكلمين والفلاسفة والتصوف والمثل والشعر ومحكي الذاكرة الشعبية كما يمثل لذلك هذا النص: ونظرت ست الملك في أمور الدولة بعد قتل الحاكم أربع سنوات ، أعادت الملك فيها إلى غضارته ، وعمرت الخزائن بالأموال ، واصطنعت الرجال (...) (ابن الصابئ ، كتاب التاريخ ،المذبل به على تاريخ ثابت بن سنان) ...هكذا تولد لدى ست الملك عزم عارم على طلب الإنقاذ والخلاص ، مدفوعة في ذلك برؤى منامية: كانت تظهر لها فيها فاطمة الزهراء، وهي توصيها بدولتها خيرا ، وتقول بالتوصية إلى أن يطل الفجر بسدوله الذهبية ، فتغيب في الأفق المشتعل بالتباشير ، مخلفة في ثناياه حزامها المقدس (الرواية ص 213 -219) إن التركيزعلى طريقة تفاعل النص الروائي إجمالا مع النص التاريخي الذي يحيل عليه خطاب العتبات، سيؤدي بالقارئ ولا شك إلى أن يستنتج بأن النظام الذي اختطه حميش في توظيفه للتاريخ تخييليا نظام يقف أساسا على آلية التمديد . وبهذا المعنى تعتبر" مجنون الحكم" فصولا " تقوم بتوسيع العتبات (النصوص التاريخية) حكائيا ودلاليا ، بينما شكلت العتبات بنية اختزالية لعبت دور خلفية حكائية مصاحبة لفصول الرواية " (13). إلا أن رواية" مجنون الحكم" إذا كانت بالفعل مشدودة إلى "وقائع التاريخ " كما أوردتها الكتب المعتمدة حيث يغيب الميتانص الذي يسائل هذه الكتب وينتقدها، فإنها في المقابل لجأت إلى توسيع هذه المادة حكائيا استنادا الى آلية التوليد من خلال الاستعانة بالافتراض التاريخي بما يتلاءم ومنطق الحكي, وقد ملأ حميش بواسطة هذه الآلية فراغات التاريخ وسود بياضاته لتكتمل صورة الحاكم بأمر الله- كما صورت أهم أجزائها المصادر التاريخية- في علاقتها بظروف الرعية التي نبشت فيها الرواية: وكان سبب بغي الحاكم في جميع ما يقصده من هذه الفعال العجيبة ? المتضادة التي تقوم في نفسه ويفعلها شيئا بعد شيء ? صنف من سوء المزاج في دماغه ، أحدث له ضربا من ضروب المالنخوليا وفساد الفكر منه منذ حداثته. (...) واحتاج في مداواته منه ? مع ما كان يعالج به ? إلى جلوسه في دهن البنفسج وترطيبه به " ( يحيى بن سعيد الأنطاكي ، صلة تاريخ أوتيخا) (..) في ليلة من ليالي صيف سنة تسع وتسعين وثلاثمائة ، كان الحاكم يقيم في منزل خلوته بمنظرة السكرة ، وقد لبى نصيحة طبيبه النصراني بن نسطاس بالجلوس في جفنة ذهن البنفسج وشرب النبيذ (..) هذا الليل الصيفي لا يميزه من حيث الظاهر شيء عن باقي ليالي الفصل (...) لا تألق لهذا الليل ولا تعريف له إلا بحال الحاكم وفي معجم إدراكه وفيض الخطرات القهرية عليه : (..) قضية القضايا: تغيير الدنيا . محبة التغيير : الاندفاع نحو فك الارتباط بين الذات والقمع والخصاصة (الرواية ص61-62-66) استنادا إذن إلى هذه الآلية التي استعانت بأهم خصائص الرواية الحديثة التي تتأسس على : حوارية الأصوات والخطابات والأشكال والنصوص ، وبواسطتها أيضا "أعطيت الأولوية للنص الروائي على التجربة التاريخية " وتم تحويل بنية الرواية إلى بنية إنسانية تتخطى الحدود القومية الضيقة وتصل الحاضر بالماضي بتركيزها على بنية زمنية معقدة سمحت بالترهين الايديولوجي لموضوعة السلطة. 2- 1-2 الميتانص في رواية "العلامة" يذهب الكاتب بعيدا في تفاعله مع النص التراثي بتوظيفه لآلية الميتانص التي خولت له تطعيم الشكل السيري العربي القديم بخصائص الشكل السيري الحديث وإغناء هذا الأخير في المقابل ببعض تقنيات كتابة الشكل الأول، كما خولت له الدخول في نقاش مع آراء ابن خلدون التاريخية ومواقفه اتسم بالنقد تارة وبالتبرير تارة أخرى. حيث حاورت الرواية التراث من زاويتين متلاحمتين: زاوية الشكل السيري الذي يغيب في اهتمامه بالوقائع العامة الحياة الخاصة والحميمية للفرد، وزاوية الوقائع والأفكار و المواقف . - 2-1-2-1 بين ضمير الغائب الذي يمثل الصوت السردي في الفصلين الأول والثالث وضمير المتكلم الذي يسترد فيه ابن خلدون سلطة السرد وفق رؤية معاصرة في الفصل الثاني والتذييل ، يجد القارئ نفسه بين نسقين ثقافيين متفاعلين من خلال جنسين مختلفي الجوهر : السيرة العربية القديمة بما هي ترجمة حياة شخصية هامة وتقديم صورة عن العصر كما يمثلها كتاب "التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا" لعبد الرحمن بن خلدون (14)، والسيرة بمفهومها الغربي الحديث المتجدد. والجدير بالذكر أن هذا التفاعل لا يسمه التوتر الذي وسم الكتابات المغربية الأولى التي كانت تتلمس طريقها نحو كتابة الرواية وهي ممتلئة بالأساليب التراثية (15)، وإنما تطبعه الإنتاجية التي تنبني على تلاقح الجنسين بفضل طاقة المخيلة التي ابتدعت كاتب الإملاءات حمو الحيحي محاورا لابن خلدون كما ابتدعت قبله الخادم. إن الفصل الأول الذي وصفه الناقد صلاح فضل بالركود في مجمله لتقلص مساحة المتخيل فيه وخلوه تقريبا من الأحداث والواقعات (16) ، فصل يؤسس رغم ثغراته لعملية التفاعل الإبداعي مع التراث على مستوى الهندسة المعمارية للرواية أولا من خلال التناص مع كتاب الليالي مثلا الذي نستنتجه من تقسيم الفصل إلى ليال علمية سبع تسترد حقها في امتلاك زمن خاص بها في مقابل الزمن الغربي (ليلة متم صفر ،ليلة متم ربيع الأول،ليلة متم ربيع الآخر،ليلة متم جمادى الأولى .....)، وعلى مستوى الخطاب ثانيا عبر الميتانص الذي تمثله الانتقادات التي تستحضر كتابات سابقة و تتضمن أحكاما وتأملات خاصة بابن خلدون . ففي هذا الفصل - الذي يتم فيه ابتداع حمو الحيحي الذكي استنادا إلى اختلاف رحلة ابن خلدون شرقا وغربا عن رحلة ابن بطوطة التي كتبها ابن جزي - تمثل عملية انتقاد المغالاة و الطابع العجائبي في رحلة ابن بطوطة حيلة سردية مكنت من إجراء حوارما بعد- حداثي مع نص السيرة العربية التراثي الذي يركز- ابتداء من عهد الطفولة ? على عاملي الجد والصرامة في العمل والحياة ، وذلك بجعل ابن خلدون يقر بدور الهزل المقنن وبأهمية الحلم . مما أدى إلى نسج علاقات إيجابية بين الواقعي واللاواقعي ،أفضى في النهاية إلى استبدال صورة "الكائن الدماغي" التي يثبتها كتاب " التعريف" بصورة كائن بشري باستيهاماته وأحلامه العجيبة : سجل علي يا حمو هذه اللطيفة ، سجلها حتى لا يظن أني من وجوه العلم الكالحة المتشنجة ، أو من الذين يفكرون بطرق دائرية أو مربعة ، ولا يدركون الوجود إلا في ظل المعادلة وهيمنة الأرقام . سجل أني لا أنفر من الحكايات الممتنعة، ولا أشهر باستحالة مدلول لفظها إلا حين أراها مؤثثة أمهات المصادر في التاريخ (....) سجل أني حلمت مرات نائما أو يقظا ، بالزرزوروقد حلت روحي فيه ،فطارت حاملة الزيتون تلو الزيتون إلى أفواه البطون الجائعة على امتداد بلادي(...) سجل كذلك يا حمو أني في بعض ساعات تصدعي وتحسري أجلس حذاء البحر، فتتكاثف في ذهني استيهامات تفضي بي إلى تابوت زجاجي، فترسلني إلى قاع المياه ....." (الرواية، ص33-34) بخلاف السيرة العربية القديمة إذن - وهي تقوم على مبدإ المفاضلة الذي يحيط صاحب السيرة بهالة من التقديس - تركز رواية "العلامة "بواسطة إعادة النظر في بعض آراء ومواقف ابن خلدون على الأنا المختلف الذي لا ينفي تميزه ضعفه الإنساني : حرك يدك إذن بهذا الاستدراك : حقا ، رغبت دوما أن أتعمق في معرفة الواقعات والمادة التي للأشياء ، وأرصد سنن التبدل والانقلاب ، لكن، في المقابل ، كم مرة كبوت وتسطحت . -مثلك، يا معلم ،يكبو ويتسطح؟ - لا تقاطعني يا حمو، وسجل أني ابن عهدي على أي حال (....)مجمل القول ، يا حمو، أني في المعرفة ذو أخطاء وفي السياسة كمن يكثر الحز ويخطئ المفصل ، ولا كمال لمن انتمى إلى زمن أفسد من السوس (ص44-51) ولعل من أهم العناصر التي تسند الشخصية الروائية الحديثة في تميزها، إرادتها الفردية بعيدا عن عامل النسب الذي يؤكد عليه كتاب السيرة العرب ومن بينهم ابن خلدون في تعريفه : نسبه: عبد الرحمن ابن محمد بن محمد بن محمد ابن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم ابن عبد الرحمن بن خلدون .... ونسبنا في حضرموت من عرب اليمن إلى وائل بن حجر من أقيال العرب معروف وله صحبة ......ولما دخل خلدون بن عثمان جدنا إلى الأندلس ، نزل بقرمونة في رهط من قومه حضرموت ونشأ بيت بنيه بها، ثم انتقلوا إلى اشبيلية.(التعريف ، ص9-10-12) و قد ناقش حمو الحيحي ابن خلدون في أهمية عامل النسب من منطلق ذكي يقر للعلامة بنسبه في ذات الوقت الذي يعلي فيه من قيمة قدراته الشخصية على حساب النسب ، مما جعل ابن خلدون في الرواية يلجأ إلى تبرير موقفه طاعنا في تباهي كتاب السيرة بأنسابهم: "لا أحاجج في أنك حضرمي منسوب إلى جد من أقيال العرب، هو الصحابي وائل بن حجر.... ولكني أفترض جدلا أنك ولدت بغير ذلك النسب العريق، لا شجرة تظللك ، ولا جذور توثقك ، فهل كنت ستفقد شيئا في القدر العميق، أو في الطاقة والجدارة ؟" ... " قيد أني في مدخل التعريف إنما ألمعت إلى شجرتي من باب التذكير بقول النسابين الثقات فيها ، وليس للتبرج والمباهاة أو لجر أذيال الخيلاء .و كيف أفعل هذا وقد كتبت بالقلم الأجلى تبدل الخصال في الأعقاب ، وبالقلم الأعلى الغليظ :( البيت والشرف بالأصالة والحقيقة لأهل العصبية ويكون لغيرهم بالمجاز والشبه) " .( ص52) إلى جانب عامل النسب حاورت الرواية السيرة العربية في تركيزها على هالة العالم الأستاذ الذي يملك الحقيقة ولا ينازعه فيها طلبته : فكنت لا أنهي درسا إلا [لاحظتني بالتجلة والوقار العيون ، واستشعرت أهليتي للمناصب القلوب ، وأخلص النجي في ذلك الخاصة والجمهور] . أما في متوسط الأسبوع المنصرم ، فقد برز لي بين حضور الطلبة رجلان غريبان لم أرهما في حلقتي من قبل ، فتناوبا على مناوشتي بالأسئلة المستفزة ...". (ص94 ) ومن الملاحظ أن السمة البارزة في محاورة الرواية لسيرة ابن خلدون هي سمة التدرج الذي سيفضي في النهاية إلى الانغماس في حياته الجوانية، وخاصة في الفصلين الثاني والتذييل. فإذا كان صحيحا أن حضورحمو الحيحي في الفصل الأول ساهم في الكشف عن بعض الجوانب النفسية لا بن خلدون التي كان يشير إليها باقتضاب متكرر في كتاب التعريف - وخاصة ما تعلق منها بأثر فقدان أهله وهو في السادسة عشر من جراء تفشي مرض الطاعون في تونس ،وبأثر فقدان أسرته غرقا وبالرعب الذي أحس به وهو يحاذي السلاطين ( الرواية ، ص 105) - فإن موته بعد أن أدت حياته وظيفتها سمح بالغوص في دواخل ابن خلدون عندما تسلم الحكي في الفصل الثاني مسلطا الضوء بضمير المتكلم على علاقته بزوجته و بالحكام ، معليا من قدر سلطة الحب الذي يضمد جراح تسلط الحكام وجورهم: أمام ما يحدث لي، نفسي اعترتها حالة أسميتها تدقيقا سكر الافتتان . مفتون أنا بزوجتي الحلال وبما يحيط بها ،مفتون بغليان الدم في شراييني وانتعاش خلاياي ، مفتون بآيات الجمال أينما تجلت : في ابتسام الأطفال ، وتغريد الطير و هبوب الأنسام على الروح الظمأى وكل الأجسام . (ص160) (...) دثريني، يا أم البتول دثريني .البرد والحمى يتناوبان علي بالشر . أعدي ما شئت من الأعشاب ، داويني بها حتى أحيا وأرى انحلال عقدتي في ما يأتي . السحب من حولي ملبدة دكناء ، وسواء تكاثفت أ م انقشعت ، فالأمران عندي سيان . لا بد في آخر المخاض أن أؤدي ثمن التوقيع أو ثمن التردد في التوقيع، إما سجنا وإما عزلا عن الوظائف كلها . وجميع الاحتمالات المفجعة تبقى واردة ...(ص202-203) استنادا إلى الأمثلة الدالة أعلاه نستنتج أن السيرة الغيرية "العلامة" لا تنبني على المعارضة التي يتوخى منها استبدال نوع بآخر،وإنما على عملية التطعيم الواعية بغنى أساليب الكتابة القديمة منظورا إليها بعين حداثية . 2-1-2-2 وقد جاء الترهين السردي لشكل تراثي في العلامة موازيا للترهين الايديولوجي لأحداث العصر الوسيط التي اقتطع منها حميش ما يقارب عشرين سنة من حياة ابن خلدون بالقاهرة - منذ ولايته قضاء المالكية سنة786 ه إلى وفاته سنة 808 ه ? وقد تم هذا الترهين بواسطة : أ-عملية الاستشراف التي تساند عمليات الاسترجاع في تكسير وتيرة السرد، ونخص تلك الاستشرافات التي تتنبأ بمآل الأمة العربية الإسلامية بعد قرون من وفاة ابن خلدون، مؤكدة "الزمنية المنتكسة" التي من خلالها يمكن التفكير في القرن الثامن الهجري " كوعاء لآثار مستديمة ودالة ،أو كدليل" أركيولوجي " تحتوي معالمه عمقا تاريخيا من حيث إنها تظهر وتعمل في زمن متواتر أو ذي ديمومة مديدة " (17) : توقعاتي- سحقا لها ?لا تبعثني على التفاؤل والاستبشار، وأنا أعاين من الأحداث وأتلقى من الأخبار ما ينذر بالسوء ويوطنه أمدا بعيدا . أرى موانئنا عرضة للاحتكار البراني ، ومناطقنا الحيوية سهلة على التغلغل الإفرنجي ، وأرى التشرذم بيننا مستفحلا والعجز متفشيا ، فينكسر قلبي وأطلب اللطف من الرحيم الجبار. ( الرواية ،ص81) ب- تداخل صوت السارد الموازي لصوت الكاتب مع صوت العلامة في مقاطع كثيرة ، من بينها المقطع الذي تقول فيه الشخصية : هأنذا أقضي ما شاء الله من الأوقات وجها لوجه مع المفارقة الأليمة :مجتمعات لا تستفيد أي تقدم ذي بال من توالي الأزمنة وتعاقب الأجيال , والعمران الحضري يقوم ، من جهة ، كمعنى لحياة التاريخ ، ومن جهة ملازمة كميدان يتلاشى فيه هذا المعنى وينكسر . ( الرواية ،ص 83) ومن الملاحظ في هذا السياق أن آلية الميتانص التي تحضر بقوة في محاورة الرواية لبعض تقييدات ابن خلدون وآرائه التاريخية وأحكامه ،تغيب عندما يتعلق الأمر باستحضار علاقته بالسلاطين التي تلجأ الرواية في إعادة إنتاجها إبداعيا إلى أسلوب التبرير حينا وإلى تحوير الوقائع عن مجراها حينا آخر. لقد حرصت الرواية على تسليط الضوء على قيمة ابن خلدون العلمية وسبقه المعرفي التاريخي ، دون السقوط في تقديسه وتنزيهه من بعض أوجه التقصير العلمي والخطإ البشري ومردهما في الغالب إلى: - تغلب العاطفة على العقل : ففي باب المثالب، الذي أخصص الإملاء فيه ، كم تركت العاطفة تتلف عقلي ،وتعمي بصيرتي أمام الواقع .....ففي مقطع من مقدمتي-أتمنى حذفه- أرمي تلك الفرق (يقصد الفرق المسيحية) كلها بالكفر وأقول بالحرف: [ لم يبق بيننا وبينهم في ذلك جدال ولا استدلا ل، إنما هو الإسلام أو الجزية أو القتل] . كلام في غير وقته ولا سياقه يا حمو، كلام أشبه ما يكون بمنطق العاجز المتنطع"(الرواية ،ص44-45) - الاستجابة لدعوة سياسية: أماذنبي البليغ ، فقد اقترفته في بعض كلامي عن صوفية أبرار . لذا يحق من يقول إن رسالتي "شفاء السائل" عمل فج هزيل ، محكوم باستجابة لدعوة سياسية إلى مناهضة فشو التصوف الشعبي والزوايا ، وإلى تقرير شروط كل مريديه داخل حدود التعليم والتربية السنية السائدة" ( الرواية ،ص 46) - عدم توفر الشروط و الوسائل : ومع مرور الأيام والليالي ،غلب على نفس العلامة شعور بأن محاولة الإحاطة علما بتاريخ المغول غدت أشبه ما تكون بالغوص في مستنقعات لا ساحل لها .كثرة شعوبهم وقبائلهم ، اختلاط أنسابهم وتشابكها ، شساعة أراضيهم وتشعبها ، كل ذلك صار يجلب له الدوار ، ويصيب رأسه بالشقيقة ......عالم لا يمكن سبرأغوار مادته وشاراته إلا بالانقطاع له وتقليبه بتعميق الدرس وإجراء العيان . وهذا كله يستوجب ما لم يعد في عريكة العلامة : الفتوة والشوق والحماس. لهذا فصفحاته عن المغول ستكون لا ريب متواضعة ،بل ستكون أحيانا ضعيفة أو مضطربة. ( الرواية ،ص232-233) إلا أن تمرير خطابات راهنة على لسان ابن خلدون بخصوص علاقة المثقف برأس السلطة ، أدى إلى سيادة التبرير على النقد . وقد مهدت الرواية لتبرير علاقة العلامة الغريبة بالسلطة ومن ثمة تحوير بعض الوقائع التاريخية بالاستخفاف بأطماع ابن خلدون السياسية -التي تحدث عنها صراحة في" التعريف" رادا إياها إلى "طغيان الشباب" (ص91) - في مقابل التأكيد على طلبه للعلم: لم يكن عبد الرحمن متمرسا بأفانين السعايات والكيد ، ولا ذا باع في أساليب التآمر والنصب ، لأنه لم يغرق قط في سياسة وقته حتى الأذقان، ولم يقبل في المعرفة بضعف البضاعة وهزل الزاد . ( الرواية ،ص 7) وهكذا بأرت الرواية نزاهة ابن خلدون في القضاء- المؤكد عليها في التعريف(ص272-273-274-275..........) وفي تراجم معاصريه - وهويعيش محنة الوقوف بين " حد ين قاطعين :حد أحكام الله وواجب تطبيقها بما يرضاه الشرع والمذهب ، وحد السلطة الزمنية المتعبدة بمواقعها ومصالحها المخصوصة " (الرواية،ص8)،واتكأت في المقابل على الفساد السياسي العام وسيادة الاستبداد لتبرير علاقته بالسلاطين التي اتسمت تعميما بالتفنن في أساليب كسبهم اتقاء لشرهم أولا واستعانة بهم ثانيا على شر خدامهم المناهضين لأحكامه القضائية العادلة وذلك عن طريق الهدايا و الشعر والدعاء وتزوير الكلام بما تطيب له نفس السلطان والتلطف بتعظيم أحواله وملكه (التعريف،395) : ".... مولانا السلطان الملك الظاهر ، العزيز القاهر ، العادل الطاهر، القائم بأمور الإسلام ..".( التعريف، ص306) تقول الرواية: السياسة عندنا مهلكة وأي مهلكة ، وميتمة وأي ميتمة . انظر إلى كتاب العبرأو إلى تاريخ غيري تر كيف تكثر فيها الفصول والسرود حول نهايات الرجالات من أمراء ووزراء وأعيان وقواد وعلماء . زماننا ، زمان القسوة البليغة ، يحفل حقا بوفرة الوسائل في التعذيب والبطش ، من ذبح وتغريق وطعن وبعج وخنق وتسميم وتقطيع الأعضاء وحز الرؤوس " (ص107) وقد و صل هذا التبرير إلى درجة تحوير الوقائع عند التطرق لعلاقة ابن خلدون بالطاغية تيمور بما يشبه دفاعا مبطنا عن ابن خلدون. ويتجلى هذا التحوير أساسا في تقييد العلامة حول المغرب الذي أمره به الطاغية تيمور المتشوق إلى معرفة أسرار هذا القطر . ففي" التعريف" يذكر ابن خلدون صراحة - بعد الحديث عن الخوف الذي انتابه في حضرة الطاغية من احتمال سوء المصير- أنه استجاب فورا لطلب الطاغية ونفذ ما أمره به : ... فقال : ... أحب أن تكتب لي بلاد المغرب كلها ، أقاصيها ، وأدانبها، وجباله، وأنهاره ، وقراه ، وأمصاره،حتى كأني أشاهده، فقلت يحصل ذلك بسعادتك ، وكتبت له بعد انصرافي من المجلس لما طلب من ذلك ،وأوعيت الغرض فيه في مختصر وجيز يكون قدر اثنتي عشرة من الكراريس المنصفة القطع ". (التعريف ، ص394-395) ولعل الإحساس بفداحة الفعل الذي كان وراءه الخوف من بطش الطاغية ، هو الذي جعل ابن خلدون يكتب لصاحب المغرب فور عودته إلى مصر كتابا تحذيريا في جوهره يخبره فيه بلقائه بتيمور-دون ذكر تقييده عن المغرب- ويعطيه صورة عن الخطر التتري الداهم. (التعريف ، ص406-407-408) أما في الرواية فإن العلامة يماطل في التسليم بل ويتلاءم على تيمور عن قصد في تقييده حماية للمغرب من أطماعه، التي فطن إليها بداية من إلحاح الطاغية في السؤال : حين رجع العلامة إلى مأواه واختلى بنفسه، عاوده القلق الشديد من انقطاع أخبار أسرته عنه، .... وأدرك أن بدء الخلاص من تيمور يكمن في تلبية طلبه تقييدا في وصف المغرب .وهكذا عكف أياما على تحرير التقييد مركزا على وعورة أراضي القطر وشدة ساكنيه ، لعله بهذا يطرد من ذهن الطاغية فكرة اجتياح المغرب وإلحاقه بالممالك المغولية الشرقية الشاسعة ". ( ص308 309-) الهوامش 1-صدرت سنة 1950عن مطبعة الاستقامة. 2- أما بالنسبة للسرد القصصي ذي الطابع التاريخي فقد برز اسم عبد العزيز بن عبد الله بقصصه التاريخية القصيرة التي كانت تتطلع إلى جنس الرواية ما بين 1949و1950: "الجاسوسة السمراء" و "شقراء الريف "و "غادة أصيلا و"الرومية الشقراء" و "الجاسوسة المقنعة". 3-حازت على جائزة المغرب للآداب سنة 1954 4-صدرت عن مطبعة كريماديس بتطوان سنة 1968 5-صدرت سنة 1978 عن مطبوعات دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر بالبيضاء. 6-صدرت سنة 1990 عن دار رياض الريس بلندن. 7- عبد الحميد عقار: واقع التجربة الروائية بالمغرب ، ضمن ملتقى الرواية المصرية المغربية الثاني ، المجلس الأعلى للثقافة ، سنة 2000 ، ص37 8- اعتمدنا في هذه الدراسة على الطبعة الجديدة المزيدة والمنقحة الصادرة عن مطبعة المعارف الجديدة سنة 2006 . 9- أحمد اليبوري:الكتابة الروائية في المغرب (البنية والدلالة)،المدارس،ط 1، 2006 ص20 بالنسبة ل"جارات أبي موسى" ، اعتمدنا على الطبعة الرابعة الصادرة عن مطبعة القبة الزرقاء سنة2008 10- انظر في هذا الشأن محمد برادة : الرواية ذاكرة مفتوحة ، دار آفاق ، القاهرة ، 2008 11- محمد علوط : الرواية العربية وتخييل التاريخ، الثقافة المغربية ، س1 ، ع 4 ، ص 28 12- بنسالم حميش :ثقافة الرواية (شهادة)، مقدمات ، ع13 ،1998 ، ص 24 13- انظر :عبد السلام أقلمون :الرواية والتاريخ ، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة ، اشراف ذ. أحمد اليبوري وذ. محمد مفتاح ، جامعة محمد الخامس ، 2001- 2002 14- دار المعارف للطباعة والنشر ، سوسة ?تونس ، 2004 15- نخص بالذكر مثلا الزاوية للتهامي الوزاني ووزير غرناطة لعبد الهادي بوطالب 16- صلاح فضل :العلامة في القاهرة ، ضمن العلامة ، م.س.، ص 346 17-بنسالم حميش : الخلدونية في ضوء فلسفة التاريخ ، المجلس الأعلى للثقافة ،2006، ص20-21